قضيت يوماً قبل عبد الميلاد بالتحدث في السياسة مع مجموعة ممن يفكرون عموماً بطريقة متشابهة. واشتملت الموضوعات الرئيسة في أحاديثنا تلك، على سياسة "البيئة المعادية" (إجراءات إدارية وقانونية تجعل الإقامة في بريطانيا أصعب ما يمكن على الشخص غير المصرح له) التي تنفذها وزارة الداخلية، وتمثل أحد الأهوال الأساسية في سياساتنا، علاوة على مشروع حكومتنا اليمينية المتطرفة.
وكذلك برزت خلال الأحاديث الحاجة إلى الترحيب بالمهاجرين واللاجئين. وكذلك برز المبدأ الذي لا يمكن إنكاره، ومفاده، إن علينا السعي إلى بناء عالم لايُجبر فيه أحد على مغادرة وطنه، بسبب الحروب أو انتهاكات حقوق الإنسان أو الكوارث البيئية أو الفقر.
في المقابل، وجدت نفسي في موقع مألوف. إذ كنت الشخص الوحيد الذي جهر برأيه حول ضرورة الاحتفال بالهجرة، والاعتراف بالحرية الرائعة التي تكمن في أن تكون غير مغرم بالمكان الذي تعيش فيه الآن، وترغب في تجريب شيء مختلف. وأيضاً لم يعرب أحد غيري عن وجهة نظره حول الإثارة التي يشعر بها المرء، عندما يسمع كيف يعيش الآخرون، وكيف يجري تنظيم مجتمعات أخرى، وماهي المشاعر السائدة في بيئات أخرى، وعن تعلم لغات جديدة من نقطة الصفر، ونقل مقر السكن إلى بلدان أخرى عبر حدود الدول والقارات.
واستطراداً، يجب علي أن أعلن هنا عن وضعي الخاص، كما قد أفعل في مجلس اللوردات. لقد ترعرعت في مكان لم يكن يعجبني كثيراً. وكذلك نِلت من الحظ ما يكفي كي أمتلك إمكانات وامتيازات أيضاً، ما جعلني قادرة على الابتعاد عن ذلك المكان بسهولة. نحن نعلن عن السفر الترفيهي ونحتفي به، وكذلك الحال مع السفر الاقتصادي، سواء أكان على المدى القصير أو الطويل. ولا يزيد أمره عن أن يحمل المرء حقيبة الظهر وينطلق حين يشاء. غير أننا بالكاد ناقشنا تجربة نقل المسكن بناء على رغبة المرء، أو الترحيب بمن فعلوا ذلك.
مع ذلك، فقد يكون 2021 العام الذي سيغير ذلك النوع من النقاش، بينما نواجه عالماً ستكون فرص البريطانيين فيه بالهجرة خاضعة لقيود أشد صرامة بشكل كبير مع حلول نهاية الفترة الانتقالية المتعلقة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ولقد أدت صدمة الإغلاق المفاجئ للحدود بسبب السلالة الجديدة من فيروس كوفيد-19 إلى دفع هذا الوطن بعيداً عن جيرانه أكثر من قبل. في المقابل، إن تدفق برودة العلاقات وجليدها الذي بدأ يتسلل (بين بريطانيا والجيران) كان آتياً على أي حال.
في سياق متصل، جادل "حزب الخضر" في مناظرة أثناء استفتاء 2016 حول مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بأن حرية الحركة (التي يتمتع بها مواطنو الاتحاد الأوروبي ضمن دوله) تشبه طريقاً باتجاهين، وأننا جميعاً استفدنا منها. من جهة أخرى، لم يستطع ذلك الطرح سوى جذب اهتمام قلة من الناس. مع ذلك، من اللافت أنه في 2020، أثناء مناقشة البرلمان مشروع قانون الهجرة، الذي ألغى تلك الحرية في الحركة، حدث مزيد من استقطاب الانتباه والتركيز على ذلك الموضوع. وآنذاك، بدأ أناس في التفكير بالميزة التي كنا نضيعها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعد عقود من التمتع بحرية الانتقال عبر القارة، سنجد في الغالب صعوبة أكبر بكثير في الحركة بين الدول الأوروبية. إذ سيتطلب ذلك وجود عرض عمل أكيد أو دخل ثابت أو حياة راسخة، حتى يكون بوسع أحدنا الفوز بفرصة في تغيير ظروفه والتوجه إلى أماكن أخرى. وتتعلق تلك القضية بالمساواة إلى حد كبير. سيكون الأغنياء على الدوام موضع ترحيب بأذرع مفتوحة أينما حلوا، إذ يقدرون على جعل الطريق إلى حيث يشاؤون أكثر يسراً بفضل النقود.
في المقابل، ستكون الطريق أكثر عُسراً بالنسبة إلى الشباب والفقراء، ممن لديهم أقوى الأسباب الموجبة للسعي إلى إيجاد بداية أخرى بحثاً عن ساحات جديدة لبناء حياتهم.
ومن جهة أخرى، إن البريطانيين مهاجرون عظيمون، إذ إن واحداً من كل عشرة منا يعيش خارج البلاد. وفي أوقات سابقة، أجبرت الإمبراطورية البريطانية العالم على السماح للبريطانيين بأن يجوبوا في أصقاعه تلك المظللة باللون الوردي على امتداد خريطته، تماماً على غرار ما منحتنا عضويتنا في الاتحاد الأوروبي القدرة على الانتقال بيسر بين دولة وأخرى في أنحاء القارة.
إن المنظور التاريخي الذي قدمه "متحف الهجرة" في باريس، يُشكل حقيقة غالباً ما تبقى منسية، عندما نتحدث عن أنماط الهجرة الحديثة. ويتمثل ذلك المنظور في أسهم عريضة موزعة عبر خرائط العالم، تصور مجموعات الأوروبيين الذين كانوا يتدفقون على شكل تيارات عظيمة تنتشر في أنحاء الكرة الأرضية، خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.
وآنذاك، على غرار الوضع اليوم، شعر الناس أنهم مدفوعون إلى الهجرة بسبب عوامل شتى كالفقر، وانتهاكات حقوق الإنسان، وعدم وجود فرص في أوروبا، وكذلك أغرتهم أحياناً الوعود الدقيقة بالتمتع بأشعة الشمس والفضاء الرحب والفرص الوفيرة.
في المقابل، إذا ألقينا نظرة طويلة المدى حقاً في ثنايا التاريخ، فإننا كما ترى نعرف في كل سنة، من خلال علم أصول البشر، مزيداً (من المعطيات) عن الجنس البشري وأسلافنا أيضاً. ونحن نعلم أن أولئك الناس انتشروا واختلطوا مع بعضهم بعضاً في أنحاء الكرة الأرضية، على امتداد مئات الآلاف من السنوات. واستطراداً، تشكل الحركة جزءاً أساساً من حال الإنسان، وفق تأكيد (الكاتب المتخصص في أدب الرحلات) بروس تشاتوين Bruce Chatwin.
ومع ذلك، فإن فجر2021 يبزغ مؤذناً بعام جديد، باتت فيه فرص البريطانيين في التنقل محدودة أكثر مما كانت عليه خلال قرون مضت. إنهم الآن في وضع يشبه أوضاع كثير من الأشخاص الذين يسعون، باختيارهم أو غصباً عنهم، للوصول إلى شواطئنا نحن. إذاً، حان الوقت كي نجدد الدعوة بوجوب توفير حرية الحركة والفرصة للتنقل أمام الشباب من أبناء البيرو وبنغلادش وكذلك بريطانيا، أو لنقل الشباب جميعاً، وذلك كي يستكشفوا المناطق ويستقروا في إحداها.
صحيح أن ثمة حاجة إلى مناقشة تفاصيل تلك الإجراءات والتفاوض بشأنها. في المقابل، ينبغي اتخاذها هدفاً بالنسبة إلى العالم كله. وقد صار أخيراً أمراً ملحاً، خصوصاً أن فرصنا نحن في التنقل أصحبت محدودة.
(البارونة بينيت زعيمة سابقة لحزب الخضر في المملكة المتحدة، وعضوة في مجلس اللوردات حالياً)
© The Independent