لبنان ليس بلد ثورات، وإن كان مسرح حروب، ولا مختبر تطورات إصلاحية، وإن كان اتفاق الطائف استثناء فرضته حرب طويلة مكلفة وحسابات داخلية وخارجية مختلفة، ومعركة الإصلاح الدائرة حالياً تأتي بالاضطرار لا بالخيار، فما قاد اليها ليس التبصر والتخطيط للمستقبل بمقدار ما هو تراكم السياسات المخطئة بشكل منهجي وأحياناً بالاستهتار واللامبالاة.
وما يرافقها هو قلق شعبي وارتباك رسمي، أما القلق الذي دفع موظفي القطاع العام والمتقاعدين والنقابات والروابط الى الشارع، فإن سببه التحذير من تكرار ما كشفته تجارب اصلاحية ماضية: تحميل تكلفة الإصلاح للطرف الأضعف في المعادلة.
تكلفة أي إصلاح
وأما الارتباك، فلأن المسؤولين محكومون، بصرف النظر عن نياتهم، باعتبارات من جانبين: حرص الأقوياء في تحالف المال والسلطة والميليشيات على استمرار التحكم بالسياسات المالية والاقتصادية والنقدية والإثراء على حساب المال العام، وتدفيع الطبقات الوسطى والفقيرة والأكثر فقرًا كلفة أي إصلاح. وضغوط المانحين في مؤتمر سيدر، ولا سيما البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، في اتجاه اصلاحات صعبة مؤلمة: ضبط مالي فوري كبير، خفض العجز السنوي الى 9 في المئة ومن الناتج المحلي، انهاء خسائر الكهرباء، زيادة الضريبة على القيمة المضافة، كبح اجور الوظائف العامة، الحد من الفساد، تحسين الحوكمة ومسائل أخرى.
هندسات مالية
والمفارقات مدهشة، والمعترضون على هذا النمط من الإصلاح، بالنزول الى الشارع، هم أصحاب المصلحة في الإصلاح الحقيقي الجذري، وهم الذين يوجهون الأنظار الى مكامن السرقة والهدر ويطالبون بسد مزاريب الفساد. والمتحمسون هم الذين وصلوا الى ضرورة الإصلاحات على طريقة مكره لا بطل، وهم الذين تركوا الفساد يتعمق ويتوسع، والدين العام يتعاظم، والإنفاق يزداد من دون موازنات على مدى 10 سنوات.
إصلاح مالي واقتصادي من دون هز السياسات المالية الاقتصادية الظالمة والمخطئة بالقصد، ومفاخرة بسياسة نقدية عملت على ثبات سعر الليرة بثمن كبير أقله "هندسات مالية" لمصلحة المصارف بمليارات الدولارات، وبدت كأنها البديل من الحاجة الى سياسات مالية واقتصادية تنقلنا من اقتصاد الريع الى الاقتصاد المنتج.
ولا شيء عن أي اصلاح سياسي جدّي، حتى اتفاق الطائف الذي تضمن أوسع اصلاحات سياسية من دون هز النظام الطائفي، وجرى تطبيق بعضه بشكل مخطىء والامتناع عن تطبيق بعضه الآخر المهم، فإن المطالبة بالحفاظ عليه صارت أهم مكسب وسط دعوات الى تغييره نحو الأسوأ والأخطر.
الضرب على الجيوب
وبكلام آخر، فإن سياسة "الضرب على الجيوب" التي تمارسها اميركا على نطاق عالمي لمعاقبة خصومها، تجري ممارستها في لبنان لمعاقبة الشعب: الضرب على جيوب الفقراء والضعفاء، وترك المزاريب تتدفق على جيوب الأثرياء والأقوياء. وعلى طريقة العنوان الشهير لكتاب ايلي ويزل الحائز جائزة نوبل في الآداب "كل الأنهار تذهب الى البحر، لكن البحر لا يمتلئ أبدًا"، فإن كل الأموال تذهب الى جيوب الأثرياء والأقوياء لكن الجيوب لا تمتلئ.
والمشهد معبّر جداً: الخائفون على لقمة العيش من كل المناطق والطوائف والمذاهب والتيارات السياسية التقوا في الشارع ضمن وحدة وطنيةٍ، والخائفون المختلفون على موقع لبنان ودوره وسياسته الوطنية، كما على النفوذ في الإدارة والحصص في التوظيف يتفقون على استسهال الممكن في الاصلاحات واستبعاد الضروري والمفيد لخفض العجز في نوع من التضامن المصلحي العابر للطوائف والمذاهب وحتى حدود البلد.
صورة الوحدة الوطنية؟
ولا أحد يعرف ان كانت صورة هذه الوحدة الوطنية في الشارع يمكن أن تستمر، فالعادة هي أن يستعجل ملوك الطوائف السلاح التقليدي لدفع كل فريق طائفي أو مذهبي الى التقوقع، والغطاء الطائفي والمذهبي جاهز حتى لحماية الفاسدين والمفسدين في الطائفة والمذهب. فضلاً عن أن أهل السلطة تأخروا كثيراً للاعتراف بالحاجة الى التقشف والقرارات المؤلمة، فلسنا في صحوة إصلاحية، بمقدار ما نحن في نوع من عودة الوعي بعد ارتكاب كل الأخطاء والمخالفات الممكنة قبل الاصطدام بالواقع الصعب: استحالة الاستمرار في الاستدانة لممارسة الهدر الذي هو الاسم المستعار للفساد والسطو على المال العام بالقانون أحياناً.
فمن يشتري سندات الخزينة في الداخل يشترط رفع الفائدة لزيادة أرباحه، ومن يقدم القروض من الخارج يشترط إصلاحات لخفض العجز وتنشيط الاقتصاد لكي يضمن استرداد القرض مع الفائدة، وفيك الخصام وأنت الخصم والحكم.
التقشف القاسي أو الكارثة
اعتدنا تكرار القول: الأول في الحرب هو الأول في السلم، وعلينا الآن أن نسلّم بأن الأول في الهدر والفساد هو الأول في وقف الهدر ومكافحة الفساد. لا بل أن الخيار الذي يطرحه المسؤولون يطرحونه علينا هو: التقشف القاسي أو الكارثة. تجنب خفض الفائدة على الدين العام ولو بنسبة 1 في المئة أي ما يعني حوالي مليار دولار أو الانهيار وتوقف المصارف عن شراء السندات، وهو الخيار المفروض علينا أيضاً في السياسة: مرشحنا أو الفراغ. حصتنا في الحكومة أو لا حكومة.
ولا بأس في أن نوهم أنفسنا بأن لبنان لن يتأثر بالعقوبات الأميركية على إيران وحزب الله، ولا بأس في أن نتصور أننا قادرون على ممارسة "النأي بالنفس"، ومتى؟
وسط من يريدنا في محور "الممانعة" بشكل كامل ورسمي ومن يربط مساعدته لنا بأن نكون "دولة مستقلة قادرة على اتخاذ قرارتها بشكل مستقلّ" كما قال وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في بيروت.