يؤثر كثير من النقاد السلامة والاستسلام للشائع المتداول، وبهذا المنطق غير المفهوم ابتعدوا عن معظم كتابات العقاد بدعوى الغموض والتعقيد، وفي فترة لاحقة عزفوا بالدعوى نفسها، عن الاقتراب من إبداعات إدوار الخراط ومحمد عفيفي مطر ومصطفى ناصف، على اختلاف مجالات كتاباتهم. وهذا ما عانى منه الراحل محمد حافظ رجب بوصفه واحداً من أبرز التجريبيين في القصة القصيرة التي أوقف حياته عليها، حتى أنه حوّل روايته "مخلوقات براد الشاي المغلي" إلى مجموعة قصصية.
لكن تهمة الغموض التي لم تكن شائعة في ظل سيادة المدرسة الواقعية والتي بلغت ذروتها على يد يوسف إدريس، ظلّت سبباً رئيسياً في عزلة رجب وشعوره بالاغتراب والوحدة، الأمر الذى دفعه إلى القول: "نحن جيل بلا أساتذة". وعلى رغم ما في هذه المقولة من حدة وتطرف حيث سبقه إدوار الخراط بتجريبيته المعروفة ويوسف الشاروني الذي اختار نمطاً سردياً مغايراً لتيار الواقعية الاشتراكية الرائج، فإن حافظ رجب يفسر مقولته تلك بقوله: "هناك أدباء في الشارع لا يجدون ثمن سيجارة، وهناك أدباء يلوذون بإمبراطورية يوسف السباعي (وزير الثقافة وقتها) وهناك أدباء يلوذون بالتقدمية فتطفح عليهم بنعمها".
وكلام حافظ رجب لا يحمل أي درجة من المجاز، فقد بدأ بائع محمصات ثم بائع صحف في الاسكندرية التى ولد فيها عام 1935. وعندما انتقل إلى القاهرة عمل مساعداً لرئيس الأرشيف في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب. لكنه بعد فترة آثر الرجوع إلى الاسكندرية بسبب صمت الكثيرين عن إبداعه باستثناء يحيى حقي الذي قدم مجموعة "عيش وملح" وهي مجموعة مشتركة ضمّت، إضافة لقصص كاتبنا، قصصاً لعز الدين نجيب والدسوقي محمد ومحمد جاد وسيد خميس وعباس محمد عباس. وفي مقدمته أكد حقي أن هؤلاء الأدباء يبتدعون تياراً جديداً داخل الواقعية ووصف محمد حافظ رجب بأنه سبق زمانه بثلاثين عاماً وخلّص القصة من السرد الرتيب. والاستثناء الثاني كان إدوار الخراط الذي كتب مقدمة ضافية ومحبة لمجموعة "مخلوقات براد الشاي المغلي"، وكان هذا دأب الخراط الذى ظل يبشر بالاتجاهات السردية والشعرية الحديثة حتى أواخر أيامه.
المجدد الطليعي
وبخلاف هذين الاستثناءين، صمت عنه الكثيرون، بل هاجمه البعض ومنهم محمود أمين العالم – المبشر الكبير بالواقعية الاشتراكية – حين قال إن "التعقيد المفتعل غربة عن الشعب والحقيقة"، وسامي خشبة الذي كتب مقالاً بعنوان "الكرة ورأس الرجل ، وهي إحدى مجموعات كاتبنا: ضياع المنهج وضياع النتيجة".
لكن التكريم جاءه على رغم كل هذا، من الخارج حين ذكرته الموسوعة الإنجليزية كأهم مجدد في القصة القصيرة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين. وربما لا يعلم البعض أن محمد حافظ رجب بدأ بكتابة مجموعة من المقالات تحت عنوان "كتاب وثوار" عن إميل زولا وديستويفسكي وفيكتور هوغو والشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وكانت تنشر أسبوعياً في مجلة "الفن" عام 1954.
وفي الوقت نفسه بدأ كتابة قصص لمجلة "القصة"، منها قصة عن زنوج أميركا بعنوان "الأنشوطة"، ومنها قصص عن حفاة الإسكندرية الذين مثلوا عالمه الأثير وكان منتمياً لهم وصوتهم المعبر عن آلامهم. وبذلك كثرت قصصه عن الأحياء الشعبية والفرد المأزوم الذي كان محور اهتمامه وليس الجماعة كما كان سائداً في الأدب الواقعي آنذاك على نحو ما يوضح رفيقه عز الدين نجيب. وكان هذا يشعرهم بالتميز على رغم كونهم "عرايا على قارعة الطريق تملأ عيونهم وبطونهم سطور الكلمات"، بتعبيرات حافظ رجب.
البطل والفارس
الفرد المأزوم إذاً هو مدار معظم قصصه على رغم أنه يطلق عليه - أحياناً - وصف "الفارس" و"البطل" وهما عنوانا قصتين له حيث يحكي في الأولى قصة "شفيق أفندي" الذي يحس بالقهر الدائم من مديره ما يجعله يستحضر، عندما يستدعيه المدير، مشهداً من طفولته حين يذهب إلى ناظر المدرسة فيعاقبه من دون ذنب اقترفه.
وبهذا نكون أمام مشاهد متناظرة تربط ماضي الشخصية بحاضرها ولا يجد كاتبنا مخرجاً لفارسه من هذا القهر إلا اللجوء إلى الفانتازيا حين يذهب "شفيق أفندي" إلى أحد الاجتماعات مصطحباً ابنه الكسيح، ربما رمزاً للمستقبل العاجز، وابنته وقطه ثم يقول كل ما يريد أو ما كان يرغب طوال حياته الوظيفية في قوله، وعندما يحتج عليه موظف ينهره القط قائلاً "اقعد"، وتنتهى القصة بأن يغادر الرجل وأسرته وقطه الاجتماع بعظمة وكبرياء. وفي قصة "البطل" نجد "عبده أفندي" منشطراً بين رغبته في الانتقام من زوجته الخائنة وحبه لها، لكنه يتغلب على هذا الحب ويتربص لها حتى يضبطها مع عشيقها ويذهب بهما إلى مخفر الشرطة وسط "زفّة" كبيرة من الأصدقاء والجيران الذين ينعتونه بالبطل على رغم انتحابه بسبب حبه العميق لها وخيانتها لهذا الحب وهو ما يخلق ما يسمى بالدراما النفسية داخل ذات هذا البطل المنكسر المخدوع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا كنا قد لمحنا خيطاً فانتازياً في قصة "الفارس"، فإن هذا الخيط يزداد تعقيداً وتركيباً في قصة "أصابع الشعر" حين نجد شخصية نسائية تدعى "هنا" – لاحظ غرابة الاسم – وهي تستلقي فوق وسادة من المخمل البنفسجي داخل علبة "تواليت" لكنها توارب باب العلبة لكي يراها العشيق الذي يسكن في صندوق حديدي رهيب، فيه وابور لحام وأصابع قصدير لكي يلحم ثقوب جسد المرأة مثلما يلحم ثقوب المواسير ومواقد الجاز – لاحظ غرابة أماكن الشخصيات وأفعالها – ولنا أن نتخيل هذا السرد فوق الواقعي المفارق للمألوف والقائم على التجريب وتفعيل خيال المتلقي، فبدلاً من أن يقول الكاتب إن هذه المرأة تحاول إغواء العشيق يقرر أنها تستلقي فوق وسادة من المخمل البنفسجي، وبدلاً من الإشارة المباشرة إلى زينتها المفتعلة يقول إنها تسكن في علبة "تواليت". لكن كل هذا لا يمحو آثار قسوة الزمن البادية عليها والممثلة في ثقوب جسدها، فهل يعني هذا تلاعباً شكلانياً قصصياً عند محمد حافظ رجب؟
الجواب هو "لا"، بحيث إنه ابتعد، كما يقرر العديد من النقاد، عن الشكلانيين كما ابتعد في الوقت نفسه، عن أصحاب المنظور الاجتماعى المباشر للأدب. وبهذا يكون كاتبنا قد حقق معادلته الفنية الفريدة والمتميزة داخل القصة القصيرة المصرية.