ازدهرت الأسواق المالية في لندن خلال العقود الأربعة الماضية لتصبح عاصمة المملكة المتحدة المركز الأوروبي البارز للإقراض والتجارة والاستثمار. وعلى الرغم من اتفاق الحكومة والاتحاد الأوروبي، الخميس الماضي، على صفقة تجارية لتحل محل الترتيبات الحالية التي تنتهي عشية رأس السنة الجديدة عند اكتمال عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لا يزال لدى الأولى الكثير لتخسره، ولدى الأخير المزيد ليكسبه، وبخاصة إذا ما علمنا أن أكثر من 90 في المئة من مشتقات أسعار الفائدة المقومة باليورو، و84 في المئة من تداول العملات الأجنبية في الاتحاد الأوروبي تتم في المملكة المتحدة، وفقاً لـ"نيو فاينانشيال"، بحسب ما أوردته "وول ستريت جورنال".
والآن، وبعد أن أصبحت بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي، أصبح حجم وتأثير صناعة التمويل في المدينة موضع تساؤل، وخصوصاً أن قطاع الخدمات المالية يتمتع بأكبر فائض تجاري من أي صناعة في المملكة المتحدة، حيث بلغت صادرات الخدمات المالية المسجلة في 2019 نحو 79 مليار جنيه إسترليني، أي ما يعادل 106 مليارات دولار أميركي بحسب الصحيفة.
هل تشمل الصفقة خدمات مالية؟
تضمن الصفقة استمرار التجارة الحرة للسلع وتفاصيل كيفية تفاعل الاقتصادين في قضايا تتراوح بين التعاون الأمني وحقوق الصيد، لكن ليس من الواضح تماماً كيف سيؤثر ذلك في الخدمات المالية. واتفق الجانبان خلال المفاوضات على مناقشة الخدمات المالية بشكل منفصل.
وقالت حكومة المملكة المتحدة في وثيقة نشرت، الخميس الماضي، إن الاتفاقية تتضمن أحكاماً لدعم التجارة في الخدمات، بما في ذلك الخدمات المالية والقانونية. ووفقاً للوثيقة "سيوفر هذا للعديد من موردي الخدمات في المملكة المتحدة ضمانات قانونية بأنهم لن يواجهوا حواجز أمام التجارة عند البيع في الاتحاد الأوروبي، وسيدعم تنقل المهنيين البريطانيين الذين سيستمرون في ممارسة الأعمال التجارية عبر الاتحاد الأوروبي".
وتتضمن الاتفاقية ما وصفته حكومة المملكة المتحدة بأنه "أحكام رائدة" في شأن الخدمات القانونية التي تسمح للمحامين البريطانيين بتقديم المشورة للعملاء عبر الاتحاد الأوروبي في شأن المملكة المتحدة والقانون الدولي العام، باستثناء الحالات التي يضع فيها أعضاء الاتحاد الأوروبي قيوداً محددة على ذلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اعتبارا من أول يناير (كانون الثاني)، تفقد المؤسسات المالية في المملكة المتحدة الوصول التلقائي إلى السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي لخدمة العملاء في الاتحاد الأوروبي العام المقبل، وسيتعين على المؤسسات التي تتخذ من المملكة المتحدة مقراً لها أن تمنح حقوق المعادلة، التي بموجبها يسمح الاتحاد الأوروبي لها بإجراء أنشطة مالية معينة، ويمكن سحب حقوق المعادلة في وقت قصير.
حتى الآن، منح الاتحاد الأوروبي حقوق معادلة مؤقتة لغرف المقاصة البريطانية، التي تعمل بين المشترين والبائعين في الصفقات وتعهد بإتمام الصفقة حتى لو تراجع أحد الأطراف. ولدى لندن الكثير من هذه السباكة المالية، التي تدير تريليونات الدولارات من عقود المشتقات كل يوم. وسيستمر الجانبان في مناقشة كيفية المضي قدماً في منح المعادلة، وتعهدا بتقنين إطار للتعاون التنظيمي.
كيف ستؤثر الصفقة في صناعة التمويل؟
ستعمل الاتفاقية على تحسين العلاقات بين السياسيين والمنظمين من كلا الجانبين. ومن المحتمل أن يكون لذلك عواقب على الشركات المالية التي تتخذ من المملكة المتحدة مقراً لها، والتي تريد أن يمنح الاتحاد الأوروبي المزيد من قرارات التكافؤ التي تسمح لها بالوصول إلى السوق الموحدة في 9 ديسمبر (كانون الأول)، وكتبت الرابطة الدولية للمقايضات والمشتقات إلى الاتحاد الأوروبي تحثهم على منح معادلة لأماكن تداول المشتقات في المملكة المتحدة. وتم إرسال الرسالة بعد أن أعلن المنظمون في الاتحاد الأوروبي قواعد في 25 نوفمبر (تشرين الثاني) من شأنها منع تجار المشتقات في لندن في بنوك الاتحاد الأوروبي من مواصلة العمل بسلاسة بعد اكتمال بريكست.
تأثير بريكست في الخدمات المالية البريطانية
يريد منظمو الاتحاد أن تنقل بعض الأعمال التجارية التي يتم إجراؤها حالياً من لندن إلى أوروبا. وبالفعل نقلت البنوك ومديرو الصناديق 1.2 تريليون جنيه إسترليني (1.6 تريليون دولار) من الأصول عقب تصويت بريكست عام 2016، وغادرت البلاد أكثر من 7500 وظيفة في الفترة ذاتها، وفقاً لشركة المحاسبة "إرنست ويونغ". ومنذ الاستفتاء أعلنت 44 شركة خططاً لتعيين موظفين محليين في الاتحاد الأوروبي لـ2850 وظيفة قائمة، أو تم إنشاؤها حديثاً، وفقاً لـ"إرنست ويونغ". وستكون دبلن ولوكسمبورغ وفرانكفورت وباريس وأمستردام من بين المستفيدين الرئيسين من الوظائف والأصول التي انتقلت من لندن.
ماذا يقول الرأي العام؟
بعد الإعلان عن الاتفاقية، الخميس، قالت رابطة الأسواق المالية في أوروبا، في بيان، إنه من المهم أن يتخذ الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة الآن على وجه السرعة قرارات معادلة معلقة للتخفيف من الاضطراب في نهاية الفترة الانتقالية.
وقال بوب ويغلي، رئيس "يو كي فاينناس"؛ وهي الاتحاد التجاري لشركات الخدمات المالية، إن هناك مزيداً من العمل الذي يتعين القيام به. وأضاف في بيان "سيكون من المهم البناء على أسس هذه الصفقة التجارية من خلال تعزيز الترتيبات للتجارة المستقبلية في الخدمات المالية". وتابع "يمكن تحقيق ذلك من خلال البناء على الحوار التنظيمي الطويل الأمد والتعاون الإشرافي بين سلطات المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي والتوصل إلى اتفاقيات في شأن جميع قرارات التكافؤ المناسبة في أقرب وقت ممكن".
وقالت كاثرين ماكغينيس، رئيسة السياسة في مجلس مدينة لندن، المجلس الذي يدير الحي المالي في لندن، إن اتفاقية التجارة الحرة أخبار إيجابية. وأضافت، في بيان "نأمل أن تتمكن من وضع الأسس لشراكة مستقبلية تعاونية". كما نحث الجانبين على مواصلة العمل في شأن القضايا المعلقة الأخرى، بما في ذلك الاتفاق على إطار للتعاون التنظيمي والإشرافي.
وقال نيكولاس ماكيل، الرئيس التنفيذي لشركة لوكسمبورغ للتمويل، وكالة التنمية لقطاع الخدمات المالية في البلاد "يجب أن نرى الآن بعض النوايا الحسنة التي تشتد الحاجة إليها إلى المناقشات حول الخدمات المالية. لم يكن من مصلحة أي شخص أبداً جعل الوصول إلى رأس المال أكثر صعوبة في سياق أزمة الوباء التي نواجهها جميعاً حالياً".
وكان بنك إنجلترا قد صرح في وقت سابق من هذا الشهر، بأن معظم المخاطر التي يتعرض لها الاستقرار المالي في البلاد بعد بريكست "تم تخفيفها"، ولكن بعض الأسواق لا يزال من الممكن حدوث تقلبات وتعطيل في الخدمات المالية بها.
ماذا سيحدث بعد ذلك؟
سيتنافس السياسيون والمنظمون والمصرفيون على جانبي القناة الإنجليزية على تشكيل الأسواق المالية الأوروبية لسنوات مقبلة. ومن وجهة نظر المملكة المتحدة، هناك مساران محتملان في المستقبل؛ محاولة البقاء متماشية تماماً مع قواعد الاتحاد الأوروبي في محاولة للقيام بمزيد من الأعمال التجارية مع الكتلة، أو الشروع في مسار أكثر استقلالية وتغيير اللوائح في محاولة للفوز بالمزيد من الأعمال على مستوى العالم. ويفضل العديد من المؤسسات الكبيرة رؤية مزيد من المواءمة، بينما يفضل مؤيدو بريكست التشعب.
ويراقب مسؤولو الاتحاد الأوروبي المملكة المتحدة عن كثب بحثاً عن إشارات تدل على أن شريكهم السابق سيصبح من المنافسين. واستشهد روبرت أوفيل، رئيس هيئة الرقابة المالية في فرنسا، هذا الشهر بتصريحات من قبل حاكم بنك إنجلترا أندرو بيلي وريشي سوناك، رئيس الخزانة في المملكة المتحدة، كدليل على أن المملكة المتحدة قد تضع لائحة للتنافس مع الاتحاد الأوروبي.
وقال أوفيل في خطاب ألقاه في الثاني من ديسمبر "في هذا السياق التنافسي، نحتاج أيضاً إلى بناء سوق أوروبية قوية، والاستجابة بسرعة لكيفية تطور الأسواق المالية".
وكانت المملكة المتحدة قد صوتت لمغادرة الاتحاد الأوروبي في استفتاء يونيو (حزيران) 2016، وقضى السياسيون أربع سنوات مضطربة في محاولة للاتفاق على شروط جديدة لعلاقة البلاد مع الدول الـ27 المتبقية في الاتحاد الأوروبي الكتلة، أكبر شريك تجاري لها. وبموجب الاتفاقية التجارية الموقعة الخميس ستغادر بريطانيا الاتحاد الأوروبي في 31 يناير، لكنها أبقت على تشريعات الاتحاد الأوروبي خلال فترة انتقالية هذا العام، في حين لن يسري قانون الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة اعتباراً من 1 يناير.