عندما بدأت جائحة كورونا تجتاح إيطاليا السنة الفائتة، تعرّضت أعمال ومؤسسات عديدة لأزمة لم تعرفها من قبل، بفعل تدابير الإغلاق (الحجر)، ما أوقعها تحت عبء وواقع مشؤوم. وصار كثير من المشاريع والأعمال يتلقى عروض استحواذ غير معهودة، وفي الغالب مقابل أسعار أدنى من قيمته "العادية" في السوق. بيد أن الجانب الإيجابي في عروض الاستحواذ المذكورة، تمثل بفرصة الحصول الفوري على مبالغ نقديّة. فيما رأى بعض أصحاب المشاريع أن العروض التي تصلهم مصدرها مستثمرون "غير مبالين" يأتون لإنقاذهم من الضائقة ويتعهدون بضخ الأموال في ميزانياتهم المتقلصة.
في هذا الإطار بداية، لم تُطرح على أصحاب المشاريع والمؤسسات أسئلة ومتطلبات محددة أو غير منطقية. لكن، بعد أسابيع أو أشهر قليلة كان "الشريك" الجديد يطلب منهم أن يعيدوا له الأموال التي دعمهم بها، وفي حال لم يتمكّنوا من ذلك، أن يمنحوه حصّة أكبر من مشروعهم، أو ربما المشروع برمته.
وعلى هذا المنوال بدأت روابط وجماعات الجريمة الإيطالية، أو "العائلات"، كما يطلق عليها – "المافيا الصقلية" (كوسا نوسترا)، "ندرانغيتا" و"كامورا" – بالتوغّل أكثر في الاقتصاد الإيطالي خلال الجائحة، لتغدو جزءاً "قانونياً" منه، كونها لم تطلب المال عبر العنف والإبتزاز، بل من خلال تقديم الدعم للمشاريع والأعمال المتعثرة.
وتعدّ إيطاليا واحدة من أكثر الدول التي عانت بفعل الجائحة، التي ضربتها بعنف إبّان موجتها الأولى السنة الماضية، وقد بلغت أعداد الوفيات في تلك البلاد جراء كوفيد 19، نحو 93 ألف شخص، المعدّل الذي وضعها في المرتبة الثانية أوروبياً، بعد بريطانيا. أمّا الثمن الاقتصادي، فجاء باهظاً بدوره.
وعن أسلوب استفادة المافيا من هذه الأزمة يشرح لويغي كومو، رئيس منظمة "أس أو أس إمبريسا" SOS Impresa الملتزمة بدعم الاستثمارات ومشاريع الأعمال المتعثرة، قائلاً "أتى تقديم الدعم المالي كي تجري في ما بعد المطالبة بمعدلات فائدة عالية عليه، وأثبت أنّه طريقة استثنائية وتكاد تكون آمنة تماماً لاختراق الاقتصاد الرسمي". والمكاسب الإيجابية المحجوبة لهذا النوع من التعاملات المالية تتمثّل بالاستحواذ على اسم المؤسسات أو الأعمال المحترمة السابقة و"تاريخها"، والتقنّع بصدقيتها المالية. وعبر تلك المكاسب تبدأ جماعات المافيا بالعمل في السوق كأطراف قانونية، مدعومة بمصادر ضخمة للأموال نابعة من أنشطتها غير الشرعية.
ويذكر السيد كومو لـ"اندبندنت" في هذا الإطار أنّه "للأسف، لم يكن باستطاعتنا مساعدة العديد من المؤسسات والمشاريع الصغيرة والمتوسطة في الحصول على قروض تمويلية أتاحتها الحكومة في الربيع الماضي". والسبب، وفق ما يقول، تمثّل بعجز المؤسسات في إعطاء المصارف الضمانات الضرورية التي تظهر أن بإمكانها إعادة تسديد ديونها، على الرغم من كفالة الدولة. لكن، يذكر كومو متابعاً، "في سبتمبر (أيلول)، عندما بدأ الكثير من الأعمال والمؤسسات بإعادة فتح أبوابه، رأينا العديد من هذه الشركات والأعمال يقوم بالاستثمار برؤوس أموال لم نتمكن صراحة من تبريرها، بغير ذكر أنّها من "مصادر مختلفة" (في إشارة إلى المصادر المشبوهة لأموال المافيا).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في هذا السياق يظهر تقرير موثوق صادر من وزارة الداخلية الإيطالية نشرته في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي صحيفة "كوريري ديلا سيرا" Corriere della Sera أنه في الأشهر الستة الأولى لسنة 2020، تراجعت جميع الجرائم في إيطاليا بفعل الإغلاق، ما عدا القروض بفوائد فاحشة.
وجاء التقرير ليؤكد نتائج دراسة استطلاعية أخرى أجراها فرع مدينة ميلانو لاتحاد "كونفكوميرسيو" Confcommercio العام، الذي يضم اتحادات الأعمال الأساسية في البلاد. إذ توصل الاستطلاع المذكور إلى أن مؤسسة واحدة من أصل كل 10 شركات في إيطاليا كانت عرضة لـ "عمليات مشبوهة" هدفت إلى الاستحواذ على أجزاء أو حصص منها، مقابل أسعار أدنى من أسعار السوق.
و"هذه النسبة (1 من 10) تضاعفت مع نهاية أكتوبر (تشرين الأوّل)" وفق ما يشرح ماريو بيسيريكو، نائب رئيس "كونفكوميرسيو" ميلانو. ويردف "من المنطقي التفكير أن تلك الـ 20 في المئة ازدادت منذ ذلك الحين. إذ إن رقم "مؤشرات الجرائم" الذي يشير إلى ما يحصل من جني أرباح ربوية – وما يرافق ذلك من مخاطر وأضرار تلحق بالممتلكات – أظهر ارتفاعاً".
لكن المفاجئ في الأمر يبقى عدم تقدّم أي مؤسسة أو مشروع أعمال، حتى الآن، بشكوى للشرطة ضدّ أي حالة جرى فيها اعتماد الابتزاز الربوي. "في المقابل، يمكننا التأكيد أن هناك تحقيقات جارية في حالات ابتزاز ربوي لها علاقة بجرائم جماعات المافيا"، وفق ما تقول أليساندرا دولشي، المدعية العامة الرئيسة في دائرة التحقيق ضد المافيا في مدينة ميلانو.
وتضيف دولشي "هدفهم الأساسي يتمثل بخلق شبكة من الأنشطة الاقتصاديّة التي تسمح لجماعات المافيا بإقامة صلات بالمجتمع المدني والمؤسسات العامة وقوى الشرطة عبر تلك الاستثمارات الصغيرة. إذ في النهاية "رأسمالهم الاجتماعي" هو الذي يؤمن لهم المناعة والحصانة في إيطاليا". ووفق السيدة دولشي، تقوم جماعات المافيا بتحديد الشركات والمؤسسات المتعثّرة بفعل أزمة السيولة في ظل الجائحة. كما توضح "أولئك الناس محترفون عموماً، مثل مديري المصارف والمحاسبين، لذا يمكنهم "تحديد" شركة معينة باتت غارقة في مياه عميقة (في إشارة إلى الديون)، وغالباً ما يقوم المحترفون أنفسهم "باقتراح" ربط المستثمر المأزوم "بشخص قادر على حلّ مشكلاته". ثم يجري إذّاك استلحاق العرض بعملية استحواذ على حصّة صغيرة (أقل من 50 في المئة) في الشركة، وتلك حصة تغدو لاحقاً الحصة الأكبر، عبر تعيين رئيس صوَريّ.
إلى هذا، فإن جماعات المافيا لا تُقدِم فحسب على محاولة اختراق الاقتصاد الشرعي من طريق القروض الربوية والاستحواذ على المؤسسات والشركات والأعمال المتعثرة، بل تستغل أزمة الجائحة للعوم مع الأسماك الأكبر حجماً swim with bigger fish [الشركات المتماسكة والمزدهرة]. في هذا الإطار يشرح فيتوريو ريزي، نائب رئيس الشرطة الإيطالية ورئيس دائرة الشرطة الجنائية، "بحسب تحقيقاتنا، ما ينبغي فعلاً الانتباه إليه هي القروض المتعثرة، التي يمكن لجماعات المافيا من خلالها أن تبيّض مبالغ طائلة من المال".
القروض المتعثرة تمثل آلاف الديون التي ولدتها الأزمة، التي على الأرجح لن تُسدد إلى المصارف. ووفق السيد ريزي، تقوم عائلات المافيا بالاستثمار في هذه الائتمانات المتدهورة [الخاسرة]، التي تبيعها المصارف إلى مؤسسات أخرى، وتلك الأخيرة تقوم بدورها ببيعها إلى طرف ثالث هي شركات يسيطر عليها رؤساء صوريّون مرتبطون بجماعات المافيا. بهذه الطريقة تحصل جماعات المافيا على الأصول المرتبطة بتلك القروض، ومن خلالها تسلك طريقاً مشرعاً أمام تبييض مبالغ هائلة من المال. ويذكر ريزي في هذا الصدد "المشكلة في تتبع تلك العمليات تتمثل بأنها، من الناحية التقنية، عمليات مشروعة وقانونية تماماً. وحين نكتشف أمر التلاعب، فإنه في العادة يكون متأخراً" كي يتسنى لنا تتبع مصدره.
أما لويجي كومو (رئيس منظمة "أس أو أس إمبريسا") فيرى أن "جميع عائلات المافيا لا تعتمد هذه الطريقة، بل العائلات "الرفيعة المستوى" high level syndicates. إذ إن "الدخول إلى "النظام الاقتصادي" ليس بالمهمة السهلة يحتاج إلى "رؤوس مفكرة" ومحترفين، وأشخاص من حملة الشهادات، فيما العائلات الإجرامية الأقل شأناً لا تملك تلك الوسائل والصلات". من هنا، فإن "جماعات المافيا الرفيعة المستوى هي أخطر بكثير من الذين يتعاملون فحسب بالرصاص والمخدرات والقتل، فيساهمون في رفع مستوى "الخطر الاجتماعي". وذاك يؤدي في نهاية المطاف إلى لفت انتباه المحققين [من جهة]، ويجعلهم [من جهة أخرى] غير مطلقي اليد. فيما جماعات المافيا القادرة على اختراق الاقتصاد القانوني لا تعيقها أي قيود من أي نوع كان".
© The Independent