منذ اللحظة الأولى لاغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زادة، في الـ27 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بمقاطعة دماوند شرق طهران، ظهر الارتباك جلياً داخل المؤسسات الأمنية والإعلامية المحلية بشأن تفسير الحادثة، إذ تقاذفت المسؤوليات حول التقصير في حماية "أبو القنبلة النووية الإيرانية"، كما يلقب العالم زادة.
عملية الاغتيال التي حدثت على الأراضي الإيرانية واجهت موجة من الغضب الشعبي الداخلي، فطافت احتجاجات غاضبة شوارع طهران، منددة بالحادثة ومطالبة بـ"الرد السريع"، ولام كثير من الإيرانيين سلطاتهم الأمنية. وقال بعض المغردين، "في الوقت الذي تنشغل أجهزة الاستخبارات والجهاز الأمني بقمع الطلبة والناشطات النسويات والصحافيين وأصحاب الفكر المختلف، يُغتال في وضح النهار علماء نوويون في الشارع".
وفي أقل من عام، أخفقت الأجهزة الأمنية الإيرانية في تجنب حوادث كثيرة، منها التفجيرات المتلاحقة التي ضربت مواقعها النووية. ولم تكشف ما كان يجهّز لقادتها، "رجل الظل" قائد فيلق القدس قاسم سليماني، وصولاً إلى اغتيال أكبر عالم نووي لديها محسن فخري زادة، علماً أن الرجلين عاشا في السر حياة متخفية.
طهران التي تتفاخر ببسط سيطرتها الكاملة على أنحاء واسعة من الإقليم، كشفت الأحداث الأخيرة عن هشاشة وضعها الداخلي والثغرات الأمنية الخطيرة، مما يدل على اتساع حرب الاستخبارات السرية بينها وبين خصومها.
فضيحة أمنية
عقب عملية الاغتيال، ظهرت تحليلات عدة تشرح كيف جرت العملية. لكن، ما جاء على لسان المسؤولين الإيرانيين كان "متناقضاً إلى درجة كبيرة"، إذ ذكرت الرواية الرسمية على لسان أمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني بعد أيام، أن الاغتيال كان "عملية معقدة استُخدمت فيها أجهزة إلكترونية، ولم يكن ثمة أي شخص في المكان".
وأشار نائب القائد العام للحرس الثوري العميد علي فدوي إلى أن الاغتيال حدث بواسطة رشاش باستخدام "الذكاء الاصطناعي جرى التحكم به عبر الأقمار الاصطناعية والإنترنت، ولم يكن هناك إرهابيون في مكان الحادثة"، وفق ما نقلت وكالة "مهر" الإيرانية، حينها.
وكان تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز"، منشور في الـ27 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، قد لفت إلى أن التناقض يعني "توتراً داخل المؤسسة الحاكمة"، موضحاً "يحاول كل طرف تجنّب تحمل المسؤولية. فالشعور بالإهانة الذي أصاب المؤسسة الحاكمة بمقتل فخري زادة قادها لإعادة كتابة الحادثة وإخراجها مثل رواية خيال علمي، فقالوا إن إسرائيل قتلته من خلال استخدام ريموت كونترول أو عبر رشاش موجّه أطلق سيلاً من الرصاص على سيارة العالم ومن دون وجود أي من المهاجمين في مكان الحادثة".
وأضاف التقرير، "الفشل في إلقاء القبض على القتلة فاقم من الفضيحة حول إخفاق الحكومة بمنع عملية الاغتيال، كما أن الرشاش المُستخدم في العملية يشبه الذي صنعته أنظمة رفائيل الدفاعية المتقدمة، واسمه بالعبرية (ترى وتقتل)".
وفي محاولة لتحميل الحرس الثوري الإيراني المسؤولية وإخفاقه في حماية زادة، قال علي الربيعي، متحدث وزارة الأمن حينها، "حذّرنا من تعرض حياة العالم النووي للخطر قبل مقتله بأسابيع. كانت هناك تفاصيل ومعلومات عن احتمال اغتياله"، مؤكداً أنه "كان يمكن منع الجريمة لو اتُبع البروتوكول الأمني، وكانوا أكثر حرصاً"، بحسب "نيويورك تايمز".
التناقض والثغرة الأمنية تأكدا بعدما قال وزير الاستخبارات الإيراني محمود علوي، في التاسع من فبراير (شباط) الحالي، إن أحد أفراد القوات المسلحة في بلاده "ضالع في اغتيال العالم النووي"، مضيفاً، في برنامج عبر التلفزيون الرسمي، أن الاستخبارات وقبل شهرين من مقتل زادة "زوّدت القوات المسلحة بمعلومات بشأن احتمالية وقوع عملية اغتيال في المنطقة نفسها"، ومؤكداً "على رغم ذلك لم تُتخذ التدابير اللازمة".
وثائق إيران السرية في إسرائيل
عرف الرأي العام العالمي فخري زادة بوصفه شخصية محورية في البرنامج النووي الإيراني، في مايو (أيار) 2018، بعدما عرض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال مؤتمر صحافي وثائق تمكّن جهاز الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) من الوصول إليها في إيران وجلبها إلى إسرائيل.
وذكر نتنياهو وقتها تفاصيل مهمة حول البرنامج النووي الإيراني، وقال: "تذكروا هذا الاسم. فخري زادة". وبحسب المعطيات الإسرائيلية ترأس زادة مطلع الألفية الجديدة مشروع البرنامج النووي العسكري لبلاده تحت اسم "الأمل".
وفي مقال بعنوان "ملف فخري زادة"، يذكر رونن برغمان، محلل الشؤون الاستخباراتية في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، نُشر في الرابع من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أن الموساد حصل خلال عمليته في عام 2018 على أكثر من 55 ألف صفحة من الوثائق السرية في طهران.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولفت إلى أن عملاء الموساد فتحوا عن طريق أجهزة خاصة عدة خزائن مغلقة بإحكام شديد في مكان محصّن لا يمكن الوصول إليه وإلى الوثائق من دون مساعدة أشخاص من داخل المكان نفسه. مؤكداً أن الاستخبارات الإسرائيلية تابعت منذ عام 1993 نشاطات عالم الفيزياء النووية الإيراني، وكان البرنامج النووي حينها يخطو أولى خطواته.
أما صحيفة "التايمز" البريطانية، وفي تحليل نُشر في ديسمبر الماضي، فاعتبرت أن عملية الموساد في قلب طهران كانت بمثابة "فضيحة لأجهزة الأمن الإيرانية"، لا سيما بالنسبة إلى جهاز استخبارات الحرس الثوري المسؤول عن الجزء العسكري من البرنامج النووي الإيراني، الذي يوظف لهذا البرنامج أشخاصاً من دوائره الضيقة.
وقال التحليل، "مسؤولون في الاستخبارات يصفون اغتيال العالم الإيراني بأنه ذروة مشروع جهاز الموساد لتدمير البرنامج النووي الإيراني"، مشيراً إلى الاعتقاد السائد على نطاق واسع بأن جهود الجهاز الإسرائيلي مستمرة منذ أكثر من عقد من الزمان، وتضمنت عمليات اغتيال في وضح النهار بشوارع طهران وتفجيرات في معامل سرية لتخصيب اليورانيوم، والإدخال العبقري لفيروس "ستوكسنت" إلى أنظمة التشغيل بواسطة ذاكرة بيانات بريئة الشكل. ولافتاً أيضاً إلى أنه حتى قبل أن تظهر الروايات الاستثنائية الخاصة بالكمين الذي اغتيل فيه زادة، فإن نجاح العملية "كان محل احتفاء، باعتباره تحفة في التخطيط".
أدوات الاغتيال: بندقية آلية وسيارة نيسان
يبدو أن الاتهامات التي وجهها النظام الإيراني إلى إسرائيل "صحيحة" بعد التقرير الذي نشرته في العاشر من فبراير الحالي الصحيفة الإسرائيلية "جويش كرونيكل"، وعدّته حصرياً. تقول، "إن زادة قتل عبر بندقية آلية ثقيلة هرّبها الموساد إلى إيران قطعة قطعة على مدى ثمانية أشهر. وشارك في العملية فريق من الموساد مكون من 20 عنصراً إسرائيلياً بالتعاون مع عملاء إيرانيين، وبعد ثمانية أشهر من المراقبة الدقيقة".
وأكدت "جويش كرونيكل"، التي تعد أقدم صحيفة إسرائيلية وتصدر من لندن، أن "الموساد قتل العالم النووي". وأوضحت "من خلال سيارة نيسان مزوّدة بالبندقية الآلية، وجرى تفعيل السلاح من قِبل عملاء على الأرض راقبوا الهدف، وكان ثقيلاً لأنه دمر الأدلة بعد العملية". مؤكدة أن إسرائيل نفذت العملية "بمفردها ومن دون مساندة الولايات المتحدة"، التي وصفتها بـ"المشاركة البسيطة"، التي اقتصرت على إعطاء "دليل صغير" قبل تنفيذ العملية.
وشرحت الصحيفة، "عملية القتل حدثت عن طريق بندقية موجهة عن بعد، بُنيت قنابل صغيرة بداخلها سمحت بتدمير نفسها بعد العملية. وإضافة إلى المتفجرات وصل وزن الجهاز المعد بشكل خاص إلى طن، وهُرّب إلى إيران قطعة قطعة على مدى شهور. وبعد ذلك جُمّع ورُكّب في شاحنة نيسان صغيرة أوقفت على جانب الشارع".
وتضيف، "بينما النظام الإيراني قيّم نتائج خسارته فخري زادة بأنه قد يحتاج إلى ستة أعوام كي يعوّضه. فإن الإسرائيليين قدروا أن مقتله سيطيل من مدة عمل طهران للحصول على القنبلة النووية ما بين ثلاثة أعوام ونصف إلى خمسة أعوام".
يقول جاكوب ناقل، الذي عمل مسؤولاً دفاعياً ومستشاراً في شؤون الأمن القومي لبنيامين نتنياهو، "لدى الموساد وثائق تثبت أن فخري زادة عمل على رؤوس نووية كل واحدة قادرة على التسبب بضربات مدمرة خمسة أضعاف ما تعرضت له هيروشيما". مؤكداً أنه "كان خطيراً، ويواصل عمل ما يُخطط له. لكن، البعض قرر أن وقته على الأرض قد انتهى".
تخطيط القتل بدأ في 2018
وبحسب الصحيفة، فإن العملية نجحت نظراً إلى "انشغال مؤسسات الأمن الإيرانية بمراقبة معارضي النظام". وتعود بالزمن إلى الـ31 من يناير (كانون الثاني) 2018، عندما اختُرقت مخازن إيرانية في حي بالعاصمة طهران، احتوت على ملفات للمشروع النووي الإيراني. وسرق وقتها العملاء ملفات أرشيفية، واستخدموا فيها مشاعل بقوة 2000 درجة مئوية لاختراق المخازن وسرقة الملفات الموضوعة في 32 صندوقاً كبيراً. واستطاع العملاء تهريب خمسين ألف وثيقة و163 سي دي تحتوي على البرنامج النووي السري، وجرى تخزين الأرشيف في مكان سري داخل إسرائيل.
وتقول مصادر، إن إسرائيل تحاول إقناع إدارة جو بايدن عبر الوكالة الدولية للطاقة الذرية أنه لا يمكن الثقة بإيران. وتنقل الصحيفة عن مصدر إسرائيلي قوله، "سنقيم جدلنا هذه المرة على معلومات استخباراتية لا سياسية".
وعقد الموساد في بداية هذا الشهر اجتماعاً لجنرالاته، وناقش أفضل الطرق لمنع الولايات المتحدة من الدخول في اتفاقية جديدة وغير كاملة مع إيران. وتعتقد إسرائيل أن اتفاقية 2015 سمحت لطهران بوقف برامجها النووية لا تفكيكها، إضافة إلى تحويل أموال إلى الميليشيات التابعة إليها.
وتؤكد الصحيفة أن الوثائق التي سرقتها إسرائيل تكشف عن إخفاق إيران في التزام بنود المعاهدة مع أوباما. وتأمل في أن تقنع بايدن بالدخول في اتفاق جديد، وألا يكرر أخطاء سلفه أوباما، بل مواصلة استراتيجية "الضغوط القصوى" التي فرضها دونالد ترمب.
20 شخصاً خدعوا زادة
وقال مصدر إن الأرشيف الذي عثروا عليه احتوى "على الوثائق الأصلية التي تطلب إخفاء البرنامج النووي، ومعظمها بخط فخري زادة". وأضاف "المحللون كانوا ينظرون إلى الحبر والخط وضغط يده على الوثائق وبصماته، وهو الشخص الذي كان يقف وراء عملية الخداع"، لافتاً إلى أن زادة كان "المسؤول عن كل شيء عثرنا عليه، كل شيء كان تحت سيطرته، من العلم إلى المواقع السرية إلى المعرفة الشخصية. وقاد عمليات إخفائها عن العالم. ومنذ ذلك الوقت كان الأمر مسألة وقت".
وفي 2020 جرى إحياء العملية عندما كان العالم مشغولاً بفيروس كورونا، فأرسل فريق من الموساد إلى إيران للتنسيق مع عملاء محليين، 20 عميلاً، ورسموا خطة دقيقة، وعاش الفريق مع زادة 18 شهراً، حيث تنفس أعضاء الفريق معه وناموا عندما نام وسافروا معه. واتُخذ قرار التصفية على الطريق الشرقي خارج طهران وهو يقود إلى "أبسارد" التي يملك فيها بيتاً. كان الفريق يعرف أن فخري يسافر كل جمعة إلى هناك "وعرفوا الطريق اليومي والسرعة والتوقيت. وعلموا بالضبط أي باب يستخدمه للخروج من السيارة".
سنقتل القنبلة
استطاع فريق الموساد إخراج الجميع من دون تعرضهم للخطر، في وقت فجّرت البندقية نفسها مما زاد من الارتباك. يقول مصدر للصحيفة، إنها كانت الطريقة "الأكثر أناقة" للتأكد من إصابة الهدف، حيث كانت الغاية "تجنب إيذاء أي شخص آخر". وكان نجاح العملية مفاجئاً حتى للموساد. ويضيف "لإسرائيل فريق كبير هناك، بمن فيهم إسرائيليون، وهذا كان أكبر إحراج لطهران. أهين النظام ودمر، وفوجئ الموساد بالصدمة الكبرى".
وتؤكد الصحيفة أن عمليات اغتيال أخرى يُخطط لها، لكن ليس على قاعدة مقتل فخري زادة أو الجنرال قاسم سليماني. ليختم المصدر حديثه، "إذا أصبح الوضع حرجاً، فلن نطلب الإذن من أحد. سنقتل القنبلة".