يبدو أن طي ملف الذاكرة بين الجزائر وفرنسا ليس قريباً كما راهن على ذلك كثر من الجانبين، وفي وقت لم يخفت بعد صوت تقرير المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا حول الملف ذاته، سارعت باريس إلى تمديد السرية على الوثائق الخاصة بوزارة الدفاع، رداً على سعي جمعيات جزائرية للجوء إلى المحاكم الدولية بهدف الدفع إلى الكشف عنها.
قرار معاكس مرّ بسرية
وازداد الوضع تصلّباً مع تعامل البلدين بروح "انتقامية" و"ندّية"، بينما تتعقد الأمور أكثر فأكثر في ظل تبادل "الهجمات"، إذ في وقت ترقّب الشعبان تدخل مراجع عليا لتهدئة "المعركة" التي اندلعت على خلفية تقرير المؤرخ ستورا المكلّف من قبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بحلحلة ملف الذاكرة مع الجزائر، وما تبعه من تصريحات للإليزيه اعتبرها الرأي العام الجزائري صادمة، بادرت باريس إلى المصادقة على قانون تمديد السرية على الوثائق الخاصة بوزارة الدفاع، ما من شأنه عرقلة الوصول إلى الأرشيف المتنازَع عليه بين البلدين، في حال سعت المنظمات الدولية والمؤرخين إلى نبش بعض الحقائق التاريخية.
وذكرت صحيفة "ويست فرانس" أن مؤرخين قدّموا طلباً إلى مجلس الدولة الفرنسية لإعادة النظر في القرار لأنه يعيق كتابة التاريخ المعاصر. وأضافت أنهم ينتظرون رفع وزارة الدفاع السرّية عن الوثائق التي تخص المرحلة بين عامَي 1934 و1970. وشددت الصحيفة على أن خطوة الحكومة الفرنسية "استباقية" ليس إلا، بدليل تمرير القرار بسرّية.
تخوّف من اللاإدانة
وعبّر الضابط السابق في الجيش الجزائري، المراقب الدولي السابق في بعثة الأمم المتحدة للسلام أحمد كروش عن اعتقاده بأن "تمديد سرية الوثائق يؤكد أن فرنسا تدرك تماماً أنها ستدين نفسها لو أفرجت عن الأرشيف، فهي تتخوّف من رد فعل الجمعيات الحقوقية الدولية ومن مستعمراتها السابقة مثل الجزائر، وأيضاً من الرأي العام الفرنسي، بخاصة أنها أصدرت قانوناً يمجّد الاستعمار ويعتبره السبب في تحضر الشعوب". وتساءل "كيف يمكن لفرنسا مواجهة الرأي العام الدولي في حال تحرير الاطّلاع على الصفحات التي تدوّن الجرائم والإبادة والانتهاكات؟"، مضيفاً أن "فرنسا بتصرفها إنما تسعى إلى التستر على الجرائم إلى حين". واعتبر أن "ملف الذاكرة بين الجزائر وفرنسا شائك ويؤثر بشكل كبير في العلاقات الثنائية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رد على تحركات جزائرية
وينصّ القانون الفرنسي على رفع السرية عن مجمل الوثائق بعد مرور 50 عاماً على الأحداث، باستثناء تلك الحساسة التي قد تشكّل خطراً على الأمن القومي، وبما أن حرب التحرير الجزائرية مرّت عليها أكثر من 58 عاماً، فإنه يمكن تصنيف تمديد السرية بين "الضغط" و"الابتزاز".
وأشار متابعون إلى أن باريس سارعت إلى اتخاذ قرارها، ردّاً على تحركات من قبيل دعوة برلمانيين جزائريين إلى إصدار قرار يجرّم الاستعمار الفرنسي، وأيضاً حملة جمع مليون توقيع بهدف دفعها إلى الاعتراف بجرائمها وتقديم الاعتذار، إضافة إلى نشاط مؤرخين وقدماء محاربين وأكاديميين وجمعيات حقوقية ومن المجتمع المدني، "من أجل تجنيد محامين يدافعون عن الجزائريين ضحايا جرائم فرنسا، وعلى رأسهم ضحايا التفجيرات النووية في الصحراء، وذلك في المحاكم الفرنسية والدولية".
قنابل موقوتة
ورأى الإعلامي الجزائري حكيم مسعودي أن "ما أقدمت عليه الحكومة الفرنسية، خطوة غير مفاجئة للعارفين والمتابعين، فهي تخدم الطرف الفرنسي الذي من مصلحته الإبقاء على تاريخه الاستعماري الأسود، تجنّباً للإدانة والملاحقة القضائية". وأضاف أن "تصرف باريس يثير شكوك الرأي العام كون السلطات الجزائرية تتحدث عن مطالبتها دورياً بالأرشيف في المنابر الرسمية، لكن بعض المعلومات يشير إلى عدم رغبة جهات في النظام الكشف عن هذا الأرشيف. وقد أكد بوريس بوالون، مستشار الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي في تصريحات صحافية، أن الجزائر هي مَن رفضت تسلّم أرشيف الفترة بين 1954 و1962، وأن القول إن فرنسا ترفض الإقدام على الخطوة غير صحيح، لأن الأرشيف يحتوي على قنابل موقوتة وحقائق قد تصدم الجزائريين".
واعتبر مسعودي أن "هذا الملف لا يزال حساساً جداً، فالرأي العام الجزائري يرغب في معرفة خبايا تاريخه وثورته من مصادر عدة، بما فيها تقارير عدو الأمس، ويريد لها توثيقاً، لكن في الوقت ذاته يرى أنه من الضروري معرفة الجانب الذي تخفيه عنه جهات ليس من مصلحتها انكشاف الحقائق، بخاصة إذا كان موقعها حساساً".
تجاذبات
في المقابل، لم يتأخر الرد الرسمي الجزائري كثيراً، إذ علّق الناطق باسم الحكومة عمار بلحيمر بشكل ضمني على تقرير المؤرخ بنجامين ستورا وبيان الإليزيه، وقال إن "المقاومة التي تأتي من فرنسا في عدم الاعتراف بجرائمها، لها أسبابها المعروفة من قبل أصحاب الحنين إلى الماضي الاستعماري ووهم الجزائر الفرنسية"، مضيفاً أنه "عادةً يعمل المجرم المستحيل لتفادي الاعتراف بجرائمه، إلا أن سياسة الهروب إلى الأمام هذه لا يمكن أن تطول".
من جانبه، رفض ستورا، الاتهامات التي وجّهها إليه جزائريون حول دعوته إلى عدم "اعتذار" فرنسا عن 132 سنة من استعمار بلادهم، وصرح "لقد قلت وكتبت في تقريري أنني لا أرى مانعاً في أن تقدّم فرنسا اعتذارات للجزائر عن المجازر المرتكَبة".