قد تكون اللغة العربية التي كتب بها المفكر المصري زكي نجيب محمود، واحدة من أنقى ما كتب به أي مفكر عربي على الإطلاق. ومن هنا لم يكن غريباً أن يصفه عباس محمود العقاد بـ"أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء"، ومع هذا كان صاحب "مجتمع جديد أو الكارثة" و"تجديد الفكر العربي"، واحداً من أبعد الكتاب العرب عن اللجوء إلى ما يسمى "حديث الذات". ومن هنا نراه حتى حين أراد أن يكتب سيرته في مرحلة متقدمة من حياته، يستعير من أستاذه طه حسين استخدامه ضمير الغائب في روايته تفاصيل تلك الحياة، بل حتى مجريات فكره فيسمي بطله، كما يفعل طه حسين "صاحبنا". بل هو لم يكتفِ بهذا، حيث نجده حين أراد وبشكل مبكر أن يعطي صورة ما لأفكاره وتطلعاته الاجتماعية، يلجأ في كتاب صغير له عنوانه "أرض الأحلام" إلى استعراض وتحليل أربعة من تلك الكتب العالمية التي تتعامل مع مفاهيم المدينة الفاضلة، واصفاً من خلالها الصورة المثالية للمجتمع الذي سيشغل باله وكتاباته لاحقاً ويكرس له عدداً كبيراً من كتبه الأساسية.
حكايات "صاحبنا"
وعلى هذا النحو مثلاً، وفي عودة إلى سيرة حياته، نجد زكي نجيب يوفر على الباحثين ضروب العناء، حيث وضع، خلال فترتين متمايزتين من حياته كتابيه الشهيرين "قصة نفس" و"قصة عقل"، وهما يرويان سيرته، ويختص ثانيهما بميزة كونه واحداً من الكتب النادرة في تاريخ الكتابة العربية، التي تصف التكون العقلي والفكري لصاحبها بصرف النظر عن مسار حياته وتقلباتها. وفي الحالين معاً كان من الواضح أن هذا الكاتب أراد أن يسير على خطى العديد من مفكري العالم السابقين عليه من الذين، إضافة إلى الحرج الذي يستشعرونه في الكتابة عن أنفسهم بلغة الـ"أنا" يرتاحون أكثر حين يبتعدون عنها، فلخص حياته من خلال حياة "صاحبنا" كما لخص كل أحلامه وأفكاره من خلال استعراضه "يوتوبيا" توماس مور ونصوصاً مشابهة لـ إتش. جي. ويلز وبتلر وغيرهما... وهو كان يرى بالتأكيد أن تلك المواربة سوف تكون أكثر جدوى في مجال توعية قرائه وتنويرهم. والحقيقة أن هذين العنصرين، الوعي والتنوير، كانا دائماً ما يشغلانه. وحتى حين وجد لزاماً عليه أن يكتب سيرته ذات يوم.
تستحق أو لا تستحق؟
في جميع الأحوال كان زكي نجيب محمود يصر دائماً على أن حياته لا تستحق أن تروى، فهي كانت "حياة من دون مغامرات ومن دون مفاجآت": تعلم باكراً ثم درس في المدارس الثانوية، ثم التحق بالجامعة المصرية قبل أن يرسل في بعثة إلى إنجلترا حيث كان احتكاكه الأساسي بالفكر الغربي الذي اهتم به كثيراً وكتب عنه العديد من الدراسات، وذلك قبل أن يكتشف غنى التراث الإسلامي وحقيقته في مرحلة لاحقة من حياته، فيقف عند لحظة انعطافية من تلك الحياة، وقفة تأملية أحدثت لديه انقلاباً فكرياً خطيراً عبر عنه بقوة في مقدمة "تجديد الفكر العربي" على أي حال، حيث يقول، بعد أن يروي، ودائماً كعادته عبر استخدام ضمير الغائب متحاشياً أي إشارة إلى ذات الكاتب، كيف أن "كاتب هذه الصفحات لم تكن قد أتيحت له في معظم أعوامه الماضية فرصة طويلة الأمد تمكنه من مطالعة صحائف تراثنا العربي على مهل، فهو واحد من ألوف المثقفين العرب الذين فتحت عيونهم على فكر أوروبي- قديم أو جديد- حتى سبقت إلى خواطرهم ظنون بأن ذلك هو الفكر الإنساني الذي لا فكر سواه"، مضيفاً كيف "أخذته في أعوامه الأخيرة صحوة قلقة، فلقد فوجئ وهو في أنضج سنيه بأن مشكلة المشكلات في حياتنا الثقافية الراهنة ليست هي: كم أخذنا من ثقافات الغرب، وكم ينبغي لنا أن نزيد (…)، وإنما المشكلة في الحقيقة هي: كيف نوائم بين ذلك الفكر الواحد الذي بغيره يفلت منا عصرنا أو نفلت منه، وتراثنا الذي بغيره تفلت منا عروبتنا أو نفلت منها؟".
أفكار مهيمنة
ويقيناً أن هذه الأفكار هي التي تهيمن ليس فقط على كتابات زكي نجيب محمود الفلسفية والفكرية بصورة عامة، بل تقف كذلك في خلفية مؤلفات بالغة الأهمية وضعها من خلال احتكاكه المباشر بالفكر الغربي سنوات دراسته، ومن أبرزها "حياة الفكر في العالم الجديد" ثم "المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري"... لكنها تقف أكثر من هذا في خلفية الاستنتاجات، "العربية" الخالصة التي نراه يتوصل إليها من دون إعلان ذلك بصورة مباشرة، في "أرض الأحلام" حيث من الواضح أن ما كان يهم زكي نجيب محمود هنا، ليس متعة القراءة والمعرفة الموسوعية من خلال استعراض بعض أبرز كتب "اليوتوبيات" في تاريخ الفكر الإنساني، بل رسم عوالم يمكن قارئه العربي أن يطلع عليها إن هو شاء "النضال من أجل مجتمع جديد" درءاً للكارثة التي ينذره الكاتب بأنها ستحل به وبمجتمعه إن هو لم يفعل!
وفي السياق نفسه سرعان ما سوف ندرك، إذ نجدنا في مواجهة الكتابين الآخرين اللذين نتحدث عنهما هنا والحاملين قصة النفس وقصة العقل، أن الكاتب لا يتوخى مجرد إمتاع قارئه بإخباره كيف عاش سنواته الأولى، وكيف تطور فكره أولاً في بلده وبعد ذلك، في بلاد الآخرين حيث درس جامعياً، ولكن مجتمعياً أيضاً، متنقلاً بين المتاحف والأفكار، بشكل كان فيه نوع جديد من التحريض على الوعي والتفكير. فمن حكاية "صاحبنا" هنا أراد زكي نجيب محمود أن يوصل نوعاً من العدوى إلى قارئه واضعاً إياه على تماس مباشر مع حضارة شاء له أن يقترب منها فتثري فكره وحياته كما كانت الحال مع "صاحبنا" نفسه. وهكذا حتى في هذه الكتب التي تبدو للوهلة الأولى ذاتية وصيغت لمجرد متعة القراءة، نجدنا أمام كاتب عرف كيف يجعل من نصوصه "الأكثر ذاتية" حلقة في سلسلة نصوص وعي وتنوير ظلت شغله الشاغل طوال حياته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثنائية الوعي والتنوير
والحال أن معظم ما كتبه زكي نجيب محمود منذ بدايات المرحلة الثانية من فكره وحياته، والتي تلت مرحلة التكوين، وحتى وفاته عام 1993، كان عزفاً على تلك الألحان التي اكتشف في ذلك الحين ضرورتها، مروراً بما حدث لديه من انقلاب في اهتماماته كان جذرياً من دون أن يصرفه مع ذلك عن نظرته الفلسفية القديمة التي كانت مزيجاً من عقلانية تنويرية معاصرة، ووضعية منطقية اكتسبها في لندن خلال تتلمذه على أساتذة من طراز جورج مور. وفي مصر بعد عودته، وفي بعض الأقطار العربية التي عمل فيها خلال بعض سني حياته، اكتفى زكي نجيب محمود بالعمل الجامعي والفكري، وأسهم في لجان رسمية للترجمة والتأليف، وفي العديد من الموسوعات الفكرية، وخاض العديد من المعارك دفاعاً عن العقل والعقلانية، لا سيما مع خصوم عارضوه إنما من دون أن يخاصموه. وهو على هذا النحو، وعلى الرغم من النقد الذي كان يوجه إليه ذات اليمين وذات اليسار، حظي باحترام الجميع وكتبت عنه نصوص ركزت على الأبعاد العقلانية والتوفيقية في فكره، وكان له تلامذة تعلموا عليه المنهج حتى وإن خالفوه في استنتاجاته.
من ناحية ثانية، كان زكي نجيب محمود كاتب دراسات أكثر من كونه مؤلف كتب، ومن هنا كان معظم كتبه، البالغ عددها أكثر من عشرين كتاباً، تجميعاً لمقالات كان قد سبق له نشرها، لا سيما خلال رئاسته تحرير مجلة "الفكر المعاصر" القاهرية التي مكنته من الانصراف بخاصة إلى الكتابة الفلسفية التي كانت أثيرة لديه. ومن أبرز كتب زكي نجيب محمود إلى ما ذكرنا، "ثقافتنا في مواجهة العصر"، "مع الشعراء"، "المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري"، "الكوميديا الأرضية"، "حياة الفكر في العالم الجديد"، "هذا العصر وثقافته" إضافة إلى كتابه البارز "خرافة الميتافيزيقا" الذي تحول اسمه لاحقاً إلى "موقف من الميتافيزيقا".