أقرت وكالة الأغذية السنغافورية اللحوم المصنعة مخبرياً باعتبارها طعاماً آمناً للاستهلاك الآدمي، في وقت تستعد المطاعم في البلاد لتقديم لحوم الدجاج المصنعة لزبائنها لتكون الدولة الأولى في العالم لاعتماد اللحم المصنع مخبرياً، ومع تناقل الصحف العالمية اعتماد سنغافورة اللحوم البديلة، أثارت تساؤلات حول جدواها الاقتصادية ما قد تثيره من تساؤلات دينية ومشكلات صحية.
بدايات اللحم البديل
يُصنَع اللحم المخبري من خلال أخذ خزعة من الحيوان المراد تصنيع اللحم منه، في معظم الأحوال سيكون بقرة أو دجاجة مثلاً، وبعدها تؤخذ الخلايا الجذعية من العينة وتوضع في مفاعل حيوي خاص حيث تُغذى بالجلوكوز والأحماض الأمينية والفيتامينات والمعادن، ويسمح هذا المزيج من الخلايا والعناصر الغذائية في ظروف خاصة بتطوير الخلايا الجذعية إلى خلايا عضلية ناضجة تصير في ما بعد اللحم المستزرع.
وقد ظهر أول هامبرغر مُصنع مخبرياً في 2013 على يد مارك بوست الأستاذ بعلم وظائف الأعضاء الحويصلية في جامعة ماستريخت بهولندا، ومؤسس شركة "موسى ميت" في 2015، واستغرق صنعه هذه القطعة نحو عامين.
ومع بداية الثورة العلمية في اللحوم المخبرية، بدأت الشركات والمشروعات الناشئة في التسابق على هذه التكنولوجيا وتطويرها والوصول بها إلى المثالية، فقامت شركات "إيت جستو" و"ميمفس ميتس"، و"موسى ميت" بمزيد من التطوير والبحث العلمي والسعي لاعتمادها دولياً، كما استطاع خبراء في هندسة الأنسجة بجامعة باث البريطانية العام الماضي إنتاج لحم مُصنع مخبرياً مستخدمين خلايا الحيوانات من خلال زراعة خلايا خنزير مستزرعة في المختبر للحصول على لحم مقدد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويكمن السر في هذه اللحوم البديلة بين جميع التقنيات المستخدمة المعتمدة على الخلية، فيذكر الباحث في شركة "إيت جست"، بيرندي بيردي، أن كل اللحوم تبدأ بالخلايا وتحتاج هذه الخلايا إلى التغذية لتنمو طبيعياً كما في الأبقار أو الدجاج.
ويقول المؤسس المساعد لشركة "إيت جست"، التي تسوق المنتجات البديلة للبروتين والتي حصلت على الموافقة السنغافورية، أن الدجاج المصنع مخبرياً أنتج من المفاعل الحيوي، وهو جهاز تتم فيه التفاعلات والتغيرات الكيميائية، ويبين أن هذا اللحم يحتوي على بروتين عال ومصادر غنية من المعادن.
فوائد صحية وبيئية
ويؤكد صانع أول هامبرغر في المختبر مارك بوست أن هذا النوع من اللحوم هو الأفضل لصحة الإنسان، لأنه من الممكن التحكم في محتوى الدهون الزائدة والضارة، كما بين العالم أن ميزات اللحوم البديلة تتعدى صحة البشر بالحفاظ على البيئة الحيوانية من خلال تقليل الاعتماد على اللحوم الحيوانية التي تشهد تناقصاً ملحوظاً، كما أن تخفيض الاعتماد على المزارع الحيوانية يقلل من إصابة العاملين والمزارعين بالأمراض المترتبة على الاحتكاك المباشر بالحيوان والطيور، إضافة إلى التلوث الذي تحدثه مصانع المزارع في صحة المجتمعات المحيطة بها، كما أن عمليات تغذية الحيوانات تؤدي إلى معاناتهم وتلويث المياه من النترات الناتجة عن مخلفات الحيوانات، وتعد اللحوم التقليدية والزراعة من أكبر المصادر التي تتسبب في انبعاثات عالية للغازات الدفيئة، ووفقاً لدراسات علمية، تؤكد أن اللحم البقري هو الأسوأ تلويثاً للبيئة ويُصدِر ما يزيد على 105 كيلوغرامات من انبعاثات الغازات الدفيئة لكل 100 غرام من البروتين.
وتؤكد دراسة سابقة أن اللحوم المخبرية، التي يُطلِق عليها مؤيدوها "اللحوم النظيفة"، تنتج انبعاثات من الغازات الدفيئة أقل من اللحوم التقليدية بنسبة بين 78 و96 في المئة، وتستهلك أراضي أقل بنسبة 99 في المئة وماء أقل بنسبة تتراوح بين 82 في المئة و92 في المئة، وخلُص البحث الصادر عن معهد "الغذاء الجيد" في واشنطن إلى أن استزراع الخلية بحجم بيضة من الممكن أن ينتج لحماً أكثر بملايين المرات عن حظيرة الدجاج المُكدسة بـ20 ألف دجاجة. وكذلك فإن تكاليف الطاقة أقل كثيراً ولا تُهدر أي أجزاء من الحيوانات، كما يفترض أن تكون اللحوم المصنعة في المعمل لا تحتوي على هرمونات نمو وهي الممنوعة في الاتحاد الأوروبي.
وتقول الدكتورة أليس رئيسة الفريق البحثي بجامعة باث البريطانية، إن الفائدة الأكبر من تناول اللحم المصنع مخبرياً تكمن في معالجة الحاجة العالمية والتحديات العالمية للأمن الغذائي والتصدي للتغير المناخي.
وتؤيد منظمات تروج لبدائل البروتين أن استزراع اللحم في بيئة مشابهة لصناعة الجعة والزبادي أكثر أمناً ونظافة، وأكثر تأثيراً من تربية الحيوانات في المزارع، وتصف المنتج النهائي من اللحم المُصنع بأنه "لحم صاف"، ولن يحتاج المنتج إلى حقن بالمضادات الحيوية، كما لن تتعرض الحيوانات للذبح أو تصيب المواشي بالأمراض البكتيرية أو السالمونيلا وغيرها من الملوثات.
كما تظهر بعض الأبحاث أن اللحم التقليدي ليس جيداً على الصحة العامة بشكل عام، لما يترتب عليها من مشكلات صحية عديدة كأمراض القلب والسكر وأنواع من السرطانات، وتثبت الأبحاث الحديثة عكس ذلك في اللحوم المخبرية البديلة.
طعام مكلف
وعلى الرغم من المميزات الكثيرة التي يذكرها العلماء عن اللحم المُصنع مخبرياً، فإن تكلفة وجهد إنتاجه حتى الآن عالية ولا تقترب من اللحم التقليدي، وقال فريق بحثي كان يعمل على تصنيع اللحوم المستزرعة مخبرياً في جامعة باث البريطانية، إن التكلفة والطاقة اللازمتين حالياً لتطوير اللحم المُصنع عالية، وأوضحوا أن الفريق يعمل على تقليل هذه التكاليف، وهذه الطاقة المطلوبة منهم رغبة في أن يصير اللحم المُصنع في سعر اللحم التقليدي نفسه الموجود في المحال.
وكلفت أول قطعة هامبرغر نحو 330 ألف دولار، بينما تكلف القطعة الواحدة حالياً 10 دولارات للوحدة الواحدة في مقياس المعمل.
وينظر المستهلكون إلى النوع الجديد من اللحوم بترقب وشك، وأشارت دراسة في المكتبة العامة للعلوم أُجريت في الولايات المتحدة الأميركية قبل أعوام إلى أن نحو 70 في المئة من المشاركين في الدراسة يرغبون في تجربة اللحم المصنع مخبرياً، وبينت الدراسة أن ثلث المشاركين فقط هم من لديهم نية استبدال اللحم التقليدي باللحم المصنع مخبرياً كبديل عن اللحم الطبيعي، وتنوعت مخاوف المشاركين ما بين طعم اللحم أو تأثيره على السلامة والصحة البشرية، وهو ما قد يحد من الجدوى والفوائد الاقتصادية لهذا اللحم.
لكن المحللين يرون أن اللحوم المُصنعة مخبرياً ستغير من مستقبل اللحم وطعمه، ويقدر الخبراء أن التأثير المتوقع يمكنه أن يظهر على المدى المتوسط والطويل لما بعد عام 2030 وسط توقعات بقيام سوق جديدة للحم المُصنع بأنواعه.
مخاوف اقتصادية وشكوك بيئية
وعلى الرغم من كثرة البحوث الحديثة التي عددت الفوائد البيئية للحم المصنع مخبرياً، أظهرت بعض الدراسات التأثيرات البيئية لهذا اللحم على المدى الطويل في ما يفوق أضرار الماشية وتأثيرها على البيئة، إضافة إلى أن الحيوانات لديها أنظمة مناعية طبيعية تحميها من البكتيريا وبعض العدوى، وهو ما لا يتوافر في حالة الاستزراع الخلوي وفي بيئة غنية بالمغذيات ما يجعل البكتيريا تنشط بشكل أسرع عنها في الخلايا الحيوانية.
كما أشارت ورقة بحثية صادرة عن مدرسة مارتن أكسفورد البريطانية في فبراير (شباط) من العام الماضي إلى عدم وجود إجماع علمي عن التأثير البيئي الخاص بانبعاثات الغازات الدفيئة الناتجة عن اللحم المصنع مقارنة باللحم التقليدي، وأن اللحم المصنع قد ينتج مزيداً من الاحتباس الحراري على المدى الطويل، كما بينت الدراسة أن خسارة قطاع الثروة الحيوانية ستكون لها تبعات على عدد من الصناعات مثل "الصوف، والأنسجة، والجلد"، وتأثيرات على سكان القرى الذين يعتمدون في دخلهم على الثروة الحيوانية.
وأوردت قناة "سكاي نيوز" الإنجليزية في تقرير لها، أن العديد من الهيئات الزراعية تقف ضد اللحوم المُصنعة مخبرياً لخطورتها وتهديدها رزقهم، كما أن هناك خطراً حقيقياً يهدد من يصنفون في قاع هرم الأعمال بأن يجدوا أنفسهم خارج الأسواق إذا اهتم العالم بأن يكون اللحم جديداً وأكثر أخلاقية عن ذي قبل.
ويقول الطبيب البريطاني كريس بريانت، إن هناك ثلاثة مخاوف رئيسة مرتبطة باللحم المصنع مخبرياً، وهي "المذاق، والسعر، والطبيعة"، وما يتعلق بها من مشكلات خاصة بالسلامة، وأكد أن المغالطات الطبيعية هي أكثر المخاوف صعوبة إذ يقدر الناس في الغالب المنتجات الطبيعية عن غيرها من المنتجات غير الطبيعية التي يظنون أنها سيئة.
إضافة لما سبق، يذكر موقع "ميديكال إكسبرس" للأبحاث العلمية أن عدداً متزايداً من الدراسات وثقت سُميّة المنتجات البلاستيكية شائعة الاستخدام، وما قد تسببه من مشكلات في الخلايا المستزرعة التي تنمو في الحاويات البلاستيكية، فإذا لم يكن استخدام البلاستيك محكوماً بدقة من الممكن أن يكون اللحم ملوثاً بمسببات اضطراب الغدد الصماء أو مواد أخرى ضارة قبل تعبئته.
رأي شرعي
ويطال هذا النوع من اللحوم جدلاً من الناحية الشرعية الإسلامية إذ لم تصدر فتاوى لهيئات كبار العلماء أو المجالس الفقهية عن اللحوم المخبرية حتى الآن ربما لأن العالم الإسلامي لم يظهر اهتماماً بالاتجاه الجديد في تصنيع اللحم، ويؤكد البروفيسور فضلان محمد عثمان المدير التنفيذي لجامعة ماليزيا العالمية في تصريح خاص، أن الرأي الشرعي عن اللحوم المخبرية لا بدّ أن يكون صادراً عن فتوى متعلقة بهذه اللحوم، وحتى الآن، بحسب اطلاعه لم يجد فتوى من العلماء الكبار من الدول الإسلامية تتحدث بخصوص اللحوم المصنعة، وبالتالي على المسلمين النظر إلى بعض الجوانب في ما يخص هذه اللحوم.
ويذكر أن حديثاً عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) جاء فيه أن "ما قُطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة"، ويوضح فضلان أن شراح الحديث يشيرون إلى أن الجزء المقطوع من البهيمة الحية كالميتة، ولحم الميتة نجس لا يجوز الانتفاع به، ويقول إن اللحم المصنع مخبرياً إذا أُخذ من الحيوانات التي تذبح بطريقة إسلامية فلا بأس بذلك، ولكن انتظار الفتوى في ما إذا كان اللحم مأخوذاً بالخلايا الجذعية التي تؤخذ من الحيوان الحيّ فهنا يحتاج الأمر إلى فتوى واضحة من العلماء، ويذكر رأيه الشخصي اعتماداً على الحديث المذكور قائلاً، إن اللحوم المصنعة مخبرياً والمعتمدة على الخلايا الجذعية المأخوذة من الحيوان الحيّ لا يجوز الانتفاع بها لأنها في حكم الميتة، ويؤكد أنه ما زال منتظراً، بدوره، فتوى بخصوص هذا النوع من اللحوم من قبل العلماء الكبار، لعلهم في وقت قريب يصدرون فتوى بذلك.
غير أن باحثاً من أكاديمية الفقه الإسلامي الدولية في المملكة العربية السعودية شبه في عام 2013 بين اللحوم المصنعة مخبرياً والزبادي والمخللات المخمرة، كما خلص تقرير من المجلة الدينية والصحية في 2018 إلى أن اللحم المصنع حلال شرعاً إذا أُخذت الخلايا الجذعية من حيوان يحل ذبحه مع عدم استخدام الدم أو مصل الدم في عملية تصنيعه.