كان من الواضح أن إبرام أنقرة صفقة شراء منظومة "إس-400" الروسية وتجريبها ستقابلها عقوبات أميركية. والسؤال المفترض في هذه الحال، هل تركيا مستعدة لهذه الخطوة الأميركية التي هي أبعد من مجرد قضية تتعلق بالاستحواذ على المنظومة الدفاعية الروسية، لا سيما وأن واشنطن هي التي وضعت حليفتها أنقرة في هذا الموقع، من خلال عدم تزويدها بمنظومة دفاعية جوية، مما دفعها إلى البحث عن البدائل.
ولجأت أنقرة إلى شراء منظومة الدفاع الجوي "إس–400" مستغلة العرض الجذاب الذي قدمته روسيا بوصفه خياراً بديلاً، على خلفية رفض الولايات المتحدة خلال فترة رئاسة باراك أوباما طلب تركيا شراء منظومة الدفاع الصاروخي "باتريوت". وبعد أن لبّت موسكو تطلعاتها في ما يتعلق بالسعر والتسليم والإنتاج المشترك ونقل التكنولوجيا، نظرت أنقرة بإيجابية تجاه شرائها.
التهديد بعقوبات
وتدعي الولايات المتحدة، و"الناتو" بشكل عام، أن المنظومة الروسية "لا تنسجم مع أنظمة الناتو وأسلحته"، وهذا يعرّض المقاتلة "إف-35" التي تشارك تركيا تصنيعها إلى الخطر. وهددت الولايات المتحدة أنقرة بعقوبات بسبب هذه الصفقة، لكنها لم تبدأ في تنفيذها إلا أمس، خلال أيام ترمب الأخيرة في البيت الأبيض، وكانت ذات طابع محدد، ولم تشمل اقتصاد تركيا الذي يمر بمصاعب.
واقتصرت العقوبات ضد تركيا، بعد سنوات من انتظار واشنطن فرضها، على حظر تصدير الأسلحة للمؤسسة الحكومية التركية المكلّفة شراءها، ومنع قادتها من زيارة الأراضي الأميركية، حينما استندت واشنطن إلى قانون العام 2017، المعروف باسم "مواجهة خصوم أميركا من خلال العقوبات" (كاتسا)، والذي ينص على فرض عقوبات تلقائية عندما تبرم دولة ما "صفقة كبرى" مع قطاع صناعة الأسلحة الروسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهنا نذكر أن روسيا باعت في وقت سابق صواريخ "إس-300" إلى أكثر من دولة عضو في "الناتو"، مثل بلغاريا واليونان وكرواتيا وسلوفينيا، أما أولى الدول التي اشترت "إس-400" فهي بيلاروس في 2016، والصين في 2018، والدولة التي ترغب موسكو في بيع المنظومة إليها، واتفقت معهما بشكل جزئي، وهي الهند.
مرحلة جديدة
وتدخل العلاقة بين واشنطن وأنقرة مرحلة جديدة بعد العقوبات الأميركية التي استهدفت قطاع الصناعات الدفاعية ورئيسها إسماعيل ديمير، في إجراء اتخذته إدارة الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترمب خلال أيامها الأخيرة في البيت الأبيض، وفي الوقت ذاته تفتتح به السياسة المقبلة التي سيسير عليها الرئيس المنتخب جو بايدن.
وشكّل شراء أنقرة صواريخ "إس-400" من موسكو أبرز نقاط الخلاف مع واشنطن، إضافة إلى قضية فتح الله غولن، والامتداد السوري لـ "حزب العمال الكردستاني" المصنف على قوائم الإرهاب في "الناتو".
ومما لا شك فيه أن العقوبات ستؤثر في علاقات أنقرة مع الإدارة الأميركية المقبلة، ويجب عدم تجاهل أن جوهر المشكلة بين البلدين وجذورها بدأ من سوريا، بعد تجاهل إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما مخاوف تركيا، الدولة الحليفة الاستراتيجية لواشنطن، عندما دعمت إدارة أوباما الامتداد السوري لـ "حزب العمال الكردستاني" الذي يسيطر اليوم على مساحات شاسعة من الأراضي السورية.
بداية معقدة
وستكون هناك بداية معقدة في التعامل بين أنقرة وإدارة بايدن، والتي تنطلق مع إرث ثقيل، لا سيما إذا أرادت تركيا الرد على العقوبات الأميركية والانتقام بالابتعاد من خطط ومشاريع واشنطن ودول أوروبية، بخاصة في سوريا، وبالتالي ستكون أمام خيارين، إما فتح صفحة جديدة للعمل مع بايدن أو التصعيد.
ولا بدّ هنا من التذكير بمؤتمر صحافي بعد محادثات بين وزير خارجية تركيا مولود شاويش أوغلو ونظيرته السويدية آن ليند قبل أشهر عدة، حين أشارت الأخيرة إلى دعوات الاتحاد الأوروبي لتركيا بسحب قواتها من شمال شرقي سوريا. وقالت، "الموقف القوي للاتحاد لا زال كما هو، مستمرون في حثّ تركيا على الانسحاب". وقال شاويش أوغلو في رد على نظيرته السويدية، "تحاولون إلقاء درس عن حقوق الإنسان والقوانين الدولية عبر التصرف بتعال واستخدام كلمة حثّ"، وتابع، "الاتحاد الأوروبي لا يحث تركيا على الانسحاب من شمال غربي سوريا لأن ثلاثة ملايين لاجئ آخرين سيأتون إلى تركيا ثم إلى الدول الأوروبية". وفي السياق نفسه، صرّح المبعوث الأميركي السابق إلى سوريا جيمس جيفري قبل أيام بـ "أن أنقرة تمتلك الدعم من أميركا وحلف شمال الأطلسي وأوروبا لوجودها شمال غربي سوريا".
ومن خلال نظرة على الخريطة السورية، نجد أن واشنطن تدعم "قوات سوريا الديمقراطية" في الشمال الشرقي، وهو ما يهدد وحدة سوريا وتركيا ودولاً أخرى بما فيها روسيا في شمال القوقاز وجنوبه، وسبق أن كشف الجنرال ريموند توماس قائد العمليات الخاصة في الجيش الأميركي العام 2017، خلال جلسة حوارية على هامش مؤتمر "إسبين" الأمني في ولاية كولورادو، أن اطلاق تسمية" قوات سوريا الديمقراطية" كان بناء على طلب أميركي من أجل التغطية على اسم تنظيم ""YPG وارتباطه بحزب العمال الكردستاني (PKK)الذي تحاربه تركيا منذ سنين، والمصنّف منظمة إرهابية في تركيا والولايات المتحدة الأميركية ودول إقليمية عدة.
رسالة أميركية
ويجب عدم إغفال حقيقة أن العقوبات على تركيا هي في الوقت نفسه رسالة أميركية إلى موسكو باستهداف الأطراف التي تتعامل وتبرم الصفقات الكبرى معها، ولذا كانت روسيا أول دولة تدين تلك الإجراءات بحق أنقرة.
وسيكون للعقوبات الأميركية تأثير في عرقلة المشاريع التركية، لا سيما الطائرات من دون طيار، والتي شاركت في المعارك من سوريا مروراً بليبيا إلى ناغورنو قره باغ، ومدى تأثير هذه الضغوط على الصناعات العسكرية التركية سيكون مرتبطاً بحجم اعتماد أنقرة على التكنولوجيا الأميركية، وليس مستبعداً أن يتكرر سيناريو مشابه لما حصل في أزمة "إس–400"، بحيث ستجد أيضاً تركيا البدائل، وقد تدفعها تلك العقوبات أكثر نحو زيادة التعاون مع روسيا، خصوصاً في سوريا حيث تتقاطع مصالح موسكو وأنقرة في الحفاظ على وحدة الأراضي السورية ومحاربة الانفصالية، وهو ما يجعل التفاهمات حول تفاصيل أخرى أكثر سهولة، تضمن من خلالها أنقرة تأمين حدودها من البحر الأبيض المتوسط، وصولاً إلى المثلث الحدودي التركي – العراقي – السوري، على عمق يمنع إقامة أية كيانات انفصالية، ويمهد لعودة آمنة للاجئين.
ويبقى القول إن العقوبات الأميركية على تركيا تضع أنقرة أمام خيارين، إما فتح صفحة جديدة مع بايدن، أو التقارب أكثر مع موسكو.