هي المرة الاولى التي تمرّ فيها ذكرى اغتيال رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، والحكم قد صدر، والمتهم أصبح مداناً، والشك تحوّل إلى يقين. في 18 أغسطس (آب) 2020، أصدرت غرفة الدرجة الأولى في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان حكمها بالإجماع، وقررت أن المتهم سليم جميل عياش هو مذنب على نحو لا يشوبه أي شك معقول، وبعد شهرين على الإدانة، حددت غرفة الدرجة الأولى حكم العقوبة، فحكمت في 11 ديسمبر (كانون الأول) 2020، على عياش بالسجن المؤبد لارتكابه خمس جرائم، أبرزها المشاركة في مؤامرة ارتكاب عمل إرهابي، وتهمة القتل عمداً ومحاولة القتل عمداً، ولم تجد المحكمة الدولية أي ظروف من شأنها أن تخفف العقوبة. الحكم صدر لكن تنفيذه لم يتم، فسليم عياش لا يزال فاراً من وجه العدالة.
هل حاولت الدولة اللبنانية القبض على عياش؟
في اليوم ذاته الذي صدر فيه حكم العقوبة في لاهاي، تسلّم المدعي العام التمييزي في لبنان من خلال وزارة العدل نسخة عن الحكم، مرفقة بحسب ما علمت "اندبندنت عربية" بمذكرة توقيف جديدة محلية وأخرى دولية، أرسلتا إلى السلطات اللبنانية وإلى الإنتربول، كما أصدرت المحكمة قرار نقل واحتجاز بحق عياش.
طلب المحكمة الدولية بتوقيف عياش وصل إذاً إلى القضاء اللبناني منذ حوالى ثلاثة أشهر، وحتى الآن لم يتم توقيف عياش، والمعلوم أن سليم عياش والمتهمين الثلاثة الذين تمت تبرئتهم، كان وصفهم الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله بـ"القديسين"، وهو كان أكد أن الحزب سيتعامل مع أي قرار ستصدره المحكمة الدولية وكأنه لم يصدر.
لدى القضاء اللبناني روايتان متناقضتان، الأولى تفيد بأن المدعي العام عمّم مذكرة التوقيف الجديدة على الأجهزة الأمنية وهي لم تعثر على عياش. أما الرواية الثانية، فتؤكد أن الحكم لم يصل بعد إلى القضاء اللبناني، وأن المحكمة الدولية أرسلت فقط طلباً تضمن إبقاء مذكرة التوقيف بحق عياش السابقة سارية المفعول واسترداد المذكرات الخاصة بالمتهمين الثلاثة الآخرين الذين تمت تبرئتهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتبرر المصادر القضائية الأمر بالقول إن استئناف الحكم الذي تقدّم به المدعي العام نورمان فاريل، وكذلك مكتب الدفاع عن عياش، من شأنه تجميد تنفيذ الحكم ومعه قرار توقيفه، لذلك فلننتظر قرار الاستئناف. في المقابل، كانت المحكمة الدولية دعت أولئك الذين يحمون عياش من العدالة إلى تسليمه للمحكمة، وكشفت مصادر قضائية في المحكمة الدولية عن أن الاستئناف لا يلغي الحكم أو مذكرة التوقيف بل يجمّد تنفيذ العقوبة لحين بت الاستئناف، علماً أن الاستئناف الذي تقدم به القاضي فاريل والذي اعتبر فيه أن الحكم تضمن أخطاء قانونية وأخطاء بالوقائع، قد يشهد على مفاجأة جديدة في الحكم، بحيث قد يصار إلى توجيه الإدانة إلى متهمين تمت تبرئتهما، هذا فضلاً عن أن غرفة الدرجة الأولى لا تزال تنظر في حق الدفاع عن عياش، في استئناف الحكم، لأن المحاكمة كانت غيابية.
وتذكر مصادر في المحكمة الدولية أن عياش متهم بقضية ثانية هي محاولة اغتيال الوزير السابق مروان حمادة، وقد صدرت بحقه أيضاً مذكرة توقيف ولم تنفذ كذلك الأمر.
لبنان ملزم بتنفيذ الحكم والقبض على المدان
بحسب الناطقة باسم المحكمة الدولية وجد رمضان، فإن سليم عياش لم يتم توقيفه بعد، على الرغم من تسلم السلطات اللبنانية، كما الإنتربول مذكرة توقيف بحقه، في 11 ديسمبر 2020، وتؤكد رمضان لـ"اندبندنت عربية" أن "لبنان ملزم بالتعاون امتثالاً للقرارات القضائية الصادرة عن المحكمة، استناداً إلى المادة 15، الفقرة الثانية من الاتفاق بين الأمم المتحدة والجمهورية اللبنانية بشأن إنشاء محكمة خاصة للبنان (المرفق بقرار مجلس الأمن 1757، الفقرة 20)، وتعاون لبنان مع المحكمة الدولية يشمل تنفيذ مذكرة التوقيف الصادرة بحق السيد عياش والبحث عنه وتوقيفه ونقله إلى مقر المحكمة".
وترفض رمضان الكشف عما نفذه لبنان حتى الآن على هذا الصعيد، مجددة القول إنه يقع على عاتق البلد التزام التعاون مع المحكمة وتنفيذ مذكرة التوقيف، وتذكّر بأن المراسلات بين المحكمة وبيروت في ما يتعلق بالتعاون القضائي سرية.
ونسألها عن إمكانية تنفيذ الحكم الغيابي، لا سيما أن المحاكمة حصلت أيضاً غيابياً فتجيب، "حتى بعد صدور حكم إدانة غيابياً، تبقى السلطات اللبنانية ملزمة بمواصلة البحث عن الأشخاص المدانين لتسليمهم إلى المحكمة. ولذا، فإن الأشخاص المُدانين بموجب حكم صادر عن المحكمة لن يبقوا بلا عقاب، بل سيبقون مطلوبين من العدالة بموجب مذكرات التوقيف الدولية والوطنية القائمة بحقهم".
صحيح أن إجراءات المحكمة الخاصة بلبنان قد تمت بغياب المتهمين تقول رمضان، لكن إصدار حكم وعقوبة بحق الشخص المدان، في إحدى القضايا الأكثر تعقيداً التي نُظر فيها على الصعيد الدولي، يعدّ إنجازاً على مستويات عدة، وتشدد على أهمية الحكم الذي صدر والذي أكد أن جريمة اغتيال الحريري ورفاقه، كانت عملاً إرهابياً ارتكب في زمن السلم بقصد تهديد الأمن والاستقرار في لبنان، من خلال اغتيال رئيس الوزراء السابق السيد رفيق الحريري. وذكرت بأن القضاة رأوا أن اعتداء 14 فبراير 2005 كان اعتداء خُطط له ونُفّذ بدقة، وأن هدفه كان زعزعة الاستقرار في لبنان، وبحسب رمضان، العقوبة التي حددت في قضية عياش وآخرين أكدت أولاً على عدم التسامح إزاء الجرائم التي ارتكبها عياش، كما أقرت ثانياً بما لحق بالمتضررين من أذى ومعاناة، ووجهت ثالثاً رسالة ردع واضحة إلى كل من قد يفكر في ارتكاب جرائم مماثلة في المستقبل.
ماذا إن لم يتعاون لبنان في تنفيذ العقوبة؟
إن لبنان ملزم بالتعاون مع المحكمة الدولية بموجب المادة 15 من الاتفاق بين الأمم المتحدة والجمهورية اللبنانية بشأن إنشاء محكمة خاصة للبنان، هو الجواب الذي تكرره الناطقة باسم المحكمة الدولية، ردّاً على عدم تعاون الأجهزة القضائية والأمنية والسياسية في تنفيذ الحكم، وتضيف أن هذا الاتفاق يشمل كل القرارات التي تصدرها غرف المحكمة، بما في ذلك تحديد هوية الأشخاص وأماكن وجودهم والقبض عليهم أو احتجازهم وإحالتهم إلى المحكمة.
لكن رمضان تؤكد أن ليس لدى المحكمة الدولية قوات شرطة خاصة بها، كما كل المحاكم الدولية، لذا، هي تعتمد على تعاون الدول لتنفيذ العقوبات الصادرة عقب إجراءات المحاكمة، وتضيف، "على السلطات اللبنانية أن تستجيب، بلا تأخير لا مبرر له، لأي قرار يصدر عن غرف المحكمة الخاصة بلبنان، ويشمل هذا التعاون تنفيذ العقوبات التي تصدر بحق الأشخاص المدانين في لبنان، ونحن، على ثقة تامة بأن السلطات المحلية ستتخذ كل الخطوات اللازمة للمساعدة على تنفيذ العقوبة الصادرة بحق السيد سليم عياش، من خلال مواصلة جهود البحث عنه لتوقيفه ونقله إلى عهدة المحكمة".
ولكن هل تحال المسألة إلى مجلس الأمن إذا لم تنفذ الدولة اللبنانية الحكم وتوقف عياش، لا سيما أن قرار إنشاء المحكمة قد قام على أساس الفصل السابع، تجيب رمضان بدبلوماسية، "حتى اليوم، تقوم العلاقة التي تربط بين المحكمة ولبنان على حسن التعاون، لكن أحكام المادة 20 من قواعد الإجراءات والإثبات للمحكمة تنظم مسألة عدم تعاون لبنان، فإذا لم يستجِب ولم يتعاون مع قرار أصدرته غرفة الدرجة الأولى، يجوز للقضاة تنظيم محضر قضائي بذلك. ويمكن لرئيسة المحكمة حينها المباشرة بالتشاور مع السلطات اللبنانية للحصول على التعاون المطلوب، وإذا رأت غرفة الدرجة الأولى ورئيسة المحكمة أن المساعدة لم تُقدّم بعد، فإنه يجوز عندئذ للرئيسة أن تنظّم محضراً قضائياً بذلك وأن تحيل المسألة إلى مجلس الأمن".
هل بات الجلوس مع "حزب الله" في الحكومة أصعب بعد الحكم؟
صحيح أن الحكم الصادر عن المحكمة الدولية لم يسمِّ الجهة التي حرضت والتي خططت لقتل الحريري، إلا أنه أشار بشكل واضح إلى أن النظام السوري وحلفاءه في لبنان كان لهم المصلحة في اغتيال رفيق الحريري.
وينفي النظام السوري وحزب الله الاتهامات الموجهة إليهما بشأن اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل.
في السنوات الـ 16 الماضية، ترأس سعد الحريري الابن حكومات عدة شارك فيها "حزب الله" بوزراء من صفوفه، وشكّلت موضع استغراب لدى كثيرين عن قدرة الحريري في الجلوس على الطاولة ذاتها مع الجهة المتهمة بقتل والده، لكن قرار الحريري الابن حينها قضى باعتماد ربط النزاع مع "حزب الله"، واضعاً مصلحة البلد قبل مصلحته، تاركاً جريمة والده للعدالة كما صرح مراراً.
كان ذلك قبل الحكم، أما اليوم، وبعد أن تحوّل المتهم إلى مدان، بات السؤال المطروح، هل لا تزال تصلح سياسة ربط النزاع مع "حزب الله"، وهل يمكن أن يجلس الحريري على الطاولة ذاتها مع "القاتل"؟
يؤكد القيادي في تيار المستقبل النائب السابق أحمد فتفت، المعروف بانتقاداته لـ"حزب الله"، "ما بعد الحكم ليس كما قبله. المطلوب من الحزب تسليم سليم عياش، وإذا لم يقم بذلك، سيعتبر شريكاً أساسياً في جريمة اغتيال رفيق الحريري، ولن نقتنع بغير ذلك".
ويستوقف فتفت لجوء "حزب الله" المستجد إلى القضاء للادعاء على من يتهمه بانفجار المرفأ وبجريمة اغتيال الكاتب والباحث السياسي لقمان سليم، فيدعوه إلى تسليم عياش طالما قرر احترام القضاء. أما عن موافقة الحريري بمشاركة الحزب في الحكومة بعد الحكم، فيعتبر فتفت أن "الموضوع غير مطروح لأن الحريري بنفسه أكد أنه سيشكّل حكومة من اختصاصيين غير حزبيين، بالتالي لن يكون الحزب وغيره من الأحزاب داخل مجلس الوزراء".
ويتابع فتفت أنه على الأقل، التمثيل لن يكون بشكل مباشر، وهم يربطون منح الثقة للحكومة بموافقتهم على الأسماء المقترحة، علماً أن استبعاد "حزب الله" وغيره من الأحزاب عن الحكومة، فرضته الشروط الدولية قبل حكم المحكمة الدولية، إذ بات واضحاً لدى الحريري أن أي مساعدات دولية ستكون مشروطة بشكل الحكومة وبمدى قدرتها على اتخاذ قرارات جريئة تتعلق بالإصلاحات المطلوبة لإنقاذ البلد.