بعث الاتحاد الأوروبي برسالة إلى تركيا مفادها بأنه في قمة ديسمبر (كانون الأول) سيخفف العقوبات المفروضة على تركيا في حال قامت الأخيرة بالحد من التوتر في شرق البحر الأبيض المتوسط، وحذر من أنه بخلاف ذلك سيتم توسيع نطاق العقوبات.
من جانبه، قال الرئيس رجب طيب أردوغان إن "الاتحاد الأوروبي يحظى بأولوية على أجندة تركيا، وأنهم يرون مستقبل تركيا في أوروبا". وقد استخدم هذه العبارة ثلاث مرات في الشهر الماضي في سياق اتخاذ خطوات للتخلص من العقوبات.
كذلك، وجه وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو رسائل مماثلة مرات عدة ولا يزال يفعل.
وقد شهدت حكومة حزب العدالة والتنمية في السنوات الست الماضية العديد من الأزمات مع الاتحاد الأوروبي.
أُولها عندما لاحظ أردوغان أن الاتحاد الأوروبي يرى أحداث 15 يوليو (تموز) 2016 كسيناريو صممه أردوغان للسيطرة الكاملة على المعارضة، إذ إن الأوروبيين لا يعتقدون أنه كان هناك انقلاب حقيقي، ولا يزال أردوغان غاضباً من هذا الموقف.
وهناك قضايا أخرى مثل قضية اللاجئين، والأزمة الليبية، والتوترات في شرق البحر المتوسط، والأزمة مع اليونان. ولم يحصل أردوغان على ما يريد من هذه الأزمات. مع ذلك، فقد قام بتحول مفاجئ وحاول أن يتقمص دور "داعية سلام".
تريد حكومة حزب العدالة والتنمية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولكنها في الوقت نفسه تعارض التدخل في شؤونها السياسية.
والحقيقة هي أن أردوغان يريد الاستفادة من الفرص التجارية المتاحة في أوروبا فحسب. لأن نظام الحكم الذي يكمن في قلبه ليس هو ما يطبقه الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية، بل مثله الأعلى هو "نظام الملالي" في إيران.
وربما يسأل البعض: لماذا؟
يبدو أن هناك سببان رئيسان وراء رغبة الرئيس رجب طيب أردوغان في تطبيق النموذج الإيراني.
الأول: شخصي، والثاني: إيديولوجي.
بالنسبة إلى الشخصي، فإن أردوغان بعدما اتخذ جميع الخطوات إثر سيناريو الانقلاب في عام 2016، ليضع عائلته وأقاربه والأشخاص الذين يثق بهم كثيراً في المفاصل المهمة والحيوية في الدولة، قام بتغيير مهم في ميثاق الحزب الذي ينص على أنه لا يحق لرئيسه أن يترأسه أكثر من ثلاث فترات، فرفع هذا الحاجز ليفتح الطريق أمام انتخابه لفترات غير محدودة.
ثم غير المادة الدستورية التي تنص على أنه لا بد لرئيس الجمهورية أن لا يكون حزبياً.
ولعب بالنظام القضائي ليبدد كل السلطات القضائية التي يمكن أن تحاكمه مستقبلاً.
ثم أنشأ في نظر أنصاره صورة "خليفة الأمة"، وذلك من خلال الأفلام والمسلسلات التي يتم إنتاجها وبثها منذ خمس سنوات (مثل: "قيامة أرطغرل"، "عاصمة عبد الحميد"، "الصحوة... السلاجقة العظام" و"عبد الحميد الثاني").
وأخيراً، استخدم المصطلحات الدينية على أكمل وجه للتستر على قضايا الفساد والرشوة. وكان أهم هذه المصطلحات "الخلافة".
وفي سياق الحديث عن "الخلافة"، لا يمكنني أن أمر من دون أن أتطرق لحادثة مهمة اختبرتها، وتلقي الضوء على مدى تأثير هذه الدعاية في أذهان أنصاره.
ففي عام 2014، نفذت النيابة العامة عملية "فساد ورشوة" ضد بعض الوزراء ورجال أعمال من حزب العدالة والتنمية بمن فيهم نجل رجب طيب أردوغان، المدعو: بلال أردوغان.
وفي تلك الأيام التقيت بزميل لي ترجع معرفتي به إلى أيام دراستنا معاً في الثانوية في إسطنبول، وقد أصبح بعد ذلك مستشاراً لأردوغان، ويعمل حالياً أستاذاً في جامعة مقربة من حزب العدالة والتنمية.
وكانت العملية الأكبر في تاريخ تركيا في مجال مكافحة الفساد والرشوة، إذ تم الكشف عن فساد يبلغ مليارات الدولارات.
وعندما سألت هذا الزميل السابق عن رأيه في شأن "سجلات المحكمة التي تقول إن الفساد الناتج من الرشوة بلغ حوالى 87 مليار دولار". أجاب: "رجال الشرطة وقضاة النيابة خونة لأنهم كشفوا عن الأموال التي جُمعت بشكل غير رسمي لخدمة الأمة، إضافة إلى أن خُمس بيت المال مُلك للخليفة. وهذا له مكان في الإسلام".
فهذا الرجل ليس مواطناً عادياً، بل إنه ما زال في منصب مهم ومقرباً من أردوغان.
نعم، إنهم سرقوا ولا يزالون يسرقون وينهبون مليارات من أموال الشعب، ثم عندما يُفضحون سرعان ما يتسترون بغطاء دينيّ: "حق الخليفة" في خمس بيت المال.
ولكنهم يستخدمون مفهوم "الخلافة" بدلاً من تعبير "آية الله" المثير للاشمئزاز ولا يحظى بشعبية في المجتمع التركي.
وتتطرق وسائل الإعلام الخاضعة لسيطرة أردوغان بين الحين والآخر إلى الحديث عن "الخلافة".
أجل، إن الرئيس لا يريد التقاعد ولا يفكر في نقل الكرسي إلى شخص آخر، لأنه يدرك جيداً أنه إذا ما غادر منصبه ستتم محاكمة العديد من أفراد أسرته وأقاربه ورجاله. لهذا السبب هو يرغب إما في الرئاسة الدائمة أو في منصب على غرار نظام "آية الله" أعلى من الرئاسة.
وبالنسبة إلى الجانب الأيديولوجي، فإن جميع الخطوات التي اتخذها أردوغان في السنوات الست الماضية هي الخطوات نفسها التي اتخذها الخميني في إيران بعد الثورة عام 1989.
ولا ننسى أن أكثر الأشخاص الذين ساعدوه في اتخاذ هذه الخطوات هم كبار مستشاريه المعروفين بتعاطفهم مع النظام الإيراني والمعجبين بالخميني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد كانت أهم خطوة بعد الثورة في إيران هي إنشاء الحرس الثوري.
وبالفعل، سلك أردوغان المسار نفسه وأنشأ ميليشيات "الحركة الشعبية الخاصة" عن طريق كبير مستشاريه الجنرال المتقاعد عدنان تَانْرِيفِيرْدِي.
وتم جمع أفراد هذه الميليشيات من شباب "داعش" المتطرفين ومنظمات إرهابية مماثلة وأفراد المافيا، ودُربوا فعلياً في الساحات القتالية الحقيقية كسوريا وليبيا وأذربيجان.
وكان الفريق الذي قطع رؤوس الطلاب العسكريين الذين تراوح أعمارهم بين 15 و16 سنة في 15 يوليو من هؤلاء القتلة مع رجال زعيم مافيا سيدات بَكَر.
وهذه المعلومات التي ذكرتها عن هذه الميليشيات متاحةٌ لمن يريد الاطلاع عليها في سجلات المحكمة، بما في ذلك الأسلحة التي يتدربون عليها والمناطق التي تدربوا فيها.
والأهم من ذلك، أن الأنشطة السرية التي تقوم بها إيران في تركيا منذ عقود، وجهودها لاستجلاب المتعاطفين، أصبحت تؤتي ثمارها، إذ نفذت إيران كثيراً من أنشطتها العملياتية - لا سيما في مجال خلق صورة إيجابية عنها - في البلدان العربية السنية من خلال هذه المنظمة في تركيا.
واسم هذا التنظيم الإرهابي التابع للحرس الثوري الإيراني هو منظمة "السلام والتوحيد". وقد كُشف عن جميع أنشطته، بعد قرابة سبع سنوات من المتابعة من جانب قضاة ومدعين عامين في الدولة التركية، وألقي القبض على كثيرين آخرين وسُجنوا. وطاولت التحقيقات أشخاصاً مهمين في حزب العدالة والتنمية، بمن فيهم رئيس الاستخبارات هاكان فيدان، وتم استدعاؤهم إلى المحكمة. وبالطبع، لم يمثلوا أمام القضاء.
اتخذ أردوغان خطوته في عام 2016 ونفذ سيناريو الانقلاب بالتواطؤ مع هاكان فيدان ورئيس الأركان خلوصي أكار. وسُجن خمسة آلاف شخص، يتألفون من الشرطة والجنود وضباط الاستخبارات، إلى جانب القضاة والمدعين العامين الـ54 الذين تابعوا هذه القضية من البداية إلى النهاية.
وتنفست إيران الصعداء بعد هذا الحادث. وتم إغلاق ملف منظمة "السلام والتوحيد" الإرهابية التي أسستها إيران داخل تركيا.
وفي ما يلى أسماء رجال الدولة الذين تقدموا بطلبات إلى المحكمة لإغلاق هذه القضية: الرئيس رجب طيب أردوغان، وزير الخزانة والمالية السابق بيرات البيرق، رئيس الاستخبارات هاكان فيدان، وزير الصناعة والتكنولوجيا مصطفى فارانك، بلال أردوغان، وزميل بلال أردوغان المدير العام للمؤسسة الإذاعية التركية إبراهيم أرَن، والمدير العام لوكالة الأناضول شينول كازانجي. وفي الوقت نفسه، تقدم هؤلاء من خلال محاميهم بطلب لمعاقبة القضاة والمدعين العامين وضباط الشرطة الذين أسهموا في فضح هذه المنظمة، وبالطبع صدرت على معظمهم أحكام بالسجن مدى الحياة.