Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بورغي إند بس": "الجاز الأبيض" في خدمة الأوبرا الفولكلورية

غرشوين ينهل من طفولة جيرانه ويعطي موسيقاهم عالميته

جورج غروشوين يرافق غناء غريس مور بالعزف على البيانو (غيتي)

حتى وإن كان مبدعون أفارقة أميركيون قد أبدوا دائماً إعجابهم بأوبرا "بورغي إند بسّ" معتبرين إياها "أول أوبرا تتحدث عن السود وحياتهم في أميركا"، فإن كثراً منهم ظلوا حتى فترة قريبة ينظرون إليها ليس بوصفها "أوبرا سوداء" بل بوصفها، وبحسب تعبير الكاتب الأميركي جيمس بالدوين "أوبرا تعكس رأي ملحنها في كيف يجب أن تكون أوبرا تكتب عن السود وحياتهم" وهو رأي كان قد أدلى بمثله مبدع أسود آخر هو هال جولسون الذي مدح العمل منذ العام التالي لظهوره للمرة الأولى عام 1935 مشيراً إلى أنه عمل بديع لكن لملحنه "كل الحرية في أن يكتب ما يشاء عن حياة السود الأميركيين كما قد يفعل بشأن أي موضوع آخر..."، حتى لو جرت ردود الفعل على هذا النحو، فإن تلك الأوبرا التي قد تكون الأنجح في تاريخ الموسيقى الأميركية، دائماً ما استثارت السجالات، ولكن ليس انطلاقاً من موضوع العمل أو موْسَقَته، بل انطلاقاً من شخصية الملحن نفسه. وذلك انطلاقاً من سؤال بسيط: هل يحق لفنان أبيض أن يلحن أوبرا عن الأفارقة الأميركيين تستند إلى موسيقى الجاز تحديداً؟

أبيض في العالم المغلق

كان ذلك هو الموضوع المزدوج إذا: كون جورج غرشوين أبيض؛ وكون الموسيقى التي تطغى على الأوبرا موسيقى جاز. فهل كانت موسيقى الجاز تعتبر ملكية خاصة لتلك الفئات من الأميركيين؟ بالنسبة إلى غرشوين "كان ما أردت فعله تأليف أوبرا فولكلورية تستند إلى عناصر وأبعاد لم يسبق لها أن وُجدت في أي أوبرا أميركية من قبل". ويمكننا أن نفترض اليوم، كما افترض كثر من قبلنا، أن نجاح الأوبرا، إلى درجة أنها اعتبرت دائماً أنجح أوبرا عرضت خلال النصف الأول من القرن العشرين، هو ما أثار السجال من حولها. لو فشلت لكانت ذهبت طي النسيان بالتأكيد. والحقيقة أن نجاحها لم يتعلق فقط بنجاح عروضها على الخشبة في برودواي وغيرها كما في مدن كثيرة في طول العالم وعرضه، ولا في اقتباسها في أفلام أوصلتها إلى أعرض الجماهير الممكنة – حتى ولو أن الاقتباس الأشهر هنا لم ينل رضى ورثة غرشوين مع أنه من تحقيق أحد أعمدة هوليوود: أوتو بريمنغر- ولكن بصورة أكثر دلالة في تحول العديد من أغنياتها لتصبح الأشهر في تاريخ الغناء "الزنجي" مؤداة منفردة بأصوات بعض كبار الكبار في تاريخ هذا الغناء من أمثال "لويس آرمسترونغ، وإيلا فيتزجيرالد، وبيلي هاليداي..."، ومنها خاصة "سامرتايم" و"آي غات بلنتي أو ناتن" و"بسّ... يو إز ماي وومن ناو" و"آي لافز يو بورغي"، وغيرها من تلك الأغاني التي امتلأت بـ"أخطاء لغوية" عبرت تماماً عن اللغة الشعبية للسود التي كان غرشوين يتقنها منذ كان يسكن في أحياء السود الأميركيين في نيويورك، وبدا استعمالها في أغنيات "بورغي إند بسّ" تكريساً لها على ألسنة الناس.

 

من ملوك الجاز؟

ونعود هنا إلى المسألة الرئيسة. فلئن كانت موسيقى الجاز، بشكل شبه دائم، من ابتكار السود الأميركيين الذين اختصوا بها وكتبوا لها أجمل الألحان والأغنيات، جاعلين إياها موسيقى القرن العشرين من دون منازع، فإن الأمر لم يخلُ من موسيقيين بيض، أسهموا بدورهم في إعلاء شأن تلك الموسيقى ومدوها بأجمل أعمالهم وألحانهم، فكانوا في ذلك عند مستويات لا تقل بأي حال عن المستويات التي وصلها كبار موسيقيي الجاز الزنوج (أو الأفارقة الأميركيين لكي نستعمل تعبيراً أكثر حداثة وعدلاً). ومن بين الموسيقيين الكبار الذين أسهموا في بعث الجاز، من المؤكد أن اسم جورج غرشوين، هو الاسم الأول الذي يخطر في البال، وتحديداً بفضل "بورغي إند بسّ"، على الرغم من أن أعمال الرجل كانت من التنوع بحيث شملت الكلاسيكيات والجاز والموسيقى الراقصة الحديثة، وتواكبت في آن معاً مع بروز الكوميديات الموسيقية على المسرح وعلى الشاشة الكبيرة، بشكل جعل غرشوين يعتبر إلى حد كبير، أبرز المؤلفين الموسيقيين الأميركيين في القرن العشرين، وأكثرهم خصباً وتنوعاً.

ونقله وودي آلن إلى مانهاتن!

ولد جورج غرشوين عام 1898 في بروكلين، وإن كان سيحلو للسينمائي وودي آلن أن يخلده في ثنايا فيلمه الشهير الذي كرسه لمنطقة مانهاتن. ولقد تحدر غرشوين من أسرة شديدة التواضع من أصول روسية، عاشت في جيرة مثمرة مع السود في ذلك الحي النيويوركي الفقير. ومنذ طفولته، ومن جراء اختلاطه برفاقه السود وإعجابه بموسيقاهم، وجد غرشوين نفسه يتجه إلى دراسة الموسيقى، حيث اضطر لممارسة العديد من المهن المتواضعة حتى يحصل على ما يكفيه من المال الذي يمكنه من تلك الدراسة. ولقد كانت تضحياته في ذلك المجال مثمرة إذ نراه ولما يبلغ الثامنة عشرة من عمره بعد، ينشر أول قطعة من تأليفه، وكانت عبارة عن أغنية شعبية. غير أنه لم يكتف، بالطبع، بذلك المجد المبكر، إذ ما مضت على ذلك ثلاث سنوات، وكان قد أضحى في الثانية والعشرين، حتى وضع أول ملهاة موسيقية من تأليفه وعنوانها «لا.. لا.. لوسيلي". كانت عملاً لا بأس به في مقاييس ذلك الزمن، ومع هذا كان على جورج غرشوين أن ينتظر بعض الوقت قبل أن يحقق ما كان بحاجة إليه من الشهرة والمكانة، عبر أغنية شعبية ثالثة كتبها هي أغنية "سواني" التي بيع منها، فور ظهورها، أكثر من مليون نسخة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

صفروا في لندن لأميركي من باريس

اعتباراً من تلك اللحظة صار في وسع غرشوين أن يكرس وقته وطاقته لموسيقى الجاز التي كانت هواه الأول والأخير. وهكذا انصرف لكتابة "رابسودي باللون الأزرق" وهي القطعة التي عزفت للمرة الأولى في فبراير (شباط) 1924، ولا تزال حتى اليوم تعتبر واحدة من أجمل أعماله ومن أجمل إنتاجات الموسيقى الأميركية في النصف الأول من القرن العشرين. كان النجاح حليف تلك القطعة منذ تقديمها للمرة الأولى، ومنذ ذلك الحين لم يعد على جورج غرشوين أن يقلق بسبب وضعه المالي، إذ إن ذلك العمل والأغنيات الشعبية الأخرى، كانت قد بدأت تدر عليه أرباحاً تمكنه من التفرغ تماماً لفنه ولكتابة أعماله الكبيرة التالية. ومع هذا لا بد أن نذكر هنا أن نجاح غرشوين في أميركا لم يواكبه، أول الأمر، أي نجاح في أوروبا، حيث إن جمهور مهرجان لندن وقف يصفر لغرشوين، بدلاً من أن يصفق له، في 1930، حين قدم عمله الكبير التالي "أميركي في باريس" الذي كان غرشوين قد ألفه قبل ذلك بثلاث سنوات. ويبدو أن عدوى الصفير انتقلت بسرعة إلى الولايات المتحدة نفسها لتدفع غرشوين إلى نوع من فقدان الثقة باختياراته، وكان ذلك في بوسطن، في 1935، حيث أقيم العرض الأول لرائعته "بورغي إند بسّ" وهي تلك الأوبرا الفولكلورية المقتبسة بحرية تامة عن روميو وجولييت لشكسبير وتدور أحداثها في أوساط السود الأميركيين.

بين الكلاسيكية والأسطورة

انتقل غرشوين إثر ذلك إلى هوليوود، حيث بدأت أغانيه ومقطوعاته بغزو الأفلام وبدأ يحقق نجاحاً يختلف بعض الشيء عن نجاحه الأول. وهو حين رحل عن عالمنا عام 1937، كان قد أضحى صاحب شهرة لا تضاهى، زادت السينما من اتساعها، وكان قد خلف وراءه العديد من الكوميديات الموسيقية والأغنيات الشعبية التي كان أخوه يكتب معظم كلماتها. أما العمل الأكبر الذي كتبه خلال السنوات الأخيرة من حياته، فكان "كونشرتو للبيانو والأوركسترا" لا يزال يعزف بكثرة حتى الآن. ومع هذا فإن ما تبقى خالداً من أعمال غرشوين إنما هي كوميدياته الموسيقية وعلى رأسها "بورغي إند بس" التي حولت إلى فيلم متميز، و"رابسودي باللون الأزرق"، وكذلك أغنياته الشهيرة مثل "الوجه المضحك" و"فتاة مجنونة" و"اغفر لي إنجليزيتي"- التي تعبر بظرف عن استخدام اللغة الشعبية في أغنياته – و"الفتاة الكنز" وكلها من كلاسيكيات الأغنية الأميركية التي تجعل ذكر غرشوين لا يغيب، وكأنه لا يزال حياً حتى الآن.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة