يرتبط كثير من العادات الاجتماعية السودانية بالحضارات القديمة، وتمثل امتداداً لطقوس وتقاليد تعود جذورها إلى ممالك مثل "كوش، ومروي، ونبتة، وعلوة" ما قبل الميلاد، لكنها ما زالت حاضرة في حياة السودانيين وتظهر في كثير من ملامح مناسباتهم وتعاملاتهم اليومية، في حال تعايش وتناغم عجيب ونادر منذ أمد بعيد، بين الثقافات الإسلامية والمسيحية، والوثنية، على الرغم من تعارض بعضها مع تعاليم الدين الإسلامي، فإنها لا تزال قائمة في حياة السودانيين حتى اليوم.
وشكل نهر النيل خصوصاً لدى القبائل التي تعيش بمحاذاته ملهماً رئيساً لهم، وصارت هذه التقاليد مع مرور الزمن جزءاً من مناسباتهم الاجتماعية في الأفراح والمآتم والولادة والختان ووجبات الطعام والزينة والعطور والزراعة.
وأنتج تداخل الحضارات المسيحية والإسلامية بحسب مختصين في الآثار والتراث، مزيجاً من العادات المزدوجة الطابع الإسلامي والمسيحي والوثني، منذ عهد الحنيفية الأولى، مروراً بممالك علوة المسيحية والمقرة الإسلامية في دنقلا ونبتة وسلطنة الفونج في سنار، واندمجت تلك العادات في حياة السودانيين بصورة عفوية كنوع من التراث والتقاليد، لا يرون فيها انتقاصاً من قيمهم الدينية، وإن كان بعضها يتعارض مع تعاليم الإسلام.
هيمنة طقوس مروي وكوش
ويعتبر الزواج في السودان من أكثر أنواع المناسبات تكلفة وزخماً، إذ تحتشد فيه تفاصيل وطقوس متعددة ومترابطة تعود جذور معظمها إلى الحضارات القديمة في كل من مملكتي كوش وكرمة ذات السمات الفرعونية.
وتتسم تلك المراسم بميزات خاصة جداً ملفتة ومثيرة للانتباه، بسبب الطقوس التي تصاحبها، وعلى الرغم من التفاوت الطفيف في تفاصيلها من منطقة إلى أخرى داخل البلاد لكنها تبقى متشابهة.
وتسبق مراسم الزواج أشهر عدة من التحضيرات، ينصب فيها الاهتمام على "العروسة"، بوصفها الملكة التي تنتظر التتويج قريباً، إذ تخضع في هذه الأثناء إلى فترة من الحبس تمنع خلالها من الخروج إلى أشعة الشمس أو مقابلة العريس حتى إتمام الزفاف.
وتحظى "العروسة" خلال هذه الفترة بعناية غذائية خاصة، وتخضع أيضاً لعادة تسمى "الدخان"، وهي عملية تبخير تقليدية للجسم، تُستخدم فيها قطع من خشب أشجار الطلح والشاف ذات النكهة الخاصة، وتجعل الجسم يتخلص من كميات كبيرة من الماء والأملاح، ويكتسب في الوقت نفسه لوناً أصفر، وهو تقليد محظور لغير المتزوجات.
"الجرتق" المروي العتيق
يمثل "الجرتق"، أحد أبرز وأشهر الطقوس التقليدية وأكثرها انتشاراً في كل أرجاء السودان، وله جذور ضاربة في القدم، تنتمي مباشرة إلى مملكتي كوش ومروي (350 ق.م)، في شمال السودان، ويحتشد "الجرتق" بتفاصيل عديدة، كالبخور وتبادل طفل بين العروسين ولبس "الخرز" (حجر كريم) ورش العطر واللبن بين العروسين، وتصحب كل ذلك رقصات وأهازيج خاصة يرتبط معظمها بالحضارة النيلية، ويُعتقد أن طقوس "الجرتق" المختلفة، تمنع الشر وتحفظ صفاء العلاقة الزوجية وتحميها من الحسد، ومن تدخلات الجن والشياطين، وتجلب الذرية والرزق الوفيرين.
ويؤكد فوزي حسن بخيت المختص الأثري بالهيئة القومية للآثار، أن تقليد "الجرتق" بما فيه من مظاهر احتفالية وتبادل لطفل بين العروسين تيمناً للإنجاب، يطابق حرفياً النقش الموجود على خاتم وجد ضمن مجموعة الحلي الخاصة بالملكة المروية أماني شاخيتي، يجسد الوضعية والكيفية التي تمارس اليوم، وخصوصاً في مناطق "الرباطاب" شمال السودان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفقاً للباحث في التراث السوداني، عباس أحمد الحاج، فإن "الجرتق" يرتبط بعادات سودانية فرعونية، في الحقبة المروية، تؤكدها موجودات الملكة شاخيتي من أدوات تشمل أوعية "الجرتق" كما هي الآن، كما أنها وجدت مخضبة اليدين بالحناء، وهي موجودة أيضاً في الرسومات والنقوش الخاصة بملكات مملكة مروي.
النيل في حياة السودانيين
ويؤكد الحاج أن علاقة السودانيين بالنيل ما زالت مستمرة على النمط ذاته الذي كان سائداً عند الكوشيين القدماء، بوصفه مصدراً للخير والحياة، ودافعاً للشر والبلوى، فعند الختان مثلاً يُحمل الطفل أو الطفلة إلى النيل ليغتسل، وكذلك بالنسبة للعروسين والنفساء والأرملة.
ويلاحظ أن معظم العادات السودانية المرتبطة بالنيل ذات صلة بمراحل حياة الإنسان المختلفة، إذ ارتبطت بالمناسبات التي تعبر عن الانتقال من مرحلة إلى أخرى، كالميلاد والزواج والموت بزيارة النيل والاغتسال من مياهه وفي أوقات محددة.
ويعتبر الباحث في التراث السوداني أن حبس الأرملة من النماذج التي تعكس تداخل الحضارات الإسلامية والمسيحية والوثنية في الموروثات السودانية، فبينما الحبس أمر شرعي بموجب التعاليم الإسلامية حتى إكمال العدة، لكن الجزء الأخير منه ارتبط بموروث وثني، إذ تتجه فور انتهاء الفترة إلى النيل لدفع وغسل الشرور والفأل السيئ، مع اعتقاد طريف أن مقابلتها أياً من الرجال في طريقها يمثل فأل شؤم ينذر بموته في وقت قريب، وغالباً ما يُنبه الرجال ليفسحوا لها الطريق.
ويضيف الحاج، "كما للنيل علاقة بالفرح والموت، فإن له أيضاً علاقة بصناعة العطور المحلية التي يدخل في صناعتها مسك من جسم التمساح والقواقع، غير أن أبرز مظاهر أثر النيل في حياة الناس يتجلى في مناطق السكوت أقصى شمال السودان، إذ يوشحون العروسين بجريد النخل الرطب، ويزفونهما إلى النهر لغسل وجهيهما، وهي عادة وثنية متوارثة وممتدة تمجد النيل وتقدسه".
في البيوت والوجبات
ويؤكد الأثري بخيت أن عادات وتقاليد حضارات ما قبل الميلاد موجودة حتى داخل المنازل وفي المطابخ والوجبات السودانية في العصر الحالي، متجسدة في مظاهر عدة أولها "العنقريب" وهو (سرير يدوي الصنع من خشب الأشجار، منسوج بحبل من جريد النخل أو الجلد البقري)، ويشغل حيزاً داخل كل البيوت السودانية، ليس في القرى والأرياف فحسب، بل حتى المدن، ويمثل أحد موروثات مملكة كرمة (3500 ق.م)، التي لا يزال يوجد سوق خاصة بها وسط مدينة أم درمان معروف بـ"سوق العناقريب".
وتعتبر وجبة التركين (السمك المملح المحفوظ) الشائعة حتى اليوم بمنطقة دنقلا، من أقدم المأكولات السودانية الموروثة التي تعود جذورها إلى مملكة نبتة (800 ق.م)، كما ترجع جذور "ملاح الويكاب"، من أنواع الطعام التقليدية، كموروث منذ مملكة نبتة، الذي يصنع من القصب المحروق واللبن والـ"ويكة" أي "مسحوق البامية الجافة"، ويتميز بخصائص طبية، كونه يمنع تجمع الغازات ويسرع عملية الهضم، فضلاً عن مشروب "المريسة" وهو من أنواع الخمر التقليدية، وهو نوع متوارث يصنع من الذرة المخمرة، أشبه بالبيرة، وكذلك استخدام الملح والقطران لمعالجة الحيوانات، لا سيما الجمال كلها عادات مروية.
عطور وزينة
ويرى الباحث التراثي أن معظم العطور النسائية التي تستخدم في مناسبات الزواج بالسودان، موروثة من مملكة مروي، مثل المسك والعطور الجافة، المعروفة حتى اليوم وجميعها كانت تستخدم ضمن عطور الحمام الملكي، مثل "الدِلكة" و"الخُمرة"، وهما خليطان قوامهما من الذرة الرفيعة بإضافات من نباتات وأشجار عطرية وأجزاء من الحيوانات والقواقع النيلية والتماسيح، ومن ميزاتها أنها تجعل الأجسام عطرة وندية ورطبة، ويتابع، "كان هناك اعتقاد سائد أن العطور الجافة القديمة، هي السبب في إطالة أعمار المرويين الأوائل التي كانت تتجاوز 1000 سنة، مما انعكس على الاهتمام بنظام التعطير في الحمام الملكي الذي كان مصمماً بصورة بديعة ومذهلة، إذ كان عطر "مسك الغزلان والظباء" مسالاً ومدمجاً بصورة تلقائية مع شبكة تدفق المياه من النيل إلى الحمام".
ويرى مختص الآثار بخيت أن لعادات وطرق التجميل السودانية وأدواتها أيضاً أصولها الممتدة عميقاً حتى مملكة مروي، حيث لا تزال تحتفظ برونقها وأصالتها وطابعها التقليدي المميز كالحناء "الخضاب"، والـ "مُشاط" أي "تمشيط الشعر في ضفائر صغيرة ناعمة" إلى جانب مجموعة من العطور الجافة التي تستخدم في بخور المنازل ودور العبادة، وتشتهر منطقة المجاذيب في الدامر بزراعة وتسويق أجود أنواع الحناء حتى اليوم.
ويعزز ذلك الباحث الحاج بقوله، "لقد وجدت الملكة شاخيتي داخل الهرم الخاص بها في البجراوية ممددة على عنقريب مع كامل حلتها الذهبية، وكانت يداها مخضبتين بالحناء وشعرها ممشطاً على الطريقة المعروفة عند نساء السودان".
المباني والزراعة
ويمتد تأثير الحضارات القديمة إلى أدوات الزراعة الموجودة اليوم، لا سيما في مناطق الزراعة التقليدية والمطرية مثل "السلوكة"، لحفر البذور والـ "طورية"، لإزالة الحشائش الضارة و"المنجل" للحصاد، وتتشارك في كونها كلها مصنوعة من الخشب والحديد تماماً كما في عهود نبتة ومروي، إلى جانب صناعات الخزف أو الفخار الزجاج والمباني الطينية، وأوعية حفظ المحاصيل كالذرة والتمر والشعير.
وبحسب المؤرخين، فقد استوطن الإنسان في السودان منذ 5000 سنة قبل الميلاد، وهو موطن للعديد من الحضارات القديمة، مثل مملكة "كوش، ومروي، ونوباتيا، وعلوة، والمقرة"، وغيرها، التي ازدهر معظمها على طول نهر النيل، وكان لها تأثيرها الواضح على المجتمع السوداني.
ويتداخل تاريخ السودان القديم مع تاريخ مصر الفرعونية على مدى فترات طويلة، لا سيما في عهد الأسرة 25 السودانية التي حكمت مصر من السودان ومن أشهر ملوكها طهارقة وبعنخي.