في زمن مضى كانت العلاقات الدولية أكثر بساطة، إذ التحالفات واضحة مثل الخصومات، وكانت الدول أكثر جموداً من الأفراد في كلتا الحالتين أي الخصومة والصداقة. لكن، لم تدم الحال على وضعها، بل باتت المصالح أكثر تشابكاً وتعقداً. وهذه السمات تزداد عندما تكون الدول أو بالأدق نظمها السياسية وقادتها براغماتيين عمليين.
وتنطبق هذه الحالة بدرجة كبيرة على شخصي الرئيسين بوتين وأردوغان، مما خلق حالة فريدة، وربما تكون حتى الآن غير مسبوقة. وقد تداعى كل هذا لديّ عندما التقى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف نظيره التركي شاويش أوغلو، الثلاثاء الماضي، وبحثا أزمتي سوريا وليبيا، وأعلنا أن هناك لقاءات تالية لكبار المسؤولين. وقبل المُضي قدماً في طرح حجم وتفرد وغرابة هذه العلاقات، ربما يجب أن نبدأ من بعض الخلفية التاريخية.
تاريخ ملتبس
المعروف أن السمة الغالبة على علاقات روسيا القيصرية والدولة العثمانية كان العداء والتنافس إلى حد الاشتباك العسكري. لكن حسابات غير دقيقة دفعت البلدين إلى التحالف، وطي صفحة الماضي في الحرب العالمية الأولى تحت المظلة الألمانية، وهو ما أسفر عن هزيمة البلدين، وانهيار نظامي الحكم القيصري والعثماني، لترث الدولة الماركسية إمبراطورية القياصرة، وينهي أتاتورك إمبراطورية العثمانيين، ويتباعد طريق البلدين بعد أن اختار الأخير التغريب فلسفة نظام حكم وحياة.
وعندما بدأت الحرب الباردة وجد الغرب بقيادة الولايات المتحدة حليفاً بالغ الأهمية الاستراتيجية يحتل المنطقة الجنوبية للعملاق السوفياتي، ويملك أكثر الجبهات أهمية في أي مواجهة عالمية محتملة، خصوصاً أن أحداً من أيام نابليون، حتى هتلر، لم يستطع الانتصار على موسكو من جبهتها الأوروبية، حيث الصقيع الشديد.
وتحولت تركيا إلى أهم موقع للاستراتيجية الغربية من حيث القواعد العسكرية أو مراكز الصراع الاستخباراتي بين العملاقين السوفياتي والأميركي. وكانت أنقرة هي طفل واشنطن المدلل الذي أدرك أهميتها الاستراتيجية، لكن لا شيء يبقى على حاله.
وبانتهاء الحرب الباردة وتغير المعادلات وبعد كثير من التحولات وصل إلى الحكم في موسكو فلاديمير بوتين اللاعب الاستراتيجي الماهر، وبعدها بسنوات وصلت حركة أردوغان إلى الحكم، لتبدأ قواعد جديدة للعبة، لكن من خلال عوامل وحسابات جديدة.
أسس وحسابات جديدة
كي نفهم أبعاد هذه العلاقات المتشابكة نحتاج إلى بعض التفصيل للتناقضات والمشتركات بين الجانبين، وربما يكون أول التناقضات وأكبرها، الاختلاف العميق بين المشروع السياسي التركي الحالي لبناء نفوذ إقليمي مبني على تصورات الإسلام السياسي، التي تعتبرها موسكو خصماً استراتيجياً فيما يتعلق بالمكون الإسلامي فيها، خصوصاً الشيشان وكذا فيما يتعلق بمستقبل واستقرار حلفائها في الجمهوريات السوفياتية الإسلامية السابقة أو بمنطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن قلقها وعدم ارتياحها التقليدي تجاه أي أداة استخدمها الغرب ومخابراته ضدها أو لتحقيق مصالحه، وهو ما يجعل من خصومتها تجاه توظيف الإسلام في السياسة له طبيعة استراتيجية عدائية واضحة.
وقد قاد هذا التناقض إلى اشتباك فعلي بين الجانبين في كثير من الجبهات، على رأسها السورية، وكان هذا الاشتباك غير مباشر في البداية، حتى تدخلت روسيا مباشرة في الصراع العسكري منذ 2015، وهو ما قاد في أكثر من موقف إلى صدام مباشر، من بينها إسقاط تركيا طائرة عسكرية روسية قرب حدودها، واعتذارها لاحقاً.
وهناك أيضاً الصراع حول إدلب، ثم الجبهة الليبية التي كانت محطة أخرى للاشتباك الروسي- التركي، من خلال مواجهة مباشرة بين مقاتلين روس مرتزقة منتمين إلى شركة (فاغنر) وكذا سلاح ودعم روسي ضد خبراء وسلاح تركي وقوات من الميليشيات المتشددة من "داعش" و"القاعدة"، وهي نفس مكونات الجبهة التركية في سوريا. أما الساحة الثالثة، فكانت في أذربيجان، أخيراً، عندما احتدمت المواجهة بين أرمينيا حليف روسيا السابق وأذربيجان حليف تركيا الحالي.
ترتيبات مشتركة
على عكس ما كان وما زال في أغلب الصراعات، اختارت موسكو في الأزمة السورية بشكل خاص عمل ترتيبات مشتركة مع تركيا، وأجبرت حليفتها إيران على قبول هذه الترتيبات المشتركة لإدارة الأزمة في سوريا، من خلال بدء عملية الأستانة كعملية وهمية للوصول إلى تسوية للأزمة، وهي في الحقيقة عملية إدارة للأزمة ولتنظيم قواعد الاشتباك في هذه الجبهة من دون الانزلاق للتصعيد الشامل، وللحفاظ على ماء وجه أنقرة التي لها دور أكبر في الاستراتيجية الروسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وما زالت هذه الآلية البالغة الصعوبة تعمل، وتمكنت من منع الانفلات حتى كانت عملية إدلب منذ عامين، حيث أوشكت الأمور آنذاك على الانفلات، لكن تيقن موسكو من ثبات الدعم الغربي والأميركي لأنقرة دفعها إلى قبول ترتيبات هشة غير مقنعة، تتضمن تثبيت وقف إطلاق نار، وتعهدات تركية بنزع سلاح الميليشيات المتطرفة وفصل هذه عن الفصائل المعتدلة، وهو ما لم تفعله تركيا بطبيعة الحال، بل أبقت على منطقة إدلب مستعمرة لها ومخزناً للعناصر المتطرفة الذين توظفهم في معركتها الكبرى، لخلق نفوذ إقليمي.
والمفارقة أن هذا نفس السبب الذي يجعلها الخصم الاستراتيجي لموسكو، لكن روسيا ما زالت تفضل الحوار واحتواء التصعيد في هذه الجبهة. وتفضيل الاحتواء هو عنوان ما فعلته أيضاً في أزمة ناغورنو قره باغ بين أذربيجان وأرمينيا، وما زالت تحاول أو تخلق مساراً له في ليبيا، وإن كان بشكل أقل وضوحاً حيث ما زالت هناك أطراف دولية وإقليمية تملك تأثيراً يحول دون انفراد موسكو وأنقرة بهذه الساحة الليبية.
مصادر المصالح المشتركة الروسية- التركية
على الأرجح، تراهن موسكو على مواصلة إبعاد أنقرة بأهميتها الاستراتيجية عن الغرب وواشنطن تحديداً، وأن يتراجع خطر تركيا العسكري في أي خطط غربية لمحاصرة روسيا مرة أخرى. وعلى الرغم من أن هذا ليس أمراً مؤكداً في مثل هذا النمط المعقد من العلاقات، فإنه من الواضح أن بوتين ما زال يراهن عليه. كما أن هناك مصالح اقتصادية ضخمة وتبادلاً تجارياً مهماً بين البلدين. والأهم طريق الغاز الروسي عبر الأراضي التركية.
ويطرح البعض هنا مبالغات عن دعم روسي مستتر لتركيا في صراعها مع دول شرق المتوسط الأخرى في مسألة الغاز، لكن لا يرى كثير من خبراء الغاز هذا في ضوء ضخامة الغاز الروسي ومقارنة بما هو مطروح حتى الآن في كل منطقة غرب المتوسط. كما يشير آخرون إلى تعاطف تقليدي روسي مع اليونان وقبرص المنتميتين إلى نفس الكنائس الأرثوذكسية مع روسيا في نزاعهما مع تركيا، ما يخفف كثيراً من الأحاديث حول دعم روسي مستتر لتركيا في هذا الصراع.
من ناحية أخرى، يمكن طرح تصور دور آخر لتركيا في الاستراتيجية الروسية بإبعاد الغرب عن ساحات الصراع السورية والليبية، والمراهنة على إمكانية التعامل لاحقاً مع أنقرة عندما تترسخ عزلتها وطلاقها عن الغرب. وفي الواقع أن هذه الحجة قد يرد عليها بأن التعامل مع الغرب قد يكون أسهل من تركيا ذات التوجهات الأيديولوجية المتشددة، على أنه في جميع الأحوال تبدو فكرة خلط الأوراق وتعقيدها متسقة مع طبيعة المخطط الاستراتيجي الروسي.
نتاج فريد من العلاقات
وفي النهاية، أسفرت هذه العلاقات المتشابكة عن نموذج ربما ما زال يتسم بالتفرد، لكنه يعكس حجم تشابكات وتعقيدات العالم المعاصر من مواجهة سياسية وعسكرية في عدد من الجبهات وفي الوقت نفسه التنسيق وعمل مقايضات في الجبهات ذاتها، ومن تبادل اقتصادي ضخم لا يقتصر على الاستثمارات والتبادل التجاري، بل يمتد أيضاً إلى حد صفقات سلاح استراتيجية، ومنها منظومة الدفاع الجوي (أس 400) رغم حدة التناقضات.
إننا نواجه نموذجاً شديد الخصوصية ومراهنات معقدة لدى الجانبين، وكل منهما يراهن أنه سيحقق مصالحه المستقبلية بشكل أفضل حتى لو كان على حساب الطرف الآخر عندما يتمكن من ذلك، لكن يبقى السؤال: إلى متى تستمر هذه المقامرات والحسابات الصعبة؟ وإلى متى يتحمل اللاعبون الدوليون والإقليميون الآخرون هذه المناورات؟