بعد نصف قرن من الاندماج ضمن الاتحاد الأوروبي، خرجت المملكة المتحدة نهائياً من الاتحاد الأوروبي.
ووصف رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ذلك بـ"اللحظة الرائعة"، مؤكداً أن بلاده ستكون "مفتوحة وسخية ومنفتحة على الخارج".
وقال جونسون في كلمته بمناسبة حلول السنة الجديدة "باتت حريتنا بين أيدينا، ويعود إلينا أن نستفيد منها إلى أبعد حدود".
ويأتي الخروج، بعد أربع سنوات ونصف السنة من مسلسل بريكست الطويل والمليء بالتحولات، وفتحت صفحة جديدة من تاريخها وسط أزمة كبيرة تشهدها البلاد.
وعند الساعة 23,00 بالتوقيت المحلي وتوقيت غرينيتش (منتصف ليل الخميس الجمعة في بروكسل) وعلى وقع ساعة بيغ بن، أصبح بريكست واقعاً بمفعول كامل بعد ما خرجت بريطانيا رسمياً من الاتحاد الأوروبي في 31 يناير (كانون الثاني) الماضي لكنها اعتمدت مرحلة انتقالية لتخفيف تبعات هذا القرار.
واعتباراً من 1 يناير، تتوقف البلاد عن تطبيق قواعد الاتحاد الأوروبي.
أوروبياً، اعتبر الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أن المملكة المتحدة تبقى "صديقتنا وحليفتنا" على الرغم من خروجها من الاتحاد.
وقال ماكرون في كلمته إلى الفرنسيين، الخميس، بمناسبة حلول السنة الجديدة، إن "بريكست هذا كان ثمرة التململ الأوروبي وكثير من الأكاذيب والوعود الزائفة"، مؤكداً في ما يتعلق بفرنسا أن "مصيرنا هو أوروبي أولاً".
وعلق وزير الدولة الفرنسي للشؤون الأوروبية كليمان بون في تصريح لشبكة "ال سي آي" الفرنسية "إنه بلد يغادر الاتحاد الأوروبي للمرة الأولى منذ أكثر من 45 سنة من العيش المشترك (...) لكن يجب التطلع إلى المستقبل" على الرغم من هذا اليوم "الحزين".
احتمالات
وفي مدينة دوفر الساحلية الواقعة في جنوب شرقي بريطانيا التي سيكون ميناؤها في الصف الأمامي للتبادلات التجارية مع الاتحاد الأوروبي، تختلط مشاعر السكان بين الأمل بحقبة جديدة من الازدهار والخوف من الاضطرابات مع تشكل طوابير طويلة من الشاحنات في المنطقة.
وتتوقع المتقاعدة مورين مارتن أن تكون الأمور "أفضل، علينا أن ندير أمورنا بأنفسنا".
ويعتقد آرون كينير، وهو عاطل عن العمل، أن "الأمر سيولد ضغوطاً للجميع"، مضيفاً "لكني آمل أنه في نهاية المطاف سنبقى كلنا متحدين وسنتدبر أمورنا".
لكن كيرك هيوز الذي يعمل في قطاع المعلوماتية أبدى "بعض التوتر"، متوقعاً أن "تمتد المرحلة الانتقالية أسابيع".
ويجنب الاتفاق الذي وقع في الربع الساعة الأخير انفصالاً غير منظم لبريطانيا عن الاتحاد الأوروبي مع ما يمكن أن يحمله من تداعيات مدمرة على الاقتصاد، إلا أن حرية التنقل التي كانت تسمح للسلع والأفراد بالتحرك من دون عوائق، ستنتهي.
وستواجه شركات التصدير والاستيراد معضلة الإجراءات الجديدة، ويمكن أن تؤخر تدابير التفتيش نقل البضائع عبر الحدود.
وستخسر الشركات العاملة في مجال الخدمات المالية، وهو قطاع رئيس في لندن، حقها في عرض خدماتها بشكل تلقائي في الاتحاد الأوروبي، وعليها أن تفتح مكاتب في الدول الأعضاء لتتمكن من العمل فيها. وستُستثنى الجامعات البريطانية من الآن وصاعداً من برنامج "إيراسموس" لتبادل الطلاب.
الصحف البريطانية ترحب
بعد سنوات من انتقاداتها لبروكسل، احتفلت الصحف البريطانية المشككة في جدوى الاتحاد الأوروبي بالنصر في أعدادها الصادرة الجمعة، لكن الأصوات المؤيدة للكتلة الأوروبية أشارت إلى "يوم حزن".
وعرضت قناتا "بي بي سي" و"سكاي نيوز" صوراً مباشرة لساعة بيغ بن في وسط لندن وهي تدق مؤذنة بحلول الساعة 11,00 مساء، الخميس.
واعتبر ذلك نصراً شخصياً لسياسيين مثل الشعبوي نايجل فاراج المعارض للاتحاد، والمؤيد لحملة الانفصال في استفتاء 2016. وكتب في تغريدة "إنها لحظة كبيرة لبلادنا، قفزة عملاقة إلى الأمام. حان الوقت للاحتفال. وأخيراً بريكست".
وعكست وسائل الإعلام التقليدية مشاعر فاراج. ونشرت "ديلي إكسبرس" على صفحتها الأولى صورة لجروف دوفر البيضاء المطلة على المانش، مع عنوان يقول "مستقبلنا. بريطانيا خاصتنا. مصيرنا".
ونشرت صحيفة "صن" خبر "بريكست" ضمن مربع في الصفحة الأولى وأوردت تصريحات جونسون عن أن بريكست يمثل لحظة تجديد يمكن فيها للبلاد أن "تطلق بقوة" الابتكار العلمي.
ونشرت الصحيفة رسماً بيانياً لساعة بيغ بن وعليها حقنة عملاقة تشير إلى منتصف الليل، للترويج لحملتها المطالبة بجيش من المتطوعين للمساعدة في تنفيذ برنامج اللقاحات المضادة لفيروس كورونا.
وعنونت "ديلي تلغراف"، "أهلا بكم في 2021، وسببان للأمل في مستقبل أكثر إشراقاً". وكانت تشير بذلك إلى "بريكست" وموافقة الهيئة الناظمة في المملكة المتحد على لقاح جديد لـ"كوفيد-19" طورته جامعة أكسفورد وشركة "استرازينيكا" ومقرها كامبريدج.
أما صحيفة "الغارديان" المؤيدة للاتحاد الأوروبي فمزجت الموقفين في تغطيتها على الصفحة الأولى، مشيرة إلى أن بريطانيا تركت أخيراً كافة قواعد الاتحاد في وسط "أزمة، من دون ضجة".
في الصفحات الداخلية وصفت الصحيفة اليسارية الميول بريكست بأنه "خطأ وطني مأساوي".
وقالت "بريطانيا الآن خارج الاتحاد الأوروبي. لكنه يوم حزن وليس يوم مجد، لأننا سنبقى دوماً جزءاً من أوروبا".
ونشرت صحيفة "اندبندنت" رسماً كاريكاتورياً ساخراً يظهر كبار المؤيدين لـ"بريكست" على هيئة أسماك مختلفة، مذكرة بالجدل الذي أحاط بملف الصيد وكاد أن ينسف اتفاقية تجارية بين لندن وبروكسل بعد أشهر من المحادثات.
وصوّرت الصحيفة جونسون على شكل سمكة مسطحة "بعيدة عن الأعماق عادة"، فيما رسمت فاراج على شكل سمكة "مملحة أو مدخنة".
أما صحيفة "ديلي ميل"، أكثر الصحف الشعبية معاداة للاتحاد الأوروبي، فقد ركزت كلياً على الوباء بعد أن أكدت بيانات جديدة تلقيح مليون شخص في بريطانيا.
ما بعد العملية الشاقة
ومنذ استفتاء 23 يونيو (حزيران) 2016 الذي فاز به مؤيدو الانسحاب من الاتحاد الأوروبي بنسبة 51,9 في المئة، تعاقب على حكم المملكة المتحدة ثلاثة رؤساء وزراء وسُجلت نقاشات برلمانية عاصفة وطويلة، فيما أرجئ موعد الانسحاب ثلاث مرات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبسبب هذه العملية الشاقة، لم تُنجَز المفاوضات الصعبة للتوصل إلى اتفاق للتبادل الحر بين لندن وبروكسل إلا عشية عيد الميلاد.
وعلى الرغم من إقرار النواب البريطانيين النص، الأربعاء، فإن النواب الأوروبيين لن يقروه إلا في الربع الأول من 2021. ما يتطلب تطبيقاً مؤقتاً.
ويوفر الاتفاق لبريطانيا إمكان الوصول إلى السوق الأوروبية الشاسعة التي تضم 450 مليون مستهلك، من دون رسوم جمركية أو نظام حصص. لكن الاتحاد الأوروبي يحتفظ بحق فرض عقوبات والمطالبة بتعويضات لتجنب أي منافسة غير عادلة في حال عدم احترام قواعده في مجال المساعدات الحكومية والبيئة وحق العمل والضرائب.
وعندما دقت الساعة 23,00، مساء الخميس، بالتوقيت المحلي، لم تعد المملكة المتحدة تطبق قواعد الاتحاد الأوروبي وانتهت حرية التنقل لأكثر من 500 مليون شخص بين بريطانيا و27 دولة في الاتحاد الأوروبي.
إلا أن جبل طارق، وهو جيب بريطاني قبالة سواحل جنوب إسبانيا، يبقى استثناءً، بعد إبرام صفقة في اللحظة الأخيرة مع مدريد لتجنب عراقيل حدودية كبيرة.
وفي ما يتعلق بالصيد البحري الذي كان موضوعاً شائكاً في المفاوضات حتى اللحظة الأخيرة، ينص الاتفاق على مرحلة انتقالية حتى يونيو 2026.
تحديات جونسون
وعلى الرغم من انتقاد رئيس حزب العمال المعارض كير ستارمر الاتفاق التجاري الذي اعتبره غير كافٍ، أبدى تفاؤله، معتبراً أن "سنواتنا الأفضل مقبلة".
وشكل إبرام الاتفاق ومصادقة البرلمان البريطاني عليه انتصاراً لجونسون الذي فاز في الانتخابات بعد ما وعد بإنجاز بريكست إلا أنه يواجه صعوبات كبيرة منذ انتشار جائحة كوفيد-19.
في الأثناء، شارفت المستشفيات البريطانية على بلوغ قدرتها الاستيعابية القصوى مع استمرار ارتفاع الإصابات بالوباء. وتشمل إجراءات الحجر الجديدة جزءاً كبيراً من السكان. ما يُغرق البلاد في أسوأ أزمة لها منذ 300 سنة.
إضافة إلى الجائحة، تواجه حكومة جونسون تحديات هائلة أخرى، إذ ستخسر قريباً حليفاً كبيراً مع انتهاء ولاية دونالد ترمب في الولايات المتحدة، وهو مؤيد كبير لبريكست ليحل محله الديموقراطي جو بايدن الأكثر قرباً من الاتحاد الأوروبي.
داخلياً، على جونسون توحيد صفوف البريطانيين الذين انقسموا حيال بريكست مع تصدع وحدة البلاد، إذ إن إيرلندا الشمالية واسكتلندا صوتتا ضد الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتحلمان بالاستقلال.