إنها أكثر عودة سوريالية إلى الديار خبرتها في حياتي. غادرت مطار "بريسباين" [عاصمة ولاية كوينسلاند الأسترالية] مساء يوم خريفي دافئ، ولم يكن ثمة سيارات أجرة، ولا عائلات تنتظر وصول أفراد منها، ولا لافتات يرفعها منتظرون تحمل أسماء بعض القادمين. بدل ذلك كله، كان هناك جنود من قوات الدفاع الأسترالية، بكامل ثياب ميدان القتال. بذلات مموهة وأحذية قتال، وكمامات N95 تغطي وجوههم. جنود يقفون ويحرسون، خارج قاعات الوصول الواجمة وشبه المقفرة، وقد مررنا، أنا وباقي الركاب الواصلين، على مسافة منهم كي نستقل العربات التي تنتظرنا. أما وجهتنا الأخيرة فكانت: فندق الحجر الصحي.
وكانت أستراليا في إطار مساعي احتواء انتشار فيروس كوفيد-19، قامت باعتماد مقاربة صارمة منذ البداية. فقد أقفلت الحدود أمام جميع القادمين غير المقيمين في البلاد، يوم 20 مارس (آذار) 2020. وليس ثمة إلى الآن مؤشر إلى إعادة فتح هذه الحدود قريباً. ومنذ 29 مارس 2020، راحت السلطات تصطحب جميع المقيمين والمواطنين العائدين، إلى فندق اختارته الحكومة ليكون أول محطة لوصولهم، حيث ينبغي قضاء حجر صحي إلزامي لمدة أسبوعين. وعندما أعلن برنامج الحجر الصحي المذكور بدايةً كان برنامجاً مجانياً. لكن منذ 18 يوليو (تموز)، بدأ فرض 3 آلاف دولار أسترالي (حوالي 1700 جنيه إسترليني) على جميع الواصلين لتغطية نفقات الإقامة الإجبارية في الفندق، مع إمكانية تقليص المبلغ أو تعويضه في بعض الحالات. وعلى الرغم من الأعباء المالية والنفسية التي ترتبت على ذلك، فإن الاستراتيجية أثبتت نجاحها في كل النواحي. إذ إن عدد الوفيات جراء فيروس كورونا في أستراليا حتى اليوم هو 909 أشخاص.
قد يكون شخص مثلي مهووس بالسيطرة (على كل تفاصيل حياته) من أقل الأشخاص ملاءمة للحجر الصحي الصارم. فالحظ هنا يتحكم في معظم جوانب العملية، والقواعد تتبدل باستمرار، كما لا يزوَد المسافرون إلا بقليل من المعلومات عند وصولهم. وإن أبديت في هذا السياق مجرد ارتياح تجاه قضاء حجر صحي فندقي طوال أسبوعين عند وصولي إلى أستراليا، فإن هذا لا يعبر تماماً عن التجربة برمتها. ثم إنني عموماً كنت أفكر في التسكع لوقت غير محدد في مكان سكن عمي بكولورادو (الولايات المتحدة). لكن للأسف، كان لنصفي الآخر (شريك حياتي) الأكثر انضباطاً أفكار مختلفة. وهكذا، بعد مضي ستة أسابيع من استرخاء إجباري في مدينة دينفر الأميركية (والمماطلة تجاه المصير المحتوم)، عدنا أدراجنا إلى أستراليا في مايو (أيار) السنة الماضية.
بعد الهبوط في مطار بريسباين استقبلنا مسؤولون يرتدون كمامات وأثواباً طبية، ويبرزون أمام أعين الواصلين المتعبة وثائق جدية وصارمة. ثم ما لبثنا أن بلغنا مجموعة من عناصر الشرطة يقف أفرادها خلف المكاتب، وينتظرون تزويدنا بالمعلومات حول الفندق الذي ينبغي علينا قضاء أسبوعين فيه تحت إشراف منسق طوارئ خاص مكلف (متابعتنا). وإذ تبلغنا تلك الأمور قمنا بتوقيع تعهدات تفصل مدى المشكلات التي ستواجهنا إن لم نلتزم بالشروط والتعليمات الصادرة بموجب "قانون الصحة العامة" Public Health Act (لمزيد من الدقة هنا، يذكر أن غرامة المخالفة في ولاية كوينسلاند تصل إلى 13345 دولاراً أسترالياً [أي حوالى 10 آلاف دولار أميركي]).
وبعد نحو ساعتين من الانتظار هناك، قادتنا عناصر الشرطة المحلية وقوات الدفاع الأسترالية كي نستقل عربات خصصتها الحكومة لنا. وقد فزنا لحسن حظنا بجائزة الحجر، فانتهينا بفندق أربع نجوم لا يطل على نهر بريسباين وحسب، بل أيضاً يضم شرفات، وهي أكثر ما يتوق إليه المحجورون. وكان إلى جانبنا زوجان يمازحان شرطياً عن المشقة الكبرى التي سيواجهانها الآن، المتمثلة في قضاء 14 يوماً معاً، في غرفة واحدة لا يمكنهما مغادرتها.
ما لبثت أنا، بعد أن خفضت توقعاتي إلى حدودها الدنيا، وإزاء مخاوفي الكبرى من حجر بلا هواء نظيف، أن استسلمت لبدعة الحجر الصحي هذه بهدوء وسرعة مفاجئين. إذ إن الحياة بالطبقة العاشرة من فندق "ريدجس ساوث بانك" Rydges South Bank قد توحي بإيقاع يسير، إن لم نقل إنه هادئ. إيقاع يبدأ بتناول الفطور والقراءة على الشرفة صباحاً. ثم ينتقل إلى الغداء، والتمرين، واستطلاع الإنترنت بعد الظهر. فالعشاء، ومشاهدة التلفزيون، والذهاب باكراً إلى السرير المريح، تحت تأثير إرهاق السفر. وتتخلل أيام الحجر وجبات طعام تصلنا بأكياس سمراء اللون، توضع عند باب الغرفة مع قرع خفيف على الباب. كما أننا نتلقى اتصالاً يومياً تقريباً من الصليب الأحمر الأسترالي، ومن وزارة الصحة الأسترالية، ويسألنا المتصلون عن صحتنا النفسية (والجسدية). ما عدا ذلك، فإننا نبقى متروكين لشأننا مع أجهزتنا الإلكترونية.
مما لا شك فيه يسهم الحفاظ على اتصال يومي مع أصدقاء وأفراد من العائلة في "الخارج" في خلق بعض الأجواء الطبيعية. أو يمكن تصفح "غوغل" لساعات من دون شعور بالذنب. فيكون المرء فكرة عن سوق الأسهم الأسترالية عبر البث الصوتي الرقمي، ويصبح ضليعاً في هذا العالم. كما يمكن تعلم علاج حالات التصريف اللمفوي في الوجه بمساعدة خبراء على الإنترنت، وقد يصبح المرء محترفاً في معالجتها. أو يمكن إتقان فن خلط ورق اللعب بطريقة محترفي الكازينوهات في لاس فيغاس، وذاك يمكن اكتسابه بالمثابرة. وبوسع المرء الاهتمام بكل ومضة فضول تنتابه. من جهتي، لو أن كمبيوتري المحمول مات خلال فترة الحجر تلك، لأردت بالتأكيد الذهاب معه.
إلى الكمبيوتر المحمول، فقد غدت الشرفة كنيستي، إذ قامت بتذكيري أن الحياة مستمرة خارج جدران غرفتنا الأربعة، وأننا في الحقيقة لسنا عالقين في حلقة زمنية مفرغة. كما رحنا نناقش، مع جيراننا في الشرفة المحاذية، الوجوه الأفضل في وجباتنا اليومية ("ليس علبة الغذاء الياباني مرة أخرى!")، ونأخذ حمامات شمس، ونستمع إلى أصوات المدينة.
ويتعلم المرء أن يضيف لكل يوم نكهة خاصة، عبر ابتكار مناسبة من أي شيء يخطر على باله. الحدث الأهم في نهار الأحد الأول لنا بالحجر، كان التحضير لمشاهدة فيلم "بارازايت" (Parasite) من على الكنبة. في المقابل، وبعطلة نهاية أسبوع أخرى نافلة، تسليت بمجموعة الكمامات والأقنعة التي بحوزتي (كمامات الوجه، والقدم، والشعر)، فاعتبرت أن ذاك اليوم هو بمثابة يوم استجمام صحي. وفي ليلتنا ما قبل الأخيرة في الحجر، حضرت سفرة من المقبلات والأجبان واللحوم الباردة (التي طلبناها من متجر سوبر ماركت محلي)، وكانت سفرة على الشرفة كي نشعر أننا في مكان آخر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكانت وجبات الطعام أحياناً تبدو كلمسات هامشية. وتبدو في أحيان أخرى عشاءات أكثر تميزاً وأفضل مما يتوقعه المرء. وفيما كنا نستيقظ لتلقي علبة "كورنفليكس" [رقائق الذرة] جديدة في كل صباح، كانت تلك العلب تتقادم في اليوم الرابع، وإزاءها تغدو الغدوات والعشاءات عموماً أكثر أهمية، وتمثل لنا المفاجأة الكبرى وذروة التشويق اليومي. ولتلقي تلك الوجبات، بعد التدابير البروتوكولية، كنا ننتظر دقيقة على الأقل قبل تناول الأكياس الورقية ذات اللون الأسمر وفتحها، وذلك لتلافي أي احتكاك مع موظفي الخدمة أو مع النزلاء الآخرين. ويصلنا ضمن وجبة العشاء لحم سلمون محمر في المقلاة، مع كرنب صيني وشطيرة بطاطا (المفضلة بالنسبة لي)، ولازانيا إلى جانب كعكة فوكاشيا، وفطائر لحم، وسلطة دجاج، وساندويشات محمصة، وغيرها من الأصناف. كما ترافق كل عشاء على الدوام قطعة حلوى.
وضمن التقديمات الأخرى خلال حجرنا الصحي الفندقي، تلقينا إمدادات منتظمة من المناشف النظيفة وحاجيات الحمام، إضافة إلى مجموعة من الملاءات وأغطية الفراش النظيفة في منتصف فترة إقامتنا. حتى أننا منحنا ميزانية يومية لغسيل الثياب، فكنا نقوم ببساطة بترك الأكياس الفندقية المخصصة للغسيل خارج باب غرفتنا، فتعود إلينا في المكان ذاته مساء اليوم التالي. وإن كان ثمة أمر إضافي نحتاجه، مثل محارم الحمام وأكياس السكر الصغيرة والشامبو، فما علينا إلا مهاتفة مكتب الاستقبال وطلب ما نريد.
بالنسبة لي، كشخص يجد سلواه بجولات المشي المنعشة الطويلة وبأوقات الطهو المركزة، فإن تجربتي في الحجر الصحي بدت مشؤومة منذ البداية. لكن، مع انقضاء فترة الأسبوعين، بقي جزء صغير مني (جزء ضئيل وبسيط) هناك في مكان حجرنا، وثمة بعض الحزن في ترك ذاك الجزء والمغادرة. إلى هذا، فإن الوقت الذي قضيناه محجورين يثبت، على نحو متوقع بالتأكيد، أن تلك الأيام لم تكن عائقاً فعلياً في حياتنا. ربما هي متلازمة ستوكهولم من يتحدث عني الآن، لكن ثمة في تجربة انزواء المرء في غرفة فندق لأسبوعين، من دون القدرة على المغادرة، شيء يوحي بنوع غير معتاد من التحرر. إذ إننا هناك، في فقاعة حجرنا الصحي الصغيرة، قمنا بالانفصال من مسؤوليات حياتنا الروتينية، ومن عبء اتخاذ القرارات مهما كانت صغيرة. وبطبيعة الحال لو أنني علقت مثلاً في نفس الغرفة مع طفلين تحت سن الخامسة، أو لو علقت في هذه الغرفة لوحدي، لكنت اختبرت شيئاً مختلفاً قليلاً في سياق هذه المحنة. بيد أن المفتاح الأساس لاجتياز الحجر بنجاح، هو تقبله واغتنام فرصته.
© The Independent