كان ظريفاً، وربما محقاً إلى حد ما أيضاً، ذلك الصديق الذي بعد ما انتظر بكل تهذيب وقتاً طويلاً كي يتمكن من الاقتراب من لوحة "الموناليزا" في القاعة التي تعرض فيها في متحف "اللوفر"، استاء، أخيراً، وتحرك من مكانه ليجد نفسه في مواجهة لوحة أخرى يبدو أنها أذهلته تماماً فصرخ: مال هؤلاء الناس يتكومون لمشاهدة "الموناليزا" عاجزين عن الوصول إليها، ولا ينتبهون إلى وجود هذه اللوحة بل ربما لا يعلمون ما هي حقاً؟ كانت اللوحة التي يتحدث عنها الصديق لوحة عملاقة تصل مساحتها إلى ما يزيد على سبعين ضعفاً من حجم لوحة دافنشي التي تعتبر الأشهر في العالم. وهي معلقة على بعد يسير من تلك اللوحة وعنوانها "عرس قانا" للرسام النهضوي، هو الآخر باولو فيرونيزي. والحقيقة أن استنكار صاحبنا يأتي من كون اللوحة لا يقل عرضها عن عشرة أمتار وارتفاعها عن ستة أمتار وسبعين سنتيمتراً ما يجعلها من أضخم اللوحات المعلقة في المتحف الفرنسي العريق.
من أجمل اللوحات النهضوية
لكن مساحة اللوحة ليست سمتها الأساسية. بل يمكن اليوم القول، وبعد ما رُممت اللوحة قبل سنوات واستعادت بريق ألوانها ومكانها في "اللوفر"، أنها واحدة من أجمل اللوحات في تاريخ الفن النهضوي، وواحدة من أجمل لوحات رسامها باولو فيرونيزي. ولكن يمكن القول أيضاً، إنه لو كان فيرونيزي يعيش بيننا لاختار مهنة الإخراج السينمائي. وذلك لأن هذه اللوحة، كما حال العديد من لوحاته الأخرى، كبيرة الحجم كانت أم صغيرته، تتميز أكثر ما تتميز بالإخراج الذي يشتغل عليه الرسام فيها هو الذي حتى حين يموضع لوحاته، لا سيما الدينية والتاريخية منها، كموضوع وعنوان، في مناطق يفترض أن تكون منتشرة في فلسطين حيث كانت ولادة الديانة المسيحية، مستقياً مواضيعه من العهدين القديم والجديد، وبخاصة من الحكايات المأثورة عن السيد المسيح، لا يتوانى عن استخدام مدينته، البندقية، كمكان لحصول تلك الأحداث. ومن هنا إذا كنا نعرف أن هذه اللوحة تمثل مشهد ذلك العرس الذي حفل بالمعجزات والدلالات الدينية، فإن الأكثر أهمية في الأمر ليس هنا، بل في الحرية التي سمح بها الرسام لنفسه من ناحية توزيع المشهد واستخدام العمران النهضوي الإيطالي بل حتى الأزياء الإيطالية وصولاً إلى استخدام أصدقاء ومعارف معاصرين له كـ"موديلات" بما في ذلك استخدام محبوبته كموديل للعروس عند الطرف الأيسر من اللوحة، بل استخدام نفسه كواحد من المدعوين عند الجانب الأيمن من الطاولة. وإذا أضفنا إلى هذا فرضية– لم تتأكد تماماً– مفادها أن الموسيقيين الأربعة الجالسين يعزفون عند أسفل وسط اللوحة هم في الحقيقة أربعة من كبار رسامي تلك المرحلة من زملاء فيرونيزي، وهم على التوالي "فيرونيزي نفسه، وتينتوريه، وباسانو، وتيتسيانو"، سيكون من المنطقي القول، إنهم كانوا محقين أولئك الذين أمضوا سنوات من حياتهم وهم يحاولون معرفة من يقف خلف قناع كل شخصية من الشخصيات المرسومة.
غضب الممولين
كما يدل العنوان، ولكن ليس اللوحة نفسها بالطبع، إذ إن هذه تبدو في النهاية إيطالية خالصة، نحن هنا أمام مشهد العرس في قرية قانا الجليل المذكور في "إنجيل يوحنا". وهو مشهد رسمه فيرونيزي بين عامي 1562 و1563 لحساب دير البندكتيين في مدينة البندقية. ومن الواضح أن كل ما في هذه اللوحة كان من شأنه أن يثير غضب ممولي اللوحة. فهم لم يرق لهم أن مشاهديها، بدلاً من أن يحيلهم المشهد إلى مغازي ودلالات الحكاية الدينية، جعلهم يقفون مذهولين أمام تلك التفاصيل التي راحت تمعن في رسم الحياة الاجتماعية في المدينة/ الدولة الإيطالية، بصرف النظر عن أي أمور تاريخية أخرى. كان ما يهم فيرونيزي هنا هو تلك التفاصيل الاجتماعية والجماليات المطلقة ورسمه الوجوه التي يبدو أن أكثرها كان معروفاً في المدينة والمجتمع البندقيين، ولسان حاله يقول، إن الفن ليس مجرد نقل للتاريخ، بل هو إعادة إبداع للحدث تتلاءم مع ما قد يريد الفنان أن يعبر عنه. والحقيقة أن هذه النظرة لا تنفصل في شيء عما قد يقوله أي مبدع، سينمائي خصوصاً، في أزمنتنا الحديثة هذه حين يلام لأن ما صوره من "أحداث التاريخ" في عمله يبدو بعيداً عن الحدث نفسه ليقترب من كونه يستخدم الحدث كمصدر لإبداعه الخاص.
الفنان المخادع
والطريف في الأمر، أن الطرف الممول لم يتنبه قبل تنفيذ اللوحة إلى تلك الحرية التي يمكن للفنان اللجوء إليها، ومن هنا نجد الأوراق الموقعة بين هذا الأخير ورئاسة الدير تنص على أمور التزم بها الفنان كأن يستخدم مواد وألواناً من أفخم ما هو موجود، على أن تدفع له السلطات مبلغاً محدداً وتقوم بإيوائه وإطعامه مع مساعديه طوال الفترة التي ينجز خلالها اللوحة في جزيرة سان جورجيو، حيث تؤمن له أيضاً أطناناً من النبيذ طوال سبعة عشر شهراً استغرقها العمل. لا بد من الإشارة هنا إلى أن السلطات رغم غيظها من الرسام، لم تنبذ اللوحة منذ كشفها للمرة الأولى أمام الجمهور، ولعل السبب في ذلك يعود إلى الإعجاب الفائق الذي ووجهت به. وهكذا صارت "عرس قانا" وحتى بدايات القرن التاسع عشر تزار وتشاهد بشكل جعل منها موقعاً سياحياً بالغ الأهمية لكل من يزور البندقية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حياة ثانية
ولاحقاً منذ انتقلت اللوحة من إيطاليا إلى فرنسا باتت مقصداً للرسامين يستوحونها ويحاولون التلوين على منوالها، كما باتت موضوع سجالات متشابكة ومعقدة بين الدارسين الذين أثار اهتمامهم فيها المواد التي استخدمها الرسام، لا سيما ذلك الأزرق الذي كان نادراً في ذلك الزمن، إضافة إلى سجالات راحت تشتد من حول عدد الأشخاص الذين جمعهم الرسام في اللوحة وربما في خرق مقصود لقانون كان يقول إن أي لوحة من هذا النوع يجب ألا يزيد عدد الأشخاص الحاضرين من الذين يمكن التعرف عليهم، على اثني عشر شخصاً، فإذا بفيرونيزي يضاعف الرقم مرات ومرات بحيث باتت اللوحة تضم ما لا يقل عن مئة "بورتريه" في نوع من إعجاز الذي لم يتمكن أحد من مضاهاته فيه.
ولنذكر هنا أنه حدث لألوان اللوحة أن بهتت على مر السنين، بحيث فقدت ما كان يبدو فيها مثيراً للفضول، وهكذا إذ استقرت في مكانها في اللوفر بعيدة عن أعين الفضوليين بعض الشيء، كما هي بعيدة عن اهتمام الدارسين، كان عليها أن تنتظر تلك السنوات الأربع (1989– 1992) حيث غابت تماماً عن الأنظار. ولكن كي تُرمم مستعيدة بهاءها القديم وزهاء ألوانها ولكن ليس السجال المتعلق بأحقية الفنان في أن "يستخدم التاريخ على هواه"، حيث يبدو أن الدير الذي مولها وأغاظه وجودها قد نسيها تماماً، تاركاً إياها في عهدة عيون معاصرة راحت تهتم بتفاصيلها الفنية ولغة مبدعها في مجال الإخراج وكونها معبرة عن جزء من تاريخ البندقية لا عن جزء من تاريخ فلسطين الإنجيلية، ما يعطي اليوم الحق لصديقنا حين قارن بينها وبين "الموناليزا" جارتها في اللوفر ليطلع باستنتاج محق إلى حدّ كبير.
المجد بكل هدوء
أما بالنسبة إلى باولو فيرونيزي (1528– 1588) ابن فيرونا الذي أتى مبكراً إلى البندقية وعمل وتعلم وتطور فيها، والذي مكنته هذه اللوحة من أن يستعرض قوة فنه و"واقعيته" المطلقة ناهيك عن كونها أمنت له معاشاً ومأوى وطعاماً ونبيذاً لنحو سنتين، فإنه لم يدرك المجد الذي ستسبغه عليه لوحة وصل فيها إلى ذروة تعبيره الفني، ولكن أيضاً حقق فيها، وبشكل مبكر ومن دون أن ينطلق في ذلك من أي أساس نظري أو "نضالي"، حرية الفنان وقدرته على التلاعب على الضد من الممولين والسلطات جاعلاً من فنه وسيلة للخلود كما وسيلة للنهوض بمجتمعه "وبراءة الأطفال في عينيه"، كما يقول شاعرنا نزار قباني في مجال آخر!