كرة اللهب تتدحرج في طرابلس، ومنسوب العنف في ازدياد، فما كان استثناء في الأيام الأولى للاحتجاجات، بات مألوفاً في الليلة الرابعة، وبدا أن مقولة "العنف يولّد العنف" بدأت تسلك طريقها إلى أرض الواقع، لا سيما بعد مقتل الشاب عمر طيبا بالرصاص الذي أطلقته القوى الأمنية مساء الأربعاء، 27 يناير (كانون الثاني)، باتجاه المحتجين المندفعين نحو "ساحة النور" في المدينة.
في ليلة الخميس، 28 يناير، تراجعت قوات مكافحة الشغب إلى أسطح مبنى سراي المدينة، ومهّدت إلى ذلك خلال النهار عندما أصلحت أجزاء الأسوار وبوابات الحديد التي خلعها المحتجون، ومع حلول المساء، بدأت المواجهات، وقام عشرات الشبان برشق المبنى الحكومي بالحجارة، والقنابل الحارقة، والمفرقعات النارية، ولم تسلم المحكمة السنية الشرعية من لهيب النيران، وكذلك القصر البلدي التابع لبلدية طرابلس الذي اندلعت فيه النيران أيضاً ما أدى إلى خسارة هائلة للمدينة التي تختزن الأرشيف العثماني، وحال الجيش اللبناني دون تمكن المحتجين من دخول مبنى المالية، بعد العمل على كسر بوابته الخارجية.
الأمن يتدخل بقوة
وفي أرجاء "ساحة النور"، ترددت أصوات انفجارات قوية، يُعتقد أنها ناتجة من قنابل يدوية حربية، وفق ما أعلنت قوى الأمن الداخلي اللبنانية في بيان، وتحدثت أيضاً عن "نشوب حريق كبير في المحكمة الشرعية السنية داخل السراي جراء إلقاء قنبلة مولوتوف"، كما وزعت قوى الأمن بياناً تحدثت فيه عن اعتداءات نفذها 200 شخص تقريباً، حاولوا اقتحام السراي، وتحطيم السيارات والآليات المركونة، كما لمحت إلى "سماع أصوات أعيرة نارية مجهولة المصدر قرب أحد المباني المجاوِرة للسراي"، ووصفت إجراءات عناصرها بأنها "تصاعدية، مشروعة، ومتناسبة"، إلا أن هذا الوصف لا يوافق عليه بعض المتظاهرين الذين اتهموا القوى الأمنية باستخدام العنف المفرط تجاههم.
دخان وحالات اختناق
وأمطرت قوات مكافحة الشغب المعتصمين داخل "ساحة النور" بالقنابل المسيلة للدموع، وسبّب ذلك حالات اختناق وإغماء، عملت الفرق الطبية التابعة للصليب الأحمر اللبناني، والهيئة الطبية الإسلامية على تقديم المساعدة لهم، وقامت مجموعات من المتظاهرين بتقديم المساعدة ايضاً.
وفي اليوم الرابع من الاحتجاجات، أخذ بعض المحتجين احتياطاتهم للوقاية من القنابل الدخانية، فاستخدموا الأقنعة الواقية، ويشير محمد، الناشط العشريني، إلى أنه لجأ إلى استعمال القناع للتخفيف من حدة الأضرار، سواء المتعلقة بفيروس كورونا أو من حالات الاختناق، ويستغرب "استخدام القوة المفرطة تجاه الناس الفقراء، الذين لم تقدم لهم الدولة سوى الفقر والعوز".
ولم تمنع القنابل الدخانية من تواصل الاحتجاجات التي استمرت ساعات متأخرة من الليل، وتعرض بعض واجهات المؤسسات المحيطة بساحة المدينة إلى محاولات لتحطيمها، وفي كل مرة، يأتي تدخل الجيش اللبناني ليدفع المحتجين من محيط السراي، ويحاصرهم ضمن الأحياء الداخلية لمدينة طرابلس.
وجع الناس
وجمع الحشد في "ساحة النور" أطيافاً مختلفة من المجتمع الطرابلسي والشمالي، ودخل كبار السن والسيدات إلى الساحة بعد فترة من الغياب، كما حضر إلى الساحة بعض الأطفال برفقة آبائهم، وأصرّ الطفل عيسى (12 سنة) على الحديث عن "جوع وحاجة الناس"، وعن والده الذي فقد عمله والقدرة على تأمين احتياجات أبنائه.
أما السيدة الأربعينية منتهى التي تحب أن تسمي نفسها "أم الثوار"، فجاءت من حي المنكوبين، أحد أفقر أحياء طرابلس، وهي أم لأربع بنات، لتقول، "الجوع انتشر، كما أن الناس فقدوا الأمل بهذا البلد، لأنه لا يُقدّم أقل مقومات الحياة للإنسان"، وتتحدث عن عدم القدرة على تأمين التعليم والطبابة، وكذلك التغذية الجيدة لعائلتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما شاركت في التحركات مجموعة من المخاتير والناشطين، وقال مختار بلدة السنديانة في قضاء عكار (شمال لبنان) محمد حمزة إنه أتى "إلى ساحة من ساحات العز والكرامة"، ويعتبر أنه في مكانه الطبيعي لأن "الشعب انتخبه لينسق العلاقة بينه وبين الدولة، وعندما تحرم الدولة المواطن من حقوقه يجد نفسه مضطراً للعودة إلى قاعدته الشعبية".
وتابع حمزة، "منذ سنة، توقعنا ثورة جياع، ولكن لم يلتفت أحد، وجاءت السلطة اليوم لتتحدث عن مندسين"، سائلاً، "ماذا تنتظرون من أبناء يجدون طناجر أمهاتهم فارغة، وأيضاً برادات آبائهم"، وشبّه المحتجين بـ "الأسد الذي جوّعه صاحبه، فلم يجد شيئاً ليأكله إلا سيده".
وأكد الناشط عبد حداد تنوّع الشرائح الموجودة في الساحة، رافضاً الحديث عن "ثورة أميين" لأن هناك "مهندسين ومخترعين يشاركون في التحركات المطلبية".
وبرر بعض الشبان إخفاء وجوههم تخوفاً من الملاحقات الأمنية والمداهمات الليلية، كما برر بعضهم الأمر تلافياً للاختناق بالغاز المسيل للدموع.
ما حصل في مدينة #طرابلس هذه الليلة جريمة موصوفة ومنظمة يتحمل مسؤوليتها كل من تواطأ على ضرب استقرار المدينة واحراق مؤسساتها وبلديتها واحتلال شوارعها بالفوضى.
— Saad Hariri (@saadhariri) January 28, 2021
الذين اقدموا على احراق طرابلس مجرمون لا ينتمون للمدينة واهلها ، وقد طعنوها في امنها وكرامتها باسم لقمة العيش. ١/٤
الحريري: لماذا وقف الجيش متفرجاً؟
وفي تعليق لافت، أشار الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري إلى أن "ما حصل في طرابلس جريمة موصوفة ومنظمة يتحمل مسؤوليتها كل من تواطأ على ضرب استقرار المدينة وإحراق مؤسساتها وبلديتها واحتلال شوارعها بالفوضى"، وأضاف في بيان، "الذين أقدموا على إحراق طرابلس مجرمون لا ينتمون للمدينة وأهلها، وقد طعنوها في أمنها وكرامتها باسم لقمة العيش".
وقال، "نقف إلى جانب أهلنا في طرابلس والشمال، ونتساءل معهم، لماذا وقف الجيش اللبناني متفرجاً على إحراق السراي والبلدية والمنشآت، ومن سيحمي طرابلس إذا تخلف الجيش عن حمايتها؟"، وأردف، "هناك مسؤولية يتحملها من تقع عليه المسؤولية، ولن تقع الحجة على رمي التهم على أبناء طرابلس والعودة إلى نغمة قندهار".
جنبلاط: الفراغ المستشري يقتل الجميع
وقال رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، عبر "تويتر"، "ولأن ما يحدث في طرابلس يهدد الوطن بأكمله، فإن الأولوية تكون في تشكيل وزارة فوق الشروط والشروط المضادة، الفراغ إن استشرى يقتل الجميع".
العهد يضغط على الحريري
من جهته، قال مصطفى علوش نائب رئيس "تيار المستقبل" بزعامة الحريري، "الخلفية الحقيقة لما يجري في طرابلس فقدان الأمل واليأس"، مشيراً في الوقت عينه إلى أن "هناك طرفاً ما زال مجهولاً يحاول استغلال ما يجري من احتجاجات، ولم يستبعد علوش احتمال أن يكون "فريق رئيس الجمهورية ميشال عون يحاول دفع الحريري إلى القبول بأي حكومة من خلال الشارع"، إلا أنه "لا يمتلك معطيات نهائية في هذا السياق"، ويضيف أن هناك من "يريد الضغط على الحريري لأن المناطق التي ينتمي إليها تعيش حالة من التأزم".
هذا التحليل يقود إلى سؤال حول كيفية حدوث هذه الاحتجاجات، خصوصاً أن من يتحركون على الأرض هم من أبناء الأحياء الشعبية في المدينة، الذين لا يكنون الودّ لتيار الرئيس ميشال عون، ويقول علوش، "هل يعرف المحتجون من يحركونهم؟ والذين قد يرتبطون بمخابرات وأجهزة"، ويضيف، "لو كان هناك فريق ضالع بالأعمال غير الأجهزة الأمنية، كان افتضح أمره منذ البداية، وتم التشهير بانتماءاته".
ويتخوف علوش من تصاعد مستويات العنف، لتطال المؤسسات الخاصة بعد العامة، واستعادة صور السلب، والخلع والكسر التي تزدحم بها ذاكرة الحرب الأهلية اللبنانية، لذلك لا يستبعد ازدياد حدة الأزمة في الأيام المقبلة، ويرجح أن يتجه لبنان نحو الأسوأ سياسياً، واقتصادياً، وأمنياً بسبب غياب الدولة وانهيارها، ووصولنا إلى مرحلة "الدولة الفاشلة"، ويجزم أن "تشكيل حكومة مستقلة تأتي ببعض المليارات من الخارج لبناء مظلة أمان اجتماعية هو المخرج المؤقت ريثما ينبني لبنان الجديد"، من دون أن يستبعد أن تقودنا دعوات إلى تغيير النظام السياسي إلى التقسيم وطلب الحماية الدولية بسبب قناعة بدأت تتشكل لدى الأطراف المسيحية لأنه "لم يعد بإمكانها تحمل عبء الخلاف السني والشيعي".
السلطة الجائرة
السياسي الطرابلسي خلدون الشريف رأى من جهته أن "حاجات الناس أصبحت كبيرة للغاية، وتزايد مستوى الضيق الذي أدى إلى حراك عفوي نتيجة الفقر، والبطالة والإقفال العام"، مشيراً إلى أن "معظم أهالي المدينة من المياومين على خلاف بقية المدن اللبنانية، وكان متوقعاً تحرّك هؤلاء ضد السلطة التي قررت الإغلاق العام من دون تقديم البديل".
ووضع الشريف ما يجري أمام سراي المدينة في إطار "التعبير عن السخط تجاه الدولة لأنه المركز الرسمي الوحيد"، إلا أنه في المقابل، لا يستبعد وجود من يستغل هذا الحراك لتحقيق أهداف وغايات سياسية، متهماً ما وصفها بـ "أياد أمنية خفية" بمحاولة وضع أبناء المدينة وجهاً لوجه مع القوى الأمنية، وصولاً إلى العبث بأمنها.
وناشد الشريف القوى الأمنية احتواء غضب الناس، وعدم زيادة "الطين بلة"، محملاً محافظ لبنان الشمالي القاضي رمزي نهرا مسؤولية مباشرة عما جرى لأنه يمثل الإدارة الرسمية للدولة، داعياً إلى استقالته أو إقالته بسبب تقصير الدولة وحكومة تصريف الأعمال عن تأمين الحد الأدنى من المساعدات الاجتماعية للفقراء خلال فترات الإقفال العام، لأن "السلطة منعت الناس من العمل، ومن أكمل عمله سطّرت بحقه مخالفات أضعاف مضاعفة لدخله"، بينما يُفترض بالدولة لعب دور "الراعي الصالح" والخروج بقرارات تساعد الناس في تأمين القوت لأبنائهم.