أمضت الشركات غالبية الأشهر التسعة الماضية وهي تكافح للتكيف مع الظروف غير العادية التي ولدت من رحم أزمة كورونا، في حين لا يزال العالم متسلحاً بعدد من اللقاحات، ضد معركة ضارية مع جائحة "كوفيد-19"، ما يمنح الأمل بوجود ضوء خافت في نهاية نفق كورونا المظلم، ما لم يصطدم العالم بقطار كوروني جديد. هذا ما جاء في تقرير مشترك للمنتدى الاقتصادي العالمي لدافوس، أعد بالشراكة مع "ماكينزي وشركاه".
انعكس هذا التفاؤل في لهجة التقرير ومضمونه، متوقعاً أن يكون عام 2021 انتقالياً وعام التحول باستثناء أي كوارث غير متوقعة، وبالتالي يمكن للأفراد والشركات والمجتمعات أن يبدأوا في التطلع إلى تشكيل مستقبلهم بدلاً من مجرد المضي قدماً في الحاضر.
ويجتمع المنتدى بمشاركة قادة العالم وصناع القرار لرصد المخاطر التي تولدت عن "كوفيد-19" في أعنف جائحة صحية يواجهها العالم منذ عقود، ومحاولة إيجاد حلول لمشكلات باتت اليوم أكثر تعقيداً مع نسف وباء كورونا لسنوات طويلة من الجهود العالمية المشتركة لمحاربة الفقر وتضييق الفجوة القائمة بين الأغنياء والفقراء ومحاربة الإرهاب والتصدي للفساد والمخاطر السيبرانية ومواجهة تحديات التغير المناخي في عالم أصبح فيه نفوذ الإنترنت وتقنية المعلومات هما ما يسيطر عليه.
وبحسب التقرير، سيكون الوضع الطبيعي في العالم مختلفاً هذا العام، لكنه لن يعني العودة إلى الظروف العالمية التي كانت سائدة عام 2019، مضيفاً "تماماً كما يستخدم مصطلحا ما قبل الحرب، وما بعد الحرب، بشكل شائع لوصف القرن العشرين، من المرجح أن تناقش الأجيال القادمة عصور ما قبل الجائحة وما بعدها"، وراصداً كيفية تأثير الوباء على توجهات وفرص انتعاش الاقتصاد العالمي، وكيف ستتكيف الأعمال، وكيف يمكن أن يتغير المجتمع إلى الأبد نتيجة لأزمة كورونا.
وأشار إلى عودة تدريجية في ثقة المستهلك، ما سينعكس إيجاباً على الإنفاق، مع إطلاق العنان للطلب المكبوت، وهي تجربة، بحسب التقرير، شهدتها جميع فترات الانكماش الاقتصادي السابقة التي عاصرها العالم.
ومع ذلك، فإن أحد الاختلافات أن الخدمات تضررت بشدة هذه المرة من تداعيات الجائحة، بالتالي من المرجح أن يؤثر الارتداد على تلك الأعمال، لا سيما تلك التي لها عنصر مجتمعي، مثل المطاعم وأماكن الترفيه.
تغيير هيكلي طويل الأجل
في المقابل، يرى واضعو التقرير أن السفر الدولي لا يزال محبطاً نظراً للقيود الحدودية المرتبطة بالوباء والمخاوف في شأن الصحة والسلامة مع تفشي موجات جديدة من فيروس كورونا. ورجح انتعاش السفر التجاري الإقليمي والمحلي أولاً، في وقت قد ترغب بعض الشركات والقطاعات في استئناف المبيعات الشخصية واجتماعات العملاء في أقرب وقت ممكن. ووجدت دراسة استقصائية لمديري سفر الأعمال أنهم يتوقعون أن يكون الإنفاق على سفر الأعمال في عام 2021 نصف ما كان عليه عام 2019 فحسب، في حين أن السفر التجاري سيعود على نطاق واسع، كما سيولد النمو الاقتصادي العالمي طلباً جديداً.
وأضاف التقرير أن المديرين التنفيذيين الذين استطلعت "ماكينزي" آراءهم، يعتقدون أن السفر قد لا يتعافى أبداً إلى مستوى 2019.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
باختصار، السفر الترفيهي المدفوع بالرغبة البشرية في الاستكشاف والاستمتاع لم يتغير، لكن الاستخدام الفعال للتكنولوجيا أثناء الوباء، والقيود الاقتصادية التي سيواجهها عديد من الشركات لسنوات بعده، يمكن أن ينذرا ببدء تغيير هيكلي طويل الأجل في سفر الأعمال.
مكاسب الإنتاجية الممكنة رقمياً
من جهة ثانية، توقع التقرير المشترك لـ"دافوس وماكينزي"، استمرار التسارع الكبير في استخدام التكنولوجيا والرقمنة وأشكال العمل الجديدة، إذ أفاد عديد من المديرين التنفيذيين بأنهم تحركوا أسرع من 20 إلى 25 مرة مما كانوا يعتقدون في بناء سلاسل التوريد، وتحسين أمن البيانات، وزيادة استخدام التقنيات المتقدمة في عملياتهم.
وأشار إلى أن تفشي أزمة فيروس كورونا قد سرع التحول نحو الذكاء الاصطناعي والرقمنة لسنوات عدة، منوهاً بأن هذا التحول كان الأسرع في آسيا. وكان استطلاع لـ"ماكينزي" نشر في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، كشف عن أن 80 في المئة من تفاعلات الشركات مع عملائها كانت رقمية خلال الجائحة، أي أكثر بثلاث مرات مما كانت عليه قبل اندلاع الأزمة.
سلوك التسوق تغير إلى الأبد
في سياق متصل، عمد التقرير إلى رصد سلوك التسوق بعد تفشي جائحة كورونا، مشيراً إلى أن 9 من أصل 13 دولة رئيسة شملتها دراسة "ماكينزي"، قال فيها ثلثا المستهلكين في تلك البلدان، إنهم جربوا أنواعاً جديدة من التسوق، ومن إجمالي دولة 13، قال 65 في المئة أو أكثر إنهم يعتزمون الاستمرار في تلك التجربة، أي بالمعنى الضمني من الأفضل للعلامات التجارية التي لم تكتشف كيفية الوصول إلى المستهلكين بطرق جديدة اللحاق بالركب، وإلا ستتخلف عنه.
وتشير التطورات إلى سرعة أكبر للتسوق الرقمي في الأسواق النامية مثل البرازيل والهند. ورصد التقرير توجهاً أكبر للمستهلكين للتسوق عبر الإنترنت في أوروبا، لكن ليس بدرجة الحماسة الكبيرة الموجودة في بريطانيا والولايات المتحدة.
التحول إلى البيع بالتجزئة
يشير التقرير إلى أن التحول للبيع بالتجزئة عبر الإنترنت بات اليوم حقيقة واقعة، وتوقع استمرار هذا النمط من البيع وبشكل أبرز في الولايات المتحدة، موضحاً أنه كان متوقعاً أن يصل تغلغل التجارة الإلكترونية إلى 24 في المئة بحلول عام 2024. ويذكر أنه كان قد بلغ 33 في المئة من إجمالي مبيعات التجزئة في يوليو (تموز) 2020.
بعبارة أخرى، شهد النصف الأول من 2020 زيادة في التجارة الإلكترونية تعادل تلك التي حدثت في السنوات العشر الماضية. ففي أميركا اللاتينية، لم تكن البنية التحتية للمدفوعات والتوصيل بالقوة نفسها، مع تضاعف استخدام التجارة الإلكترونية من 5 إلى 10 في المئة. وفي أوروبا، بات الاعتماد الرقمي الإجمالي عالمياً تقريباً 95 في المئة، مقارنة بـ81 في المئة في بداية الوباء. وفي الأوقات العادية، كان الوصول إلى هذا المستوى يستغرق عامين إلى ثلاثة أعوام.
واللافت، بحسب التقرير، أن أكبر الزيادات جاءت في البلدان التي كانت سابقاً حذرة نسبياً في شأن التسوق عبر الإنترنت مثل ألمانيا ورومانيا وسويسرا، على سبيل المثال، إذ كان لديها أدنى ثلاثة معدلات ولوج عبر الإنترنت قبل أزمة كورونا، ومنذ ذلك الحين، زاد الاستخدام 28 و25 و18 نقطة مئوية على التوالي، أكثر من أي أسواق أخرى.
إعادة التوازن لسلاسل التوريد
في المقابل، أظهر تقرير "دافوس وماكينزي" نقاط ضعف في سلاسل التوريد الطويلة والمعقدة للعديد من الشركات بسبب كورونا، وأنه عندما يخيم الظلام في بلد واحد أو حتى مصنع واحد، يؤدي نقص المكونات الأساسية إلى توقف الإنتاج.
وتحدث التقرير عما سماه "بدء عملية إعادة التوازن الكبير في سلاسل التوريد"، متوقعاً أن يشهد ربع صادرات السلع العالمية، أو 4.5 تريليون دولار أميركي هذا التحول بحلول عام 2025، مضيفاً أنه بمجرد أن بدأت الشركات في دراسة كيفية عمل سلاسل التوريد الخاصة بها، أدركت ثلاثة أشياء هي: أولاً، إن الاضطرابات ليست غير عادية، حيث يمكن لأي شركة أن تتوقع إغلاقاً يستمر لمدة شهر أو نحو ذلك كل 3.7 سنوات، بالتالي فإن مثل هذه الصدمات أصبحت سمات يمكن التنبؤ بها لممارسة الأعمال التجارية، وتحتاج إلى إدارتها مثل أي صدمات أخرى. ثانياً: تضييق الفروق في التكلفة بين البلدان المتقدمة وعديد من البلدان النامية. ففي التصنيع، يمكن للشركات التي تتبنى مبادئ الصناعة (بمعنى تطبيق البيانات والتحليلات والتفاعل بين الإنسان والآلة والروبوتات المتقدمة والطباعة ثلاثية الأبعاد)، بالتالي تعويض نصف فرق تكلفة العمالة بين الصين والولايات المتحدة. وثالثاً، ليس لدى معظم الشركات فكرة جيدة عما يجري في أسفل سلاسل التوريد الخاصة بها، حيث قد تلعب الفئات الفرعية أدواراً صغيرة، لكنها مهمة، وهو المكان الذي تنشأ فيه معظم الاضطرابات.