أسفرت الاحتجاجات الليلية الأخيرة في عدد من المناطق التونسية، عن إيقاف أكثر من ألف شخص، واللافت في تلك الإيقافات أنها ضمت قُصّراً، تتراوح أعمارهم بين 14 سنة و18 سنة، بينهم عدد من التلاميذ.
وجود هؤلاء الشبان في الشوارع للاحتجاج، ومواجهة قوات الأمن، يطرح أكثر من تساؤل حول دور الأسرة والمدرسة ودور الثقافة والشباب، في تأطير هذه الفئة، وحمايتها من السلوكات المنحرفة التي تتربص بهم في الشارع.
الأطفال فريسة الإجرام والمخدرات
يُجمع عدد من المتابعين للشأن العام في تونس، على أن المدرسة ودور الشباب والثقافة فقدت أدوارها خلال السنوات الأخيرة، في التأطير والتثقيف والتوجيه نحو الأنشطة التربوية والتثقيفية، وتركت الأطفال والشباب فريسة سهلة للجريمة والمخدرات، واستفحلت الظاهرة بخاصة مع تفشي جائحة كورونا، وتوقف عديد الأنشطة الثقافية والنوادي الرياضية.
وكشفت دراسة أعدتها وزارة التربية في أبريل (نيسان) 2019 أن نسبة تعاطي المخدرات بالوسط المدرسي تبلغ 9.2 في المئة، مؤكدة أن 1.7 في المئة من جملة المتعاطين وصلوا إلى مرحلة الإدمان.
وأظهرت الدراسة التي شملت عينة من اثني عشر ألف وخمسمئة تلميذ، في 188 مؤسسة تربوية، أن 77 في المئة من التلاميذ الذين يتعاطون المخدرات بالوسط المدرسي، ينتمون إلى الفئة العمرية بين 16 و 18 سنة، وأن 78 في المئة من المتعاطين هم من فئة الذكور، مشيرة إلى أن 90 في المئة من هؤلاء التلاميذ المتورطين ينتمون إلى أوساط اجتماعية متوسطة وميسورة.
الحل في تطوير الأنشطة الثقافية
باتت هذه الظاهرة تهدد كل التلاميذ في تونس، في غياب آليات الحماية والوقاية، كالتقصي والمتابعة للشبكات الإجرامية، وحماية الفضاء التربوي من المنحرفين، علاوة على ضرورة معالجة المدمنين من خلال برامج متخصصة، وإحداث مراكز استشفائية عمومية للمعالجة من الإدمان بخاصة في فئة الشباب المعرض أكثر لهذه الظاهرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، بين مدير عام الدراسات والتخطيط بوزارة التربية، بوزيد النصيري، أن الوزارة تعمل على تجاوز الإشكاليات التي تجعل التلميذ عرضة إلى السلوكيات المحفوفة بالمخاطر، في محيط المؤسسة التربوية، من خلال تطوير الأنشطة الثقافية والاجتماعية والرياضية في الوسط المدرسي وإحداث مركبات ثقافية تربوية مدرسية.
100 ألف انقطاع سنوي عن الدراسة
تعتبر ظاهرة الانقطاع المدرسي معضلة في تونس، حيث ينقطع يومياً حوالى 280 تلميذاً وسنوياً أكثر من 100 ألف تلميذ عن الدراسة، بينما بلغ العدد الإجمالي في العشر سنوات الأخيرة للمنقطعين حوالى مليون تلميذ، وتخلت مؤسسات الدولة عن التأطير والمرافقة لهؤلاء المنقطِعين عن الدراسة ليضافوا إلى مجموعات العاطلين من العمل، في غياب فرص التكوين والتأطير، ليستوعبهم الشارع بكل ما فيه من رذيلة.
ضعف أداء المدرسة
يؤكد رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم سليم قاسم، أن البلاد تعيش منذ سنوات حالة تطبيع حقيقية مع ضعف أداء المنظومة التربوية، كماً من حيث عددُ المنقطعين وكيْفاً من حيث تراجع التحصيل المعرفي للمتخرجين من هذه المنظومة، داعياً إلى إعادة بناء المدرسة على أساس الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، وجودة المناهج والتطبيقات.
وتوضح أستاذة علم الاجتماع فتحية السعيدي، أن دور المدرسة إلى جانب الأسرة كمؤسسات للتنشئة الاجتماعية تراجع، أمام مؤسسة أكبر للتنشئة الاجتماعية وهو المجتمع، ويكون هؤلاء أكثر عرضة للتأثر بما يحدث في المجتمع من ممارسات وتجاوزات.
قادة الرأي في تونس مثال سيء
وتضيف السعيدي، أن هؤلاء الأطفال والشباب يتماهون بمثال الأب والأم، إلا أن هذه الأمثلة في تونس اليوم، لم تعد مرجِعية وحتى الشخصيات والساسة والنواب في البرلمان، لم يعودوا مراجع للأطفال والشباب، بالنظر إلى الأزمة السياسية والاجتماعية التي تمر بها تونس ومشاهد التلاسن والصراعات كونت انطباعاً لدى الأطفال أن هؤلاء القادة ليسوا مثالاً يُحتذى.
وحملت أستاذة علم الاجتماع كل هذه التبعات لمؤسسات الدولة التي تخلت في سياساتها العمومية عن التكوين المهني، ومؤسسات الترفيه والتثقيف، التي كانت تحمي الشباب والأطفال من الانحراف.
وترى أن الحجر الصحي في غياب الفضاءات التي تحتضن هؤلاء الأطفال حتى يسربوا فيها "مكبوتاتهم" من خلال الأنشطة الرياضية والثقافية، وممارسة هواياتهم، يجعلهم بالضرورة في الشارع من أجل إثبات ذاتهم، لذلك حدثت المواجهات مع قوات الأمن على الرغم من أنهم لا يرفعون شعارات سياسية أو مطالب واضحة.
وشددت على أنه في مرحلة المراهقة، يصبح الممنوع مرغوباً فيه، لذلك يندفع هؤلاء الأطفال في مجموعات لاستفزاز قوات الأمن.
إيقافات عشوائية للأطفال
من جهة ثانية، استنكرت المختصة في علم الاجتماع الإيقافات العشوائية التي شملت الأطفال والشباب، واصفة إياها بالعشوائية وتنم عن تشفي قوات الأمن، معتبرة أن الإيقافات ليست حلاً لأنها ستعمق الأزمة التي تتخبط فيها البلاد اجتماعياً واقتصادياً.
وحذرت من المحاكمات غير العادلة لهؤلاء الموقوفين معتبرة أن الحل الأمني سيؤزم الوضع، مشيرة إلى أن الحكومة والبرلمان في قطيعة مع هموم الشعب التونسي ولا يملكون حلولاً لهموم هذا الشعب.
ودعت إلى الحوار مع الشباب باستخدام الوسائل المتاحة في الإعلام وفي دُورِ الشباب وتعزيز نشاط الجمعيات والمؤسسات المرافقة واستيعاب المنقطعين عن الدراسة وجوباً في مراكز التكوين المهني وإعادة إدماجهم في المجتمع.