انطلقت إشارة البدء اليوم في السعودية للنسخة الـ43 لرالي داكار 2021، أشهر سباق للراليات الصحراوية على مستوى العالم، بمشاركة أكثر من 559 متسابقاً من 49 دولة، والذي يستمر 13 يوماً، بمسافة تبلغ 7700 كيلو متر بمختلف أنحاء البلاد متنوعة التضاريس.
ومع انطلاق إشارة البدء لن تنطلق فحسب المئات من أفضل وأسرع وأحدث وأقوى سيارات السباق، لكن ستنطلق ذكريات متلاحقة عن رالي السيارات الأشهر والأخطر والأكثر تنقلاً بين ربوع الأرض.
الرالي الأكثر إثارة ووعورة وخطورة لا يحمل بين طياته فحسب أرقاماً قياسية في السرعات، أو حوادث تاريخية في السباقات، أو وجوهاً سطعت وأخرى خفتت في ملف الراليات، لكنه يحمل بين طياته سياسة واقتصاداً وخسارة وأرباحاً، وأيضاً إرهاباً.
تيري سابين
يعتقد البعض أن المحطة التأسيسية الأولى للرالي الأشهر في العالم هي داكار وباريس، لكن الحقيقة أنها ليبيا. ففي عام 1977، ضل متسابق الدراجات النارية الفرنسي تيري سابين طريقه في الصحراء الليبية أثناء مشاركته في سباق "أبيدجان - نيس"، إذ أخذته معالم الصحراء الأشبه بالأحلام المتواترة، وتاه بضعة أيام قبل أن يتم العثور عليه وإنقاذه، لكن الأيام التي أمضاها سابين تائهاً في الصحراء الكبرى أدت إلى فكرة كبرى. فقد عقد سابين العزم أنه في حال إنقاذه، سيعمل على جذب محترفي وهواة القيادة في الصحراء وتنظيم سباق في هذه المنطقة الخلابة صحراوياً. وهذا ما حدث تماماً. كرس سابين ما تبقى من سنوات حياته لـ"رالي داكار".
عاد سابين إلى فرنسا ومعه حلمه بإطلاق سباق سيارات يبدأ مساره في أوروبا، ومنها إلى الجزائر، ومنها إلى مدينة أغاديز في النيجر، وينتهي في داكار عاصمة السنغال. وتحول الحلم إلى حقيقة بسرعة فائقة. وفي 26 ديسمبر (كانون الأول) 1978، شهد "بلاس دي تروكاديرو" في باريس انطلاق الرالي الذي أصبح الأشهر على ظهر الكوكب.
لذة التحدي
يومها، انطلق 170 متسابقاً في رحلة طولها عشرة آلاف كيلو متر. ونجحت 74 مركبة في اجتياز كل من الجزائر والنيجر ومالي وفولتا العليا والوصول إلى "بلاس دو إندبندونس" في داكار عاصمة السنغال. نجاح الرالي المذهل ولذة التحدي الرهيب رسخت الشعار الذي رفعه سابين عاكساً روح الرالي "تحدٍ لمن يذهب، وحلم لمن يبقى في الخلف".
ومضى الرالي في مسيرته السنوية مكتسباً شعبية وانتشاراً غير مسبوقين. وفي عام 1981، تحولت المشاركة في الرالي، سواء كمتسابقين أو مشاركين، إلى أمر بالغ الصعوبة، نظراً للإقبال الشديد. وأخذ سابين يطور ويحدث ويضيف مسارات ويجود في التفاصيل حتى كان "العام الأسود" عام 1986. في هذا العام، تحطمت مروحية كانت تقل سابين فوق الصحراء نفسها التي شكلت جانباً كبيراً من حياته وحلمه بسبب عاصفة شديدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حادث مفجع
الحادث المفجع أثر على روح الرالي بعض الوقت، لكن سرعان ما تغلب الجميع على المأساة مستكملين حلم سابين. وظل الرالي ينعقد سنوياً، مسلطاً الضوء على موديلات جديدة ووجوه شابة ومغامرات متفردة. وفي عام 1989، قرر منظمو الرالي إضافة ليبيا إلى مسار الرالي. وفي عام 1991، فاجأ العقيد الراحل معمر القذافي المتسابقين بزيارة إلى مقر استراحتهم في الصحراء الليبية. وفي عام 1992، كان لوصول اختراع الـ"جي بي إس" أثر كبير على الرالي، وذلك لإمكانية تحديد المسارات وإنهاء ملف فقدان الطريق في الصحراء متناهية الأطراف.
وعلى الرغم من النجاح الكبير للرالي واستمراره سنوات طويلة، فإن الوقت كان قد حان لضخ حدث جديد أو تغيير كبير، لا سيما أن عدد المشاركين بدأ في الانخفاض، لذلك أصبحت كيب تاون في جنوب أفريقيا نقطة النهاية بدلاً من داكار، وهو ما أثبت نجاحاً نسبياً. وتواترت القصص والحكايات عن المشاهد الأخاذة التي أضيفت إلى مسار الرالي، لكن مشكلات عدة اعترت الرالي.
تغيير المسار
تغيير المسار وضع المتسابقين في مواجهة صريحة أمام مشكلات طبيعية وبشرية عدة، مثل عواصف رملية، والمرور عبر تشاد الممزقة بفعل الحرب، والمرور على نهر على أرض مرتفعة في ناميبيا بالإضافة إلى غضب متكرر للطبيعة في عديد من الدول الواقعة على خط السير. وفي العام التالي، عاد الرالي إلى مساره الأصلي، باريس - داكار. وفي هذا الوقت، كانت خمس فئات من المركبات قد تم اعتمادها في السباق: الدراجات النارية، والدراجات رباعية الإطارات، والسيارات (تي1، وتي2)، والمركبات الخفيفة (تي3، وتي4)، والشاحنات (تي5).
وتوالت السنوات، وفي كل سنة يجري المنظمون تغييراً في خط البداية أو النهاية، أو إضافة أنواع جديدة من المركبات، أو يسفر السباق عن نتائج أو حوادث غير متوقعة. وفي عام 1997، حفرت الألمانية جوتا كلاينشميت لنفسها مكاناً في تاريخ رالي السيارات. وكانت أول امرأة تصعد منصة التويج بفوزها بالمكانة الخامسة في الرالي. وكانت قد شاركت غير مرة قبلها، لكن في هذا العام قادت "باغي" على الرغم من أنها في الأصل قائدة دراجات نارية. لم يكن ذلك هو قمة الإنجاز بالنسبة لكلاينشميت، بل بداية الطريق للإنجاز الكبير. فقد تمكنت في عام 2001 من الفوز بالسباق، لكن هذه المرة بقيادة سيارة.
داكار في مصر
شهد عام 2000 تغيراً كبيراً أسهم كثيراً في جذب أعداد كبيرة من المتسابقين والمشاهدين، وذلك بمرور الرالي عبر مصر، وذلك في دورته الـ22. خط سير الرالي كان عبوراً لقارة أفريقيا من السنغال في الغرب، وصولاً إلى مصر في الشرق. وبلغ عدد المتسابقين في هذا العام 400 متسابق. وكانت الحماسة واضحة وضوح الشمس، إلا أن الرالي هذا العام كان قد بدأ يعاني آثار ما يجري في عدد من الدول الأفريقية من تصاعد للتهديدات الإرهابية. وتمت عملية تتويج الفائزين عند سفح أهرامات الجيزة المصرية في هذا العام. وفي عام 2003، جرت مراسم التتويج للمرة الثانية عند سفح الأهرامات، وذلك احتفاء بربع قرن على رالي داكار.
لكن رياح الإرهاب في السنوات التالية أتت بما لا يشتهيه رالي داكار ومتسابقوه ومتباعوه. عام 2008 حدث التحول الأكبر. فتحت وطأة التهديدات الإرهابية التي تواترت إلى المنظمين والمتسابقين، لا سيما في المسار بين موريتانيا في اتجاه داكار. وأمام تعاظم التهديدات الأمنية وخوفاً على سلامة المشاركين، تم اتخاذ القرار الصعب، ألا وهو إلغاء هذا المسار، لا سيما أن عدداً من السياح الفرنسيين في موريتانيا قتلوا في عمليات إرهابية.
وفي العام التالي، عبر الرالي المحيط الأطلنطي، واستقر في أميركا اللاتينية، وتحديداً في بوينس أيرس، لكنه ظل محتفظاً باسمه! وشهد العام التالي حضوراً غير مسبوق للمشجعين، إذ اصطف نحو أربعة ملايين مشجع في تشيلي والأرجنتين لتحية المتسابقين.
إلى أميركا اللاتينية
استمر تنظيم "رالي داكار" في أميركا اللاتينية حتى كان قرار آخر جريء ومثير لانتقاله إلى السعودية في عام 2020، وقال المدير العام للرالي الفرنسي ديفيد كاستيرا وقت الإعلان عن تحول الرالي إلى السعودية: "هي دولة جديدة وقارة جديدة للرالي"، حيث يضاف إقامة الرالي في السعودية إلى نجاحها اللافت في تنظيم رالي الجائزة الكبرى لـ"فورمولا 1" للسيارات، وغيرها من الأحداث الرياضية العالمية الكبرى في الفترة الأخيرة.
ويقول المنظمون إن غنى السعودية بالمناظر الطبيعية قيمة مضافة للرالي، إذ يضفي عليه النكهة المطلوبة، ألا وهي الاكتشاف والاستكشاف. ومسار 2021 سيكون رحلة استكشافية.
يشار إلى أن الأسماء العربية في "رالي داكار" على مدار تاريخه قليلة، ولا تخرج عن الجزائري ميل عطوات الذي حاز المركز الأول لفئة الشاحنات في عام 1980، والقطري سعيد الهاجري الحائز المركز السادس في رالي باريس عام 2002، والقطري ناصر العطية الذي أحرز المركزين الثاني والأول في عامي 2010 و2011.
شرور الحوادث
الرالي الأشهر في العالم لا يخلو كذلك من شرور حوادث المتسابقين. وتعد الدراجات النارية هي الفئة الأعلى حصداً للأرواح نظراً لخطورتها مقارنة بباقي الفئات، ولكن في كل عام، يبذل المنظمون والقائمون على أمر الرالي قدراً أكبر من الجهد لتأمين المتسابقين والمتابعين.
ولا يخلو الأمر من توجيه انتقادات هنا وهناك للرالي. فهناك من يتهم الرالي بأنه يسهم في تدمير البيئة، سواء الطبيعية، أو مناطق الآثار التي تقع على مسار الرالي في دول مختلفة. ليس هذا فقط، بل واجه الرالي عدداً من الانتقادات أثناء سنوات انعقاده في دول أميركا اللاتينية، إذ اتهم بأنه يعرض السكان الأصليين وأماكن إقامتهم للخطر.
داكار كلاسيك
في المقابل، يقول منظمو الرالي إنه تم اختيار مساره في السعودية بعناية فائقة بالتعاون الكامل مع المؤسسات الحكومية بهدف الحفاظ على التراث الثقافي والبيئي. كما يؤكدون أن الرالي منذ عام 2010 نجح في تحييد التأثيرات الكربونية المباشرة للمركبات المشاركة في الرالي، وذلك من خلال مشروع "مادري دي ديوس أمازون"، وبدعم من برنامج الأمم المتحدة لخفض الانبعاثات الناتجة عن إزالة الغابات وتدهور الغابات.
تدابير السلامة
تتضمن تدابير السلامة هذا العام سترات الوسائد الهوائية الإجبارية لمتسابقي الدراجات النارية، مع تحذيرات صوتية لتحذير المتسابق قبل اقترابه من "المناطق البطيئة"، حيث يجب عليه تهدئة السرعة إلى 90 كم/ الساعة.
وبالطبع، يلقي "كوفيد-19"، أو كورونا المستجد، بظلاله على الرالي، حيث تم تأجيل خطط إقامة مراحل للرالي في سلطنة عمان والإمارات العربية المتحدة والأردن. كما سيكون على المتسابقين والمشاركين الالتزام بالإجراءات الاحترازية مع الخضوع للاختبارات الدورية بالشكل الذي يتوافق والقواعد التي تم تطبيقها في "فورمولا 1".