ازدحام وسائل المواصلات العامة بالركاب واكتظاظ المطاعم والمقاهي بروادها، منظر لا تخطئه العين في معظم المدن الصومالية. ومع تصاعد وتيرة انتشار فيروس كورونا في القارة الأفريقية، وظهور السلالة الجديدة منه، قد يضطر الواحد إلى العودة سريعاً إلى المواقع الطبية والإخبارية، التي تزخر بالتحذيرات من الوباء الذي ألقى بظلاله الثقيلة على دول العالم، للتأكد من أننا ما زلنا نعيش في هذا العالم، في وقت أغلقت فيه تلك الدول اقتصاداتها ومطاراتها زماناً، أو أننا ما زلنا بعدُ ضمن هذا الكوكب مكاناً!
حول طاولة عامرة بفناجين القهوة
أحمل تساؤلاتي إلى المقهى المعتاد الذي كنت أقضي فيه سويعات للترويح عن النفس، وأجد وجوهاً مألوفة من المثقفين، فأضع تساؤلاتي بين أيديهم.
ووسط الضحكات المتفلتة بين رشفات القهوة الحبشية، يشير سعيد حسن جامع، الذي يعمل مترجماً حراً إلى سبب اللامبالاة التي نعيشها نحن الصوماليين تجاه وباء أغلق العالم، قائلاً "هل نظرت إلى المعدل الوسطي لأعمار قوميتنا بحسب الإحصاءات الدولية، نحن نموت قبل بلوغ الـ60 بالمجمل، لذا فالمجتمع شاب ويستطيع تحمل الفيروس أفضل من شعوب الدول المتقدمة".
ويبادر المصور الصحافي كيسي طاهر محمود مبتسماً "النظام الصحي في البلاد عامة سيئ، الخدمة مكلفة ورديئة للغاية، لدرجة يمكنني القول إن من كان يعاني من مرض مزمن أو خطير لا بد قد مات قبل أن يظهر هذا الفيروس إلى الوجود، ومن صمد حتى ظهوره لا بد أنه قوي كفاية للتعامل معه"، في حين يشير خالد عول عبد الرزاق، الصحافي في إحدى الصحف المحلية التي أغلقت أبوابها، أخيراً، إلى الوضع الاستثنائي الذي يشعر بوطأته الصوماليون طوال ثلاثة عقود "نحن تحت قيود شديدة مسبقاً، فلا داعي لزيادتها"، وتتصاعد الضحكات في سخرية لا تخلو من مرارة.
بين اللامبالاة وعدم الثقة بالحكومة
الهدوء الذي تشهده التقارير اليومية الحكومية حيال أعداد المصابين، يشير إلى فتور الحماسة في الإعلان عما يُرصده من إصابات. وتشير الموظفة في الخدمات الاجتماعية هناء علمي موسى إلى أنه "على الرغم من استمرار حدوث الإصابات بشكل شبه يومي في محيطنا الاجتماعي، فإنها غالباً ذات أعراض خفيفة، لا يرى من يعاني منها أي ضرورة لأن ينفق 40 دولاراً أميركياً، لتأكيد إصابته".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتضيف زميلتها فردوس غيلله زياد "من الضروري الانتباه إلى أن هناك تناقضاً محيراً في مجتمعنا، ففي حين يظهر أفراده لامبالاتهم بالتدابير، فإنهم يعاملون من يُصاب بالمرض كأنه ارتكب جريمة ما. إنهم يقاطعونه وقد يتعرض للفصل من العمل أو يتم الامتناع عن التعامل معه في محله، لمجرد تسرب إشاعة حول إصابته بالمرض، وإن تعافى!".
وتعود موسى لتلقي الضوء على علاقة المجتمع ببعض الجهات الحكومية، التي تؤدي إلى زيادة الأوضاع سوءاً، قائلة "هناك من يتعمد إخفاء إصابته، أو إصابة أحد ممن يعاشرهم، نظراً لانتشار إشاعات حول قيام السلطات الصحية بتحقيق مكاسب مالية من رصد الحالات. وعلى الرغم من تراجع هذه الأخبار، فإنني سمعت بوجود حالات وفاة ناتجة عن أمراض أخرى، ادعى ذوو المتوفى أنه جرى التعامل مع فقيدهم على أنه متوفٍ نتيجة الوباء، وكل ذلك يضعف ثقة المجتمع بالسلطات الصحية، ويسهم في ازدياد الوضع تعقيداً".
أوضاع اقتصادية صعبة
منذ أغسطس (آب) الماضي، بادرت السلطات الحكومية إلى التخفيف من القيود التي طُبقت، بما فيها التشدد في التباعد الجسدي وفرض استخدام الكمامات، والحملات الإعلامية الحاملة للتحذيرات وإرشادات التعامل مع الوباء. وقد كان الهدف الحد من آثار تلك القيود على الأوضاع الاقتصادي المتردية، خصوصاً مع انخفاض ما أُعلن عنه من أعداد المصابين، إذ تُعتبر البلاد بحسب منظمة الصحة العالمية من أقل بلدان العالم تأثراً بالفيروس. لكن على الرغم من تخفيف القيود، فإن الوضع العالمي بالمجمل قد أدى إلى تباطؤ اقتصادي وتدهور في القدرة الشرائية وتراجع في الاستهلاك.
وعند سؤال حمزة علي يحيى، سائق سيارة الأجرة، عن مشاهداته بخصوص الوضع الاقتصادي، أكد وجود تراجع في قدرة الناس على الاستهلاك "لقد تأثر الجميع بالقيود التي جلبها معه هذا الوباء، فأنا شخصياً انخفض دخلي إلى النصف تقريباً. هناك تحسن بعد تخفيف القيود، لكنني متخلف في كثير من التزاماتي، ومع ذلك فوضعي ليس سيئاً مثل كثيرين أعرفهم من أصحاب المحال التجارية، فقد أفلس العديد منهم واضطروا لإغلاق أعمالهم، كما أن آخرين تشاركوا السكن مع أقربائهم بعد عجزهم عن دفع إيجارات منازلهم".
التعامل مع الوباء
ويفسر عبدالله ش. عبد القادر راغي، نائب مدير مركز هرجيسا للدراسات والبحوث، لامبالاة الصوماليين تجاه الفيروس ترجع إلى ضعف الأداء الحكومي وقلة الوعي الجمعي بالمرض، والانتقائية الناتجة عن ذلك ناحية القيم التي تحكم التعامل مع وضع كهذا.
ويقول "هناك تراجع في الحماس الحكومي تجاه التوعية المجتمعية، قد يكون مرده قلة الموارد المتاحة، إضافة إلى عدم وجود مقاربة تحيي في أذهان المجتمع المعاصر التجربة المريرة التي مر بها الصوماليون إبان الإنفلونزا الإسبانية قبل قرن من الآن، فقد ضربت الصوماليين بقوة حينها واختفت عائلات بأكملها، وما زلت بعض المرثيات الشعرية التي قيلت في ذلك تدور على الألسن إلى يومنا هذا".
وعند سؤاله عن التأثير الاقتصادي السلبي للاحتياطات التي يجري تجاهلها، والتناقض بين حالتي اللامبالاة بالمرض ووصم المصابين، قال راغي "لسنا نعيش في معزل عن العالم، ومعظم أسباب التدهور الاقتصادي الذي نلمسه بشكل جلي في عموم البلاد، يرجع لعاملين اقتصاديين أساسيين اثنين، أولهما، فشل موسم التصدير السنوي للماشية الصومالية، نظراً لتقليص أعداد الحجيج، فذلك ضرب الطبقة المنتجة الرئيسة في البلاد وأعني الرعاة البدو، إضافة إلى العامل الآخر وهو تحويلات المغتربين، فالإغلاقات التي شهدها العالم، خصوصاً مناطق كدول الخليج والدول الغربية، أدى إلى أوضاع اقتصادية غير مريحة للمغتربين والمهاجرين، وهو ما تسبب في انخفاض ما كانوا يرسلونه لأقربائهم في الداخل، ويمكنك تخيل أثر ذلك على تلك الأسر وقدرتها الشرائية".
ويضيف "اضطر كثيرون إلى الخروج للبحث عن فرص عمل يومية، ما زاد من الازدحام في المواصلات العامة والأسواق، على الرغم من تناقص الفرص. وفي ظلّ ظروف كهذه، يلجأ المجتمع إلى تطبيق مغلوط لعقيدة "التوكل" مثلاً، ليتمكن من الاستمرار في محاولة حل المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها، في حين يظهر الخوف الكامن في نفوس الأفراد تجاه المرض، في ردات الفعل الهستيرية تجاه من تثبت إصابته به".