أحمر شفاه وماريغوانا ورقص وتعبيرات جسدية. أهازيج وعزف وألوان وقُبل، هذه ليست حفلة أو سهرة شبابية، بل تظاهرة احتج فيها بعض شباب تونس على الوضع الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، طالبوا فيها بإسقاط منظومة الحكم "الفاسدة" بطرقهم الخاصة والجديدة التي أثارت جدلاً واسعاً بين من يراها أساليب يجب التقاط رسائلها ومن يعتقد أنها تفسّخ أخلاقي يجب رفضه وإدانته.
هم أطفال الثورة كبروا بعد عشر سنوات ليثوروا على منظومة الحكم الحالية التي لم تلبِّ ما يطمحون إليه في مجالات عدة، منها اجتماعية واقتصادية وحتى في مجال الحريات.
يقول يوسف مبزعية، 25 سنة، أحد المشاركين في تظاهرة السبت بالعاصمة، "هدفنا إيصال صوتنا بالطرق التي نفهمها ونعرفها وكل منا له قضية أو مطلب عبّر عنه بالأسلوب الذي يراه مناسباً". ويضيف، "رأينا من احتج بسكب سائل ملون على الحزام الأمني الذي طوّقنا وحدد تحركنا وهي طريقة معتمدة في بلدان أخرى، أراد من خلالها الشباب كسر القتامة بالألوان، أيضاً رأينا حضور فرق الألتراس وأهازيجهم التي حملت رسالة إلى الحكومة وأيضاً التعبير بالرقص والعزف على القيثارة وفي ركن آخر يوجد من يدخن سيجارة في حركة رمزية للمطالبة بتعديل قانون المخدرات الذي بسببه حُكم على شباب بثلاثين سنة".
ويوضح، "هذه الطرق تعبّر عن اختلافنا وأن الوسيلة القديمة والملتزمة للتظاهر اعتمدناها في احتجاجاتنا السابقة إلا أن الحكومة والمسؤولين لم يفهموها، فأردنا إيصال صوتنا بأسلوب أكثر جرأة يثيرهم ويجعلهم يفكرون وهذا ما حدث".
عند اندلاع ثورة يناير (كانون الثاني)، كان يوسف طفلاً عمره 15 سنة فقط، كبر وثار، ويبرر احتجاجه اليوم قائلاً، "لا شيء يعجبنا اليوم، لا يوجد مطلب محدد، بل مطالب وهذا دليل على أن الدولة فاشلة في كل المجالات والثورة لم تحقق لنا شيئاً. لذلك نحن هنا لتصحيح المسار الثوري". ويضيف "نحن قلقون على مستقبلنا في تونس. لا نرى أي بوادر أمل".
من جانب آخر، يوضح الشاب وهو طالب في ماجستير القانون، "نحن لا نتبع أي طرف سياسي على الرغم من أن أنصار الأحزاب الحاكمة، بخاصة الإسلاميين، يصفوننا باليسار، لكن هذا غير صحيح، فغالبيتنا من المستقلين لكن الأكيد أننا مختلفون عنهم".
يضيف مبزغية، "شخصياً، أريد الانضمام إلى حزب، لكن اليوم للأسف لا يوجد أي طيف سياسي يمكن أن يفهمنا أو يمثّلنا، فكلهم يفكرون بطريقة تقليدية لا تثير اهتمامنا ولا يمكن أن تحقق لنا شيئاً إلا الأوهام".
هيمنة الأيديولوجيا
في السياق ذاته، يقول الباحث في علم الاجتماع محمد الجويلي لـ"اندبندنت عربية" إنه "يحدث أن تتغير أشكال الاحتجاج وتتبدّل معها مضامينها، فالمتظاهرون في العالم يفكّون أسر الأشكال التقليدية للاحتجاج ويرسمون رؤيتهم الجديدة للمناهضة"، مضيفاً، "لقد تحررت الأشكال الاحتجاجية من هيمنة الأيديولوجيا ومن هيمنة الأحزاب ومن سطوة الزعامات. يتجه الاحتجاج إلى أن يكون فردانياً حتى لو تقوده جماعات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى الجويلي أن "التقاء إرادات فردية هو الذي يجعل الاحتجاج يتسرب من رغبة فردية، من مزاج فردي ومن ذات تريد أن تعيش كما يحلو لها، متنصّلة من إكراهات الجماعة"، معتبراً أن "الجسد جزء يحضر بعنفوان في هذه الأشكال التعبيرية الجديدة للاحتجاج كما لاحظناها في التحركات الأخيرة عبر الرقص أو أساليب أخرى".
ويفيد أستاذ علم الاجتماع بأن "الفعل الاحتجاجي تحوّل إلى فاعلين جدد غير المناضلين في أحزابهم أو في نقاباتهم أو في تياراتهم الفكرية والأيديولوجية. انتقل الفعل الاحتجاجي إلى مجموعات شبابية متمحورة حول قضية بعينها، قد تكون كرة القدم أو المثلية أو البيئة أو الأقليات الثقافية أو الماريغوانا".
ويوضح أن "هذه المجموعات الشبابية التي تقود الحركات الاحتجاجية الجديدة ليست بحاجة إلى الكلام، هي بحاجة أكبر إلى الإبهار واستنباط غير المألوف في المضمون وفي الشكل".
تفسّخ أخلاقي
على الرغم من تفسير علم الاجتماع لهذه الأشكال الاحتجاجية الجديدة ليعبّر الشباب عن غضبه من قضايا معينة، فإن أطرافاً أخرى ترى فيها تفسّخاً أخلاقياً وإهانة للأمن الذي تحلّى بضبط النفس أمام استفزاز الشباب المتظاهر، لكن ضبط النفس في الميدان لم يتواصل خارج هياكل الأمن ونقاباتها التي أصدرت بيانات تندّد بهذه الحركات"، إذ أعلنت نقابات أمنية، الاثنين، إجراءات تصعيدية، احتجاجاً على ما اعتبرته "إهانة من قبل المتظاهرين لقوات الأمن، خلال التجمعات التي شهدتها مختلف محافظات البلاد، لا سيما تظاهرة يوم السبت الماضي في العاصمة"، حين ألقى المشاركون مقذوفات على أفراد الأمن وتفوّهوا بعبارات بذيئة ومشينة، وهم يطالبون بإلغاء أحكام سجنية ضد مستهلكي مخدرات وبالإفراج عن موقوفين في أعمال شغب واحتجاجات سابقة"، بحسب بيانات صادرة عن عدد من النقابات، التي اتخذ بعضها إجراءات بالامتناع عن القيام بجزء من مهماتها خلال الأيام المقبلة، مثل تأمين المقابلات الرياضية والأنشطة الثقافية ونشاط المحاكم ورفع الخطايا للمخالفات وتحرير المحاضر، فيما دعت نقابات أخرى إلى "التحقيق في أعمال الشغب والتحركات الاحتجاجية". ووصل الانفلات الأمني إلى حد التظاهر في محافظة صفاقس جنوب تونس، حيث اتهم أحد الأمنيين المحتجين بـ"اليسار الفاشل والملحد"، الأمر الذي أغضب الحقوقيين في البلاد، متهمين الأمن بانحيازه إلى طرف سياسي ضد آخر.
في هذا الصدد، يقول العميد جمال الجربوعي، الناطق الرسمي باسم الاتحاد الوطني لنقابات قوات الأمن التونسي، إن "النقابات الأمنية وجدت نفسها مجبرة على امتصاص غضب أفراد الأمن الذين تعرّضوا للإهانة من طرف المتظاهرين"، مؤكداً أنهم لم يُضربوا عن العمل وواصلوا تأمين مباريات كرة القدم ورفع المخالفات وغيرها من الواجبات والمهمات، ومشدداً على أن "ما صدر عن بعض الأمنيين بوصف المحتجين باليسار الفاشل أو الملحدين تصرف فردي، لا يمثل النقابات ولا الأمن الجمهوري".
من جهة أخرى، استنكر رئيس الحكومة هشام المشيشي تحوّل الاحتجاجات السلمية إلى شعارات وإهانات للأمن، قائلاً في تصريح صحافي إن "التعبيرات والاحتجاجات السلمية مشروعة"، لكن من غير المقبول "خروج هذه التعبيرات عن أطر السلمية لتصبح تعبيرات مهينة للأمن".