تستعد مكة المكرمة لتوديع أحد أبنائها النجوم على مرّ تاريخ السعودية الحديث، إذ تقرر استقبال مقبرة "المعلا" شمال الحرم المكي الشريف جثمان وزير النفط السعودي الأسبق أحمد زكي يماني، قادماً من المملكة المتحدة، حيث اختار أن يقيم فترات كثيرة من حياته بعد التقاعد ويتلقى العلاج.
ويذكر المقربون من الفقيد السعودي أنه على الرغم من نجوميته النفطية والسياسية التي لاحقت كل منها الأخرى خلال سبعينيات القرن الماضي، إلا أنه أثناء ذلك وبعده وحتى رحيله عن 90 عاماً، لم يبتعد أبداً من تعلق المكيين بعلوم الثقافة الإسلامية واللغة العربية في جنبات البيت والمقام، حيث تلقى تعليمه المبكر على يد والده القاضي حسن، وتعلق بتلك البقاع، وأوصى بأن يضم ثراها جثمانه بجوار "أم المؤمنين" خديجة بنت خويلد، أولى زوجات النبي محمد، وبقية الصحابة والعُبّاد ومجاوري البيت الحرام على مرّ القرون الماضية.
وهذا المنحى من يماني ظل حاضراً أكثر بعد إعفائه عام 1986، إذ أسس مؤسسة الفرقان التي على الرغم من إثارة بعض اهتماماتها الجدل، إلا أنها أخرجت عدداً من كنوز الثقافة والتراث الإسلامية على طريقة المستشرقين الأوائل، أمثال أرند جان فنسنك مؤلف المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، لدرجة أن المؤسسة تجاوزت المنطقة العربية إلى مناطق بعيدة جداً لا يكاد يلقي لها أكثر الباحثين بالاً، مثل إنتاج المؤسسة الضخم الذي وثقت فيه مخطوطات مركز أحمد بابا في تنبكتو وسط الصحراء الكبرى، التي تقع حالياً شمال دولة مالي، وغير ذلك من الأعمال التي شهد بعض المشاركين فيها بأن يماني كان ينفق عليها بسخاء.
من الحرم إلى عالم النفط
لكن ذلك لا يعني أنها السمة الوحيدة لخريج هارفارد الذي عرف كثيرون حنكته عبر سجله التاريخي أيام تبوئه منصب وزير النفط في بلاده بين أعوام 1962 و1986، إذ كانت منازلة خصوم وطنه لعبة اقتضاها المقام واستهوت شبابه، قبل أن تفتح عليه أضواء سعت إليه وسعى لها، كما يعبر المثقف السعودي نبيل المعجل الذي روى في مناسبة تأبين الرجل أنه شاهد على مرحلة في واشنطن، "كانت فيها القنوات الأميركية العريقة تعلن استضافة أحمد زكي يماني قبل اللقاء بأيام، وكأنه رئيس دولة".
وكيف لا تلتف الأضواء على شخص كان "جنرال النفط" في عهد ملك السعودية القوي فيصل بن عبدالعزيز، الذي جاء في إحدى مراحل التاريخ الحرجة، وقاد فيها محوراً يقاوم على كل الجبهات، تارة الناصرية التي استهدفت الملكيات العربية، وأخرى الشيوعية، وثالثة إسرائيل المتغولة حينئذ، قبل أن يضع الجيش المصري بقيادة الرئيس أنور السادات حداً لجنون عظمتها في حرب رمضان 1973، التي كان النفط السعودي أحد أشد أسلحتها إيلاماً لإسرائيل.
وقد وثق أخيراً الأمير بندر بن سلطان في حواره مع "اندبندنت عربية" كيف أن السعودية كانت منخرطة مع المصريين في كل تفاصيل الهجوم والمجهود الحربي آنذاك، بما في ذلك تدريب الطيارين، بل حتى المضخات العملاقة المصممة خصيصاً لدك حصن "بارليف" الإسرائيلي، ولا تزال إحداها شاهدة على قوتها وعلى تلك المعركة، ولكن في مدينة جدة الساحلية غرب السعودية، حيث "النافورة" الأعلى من نوعها في العالم، وفقاً لموسوعة "غينيس".
تاريخ مرصع بأوبك وأرامكو
وارتبط الراحل يماني بأحداث نفط مصيرية في بلاده، بوصفه أحد رجال الدولة في تلك المرحلة المبكرة من البناء، إذ كان من بين أشهر الشخصيات التي عملت على تحرير النفط السعودي من التبعية الأجنبية، من خلال التدرج في الاستحواذ على شركة "أرامكو" التي كانت مملوكة أول الأمر لمجموعة شركات أميركية، ولا تمثل حصة الدولة السعودية سوى قسط يسير من أرباحها، لتصبح مع الوقت "سعودية بالكامل".
ومن ينسى تردد اسمه مع منظمة "أوبك" للدول المصدرة للنفط بوصفه أول أمين عام لها، وهي التي احتفلت أخيراً بمرور 60 عاماً على تأسيسها، وقد بدأت حينئذ مثل الولد الشقي الذي يثير خليطاً من السخرية والإعجاب، حتى يشب عن الطوق ويوقظ في النفوس كوامن الغيرة، وربما لهيب المكيدة والحسد، فحين جاءت فكرتها على الأرجح من عند أول وزير نفط سعودي وهو الراحل عبدالله الطريقي وصديقه الفنزويلي خوان ببلو بيريز ألفونسو، لم يأخذ أرباب الصناعة الغربيين مآربهما على محمل الجد، لكن ما لبث شأن المنظمة الوليدة في بغداد يكبر شيئاً فشيئاً، حتى أضحت تستدعي لسع تعليقات دول عظمى وشركات نفط عملاقة، ظنت أن دول العالم الثالث القابع بعضها تحت نار الاستعمار آنذاك، أقل عزيمة من أن يؤرق تكتلها المحترفين في الست الكبار مثل "إكسون موبيل" و"شل" و"بي بي" و"توتال" التي تأوي إلى ركن القوى الكبرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي مناسبة احتفال المنظمة بمرور 60 عاماً على إنشائها، استذكرت عبر شريط صور تاريخية لحظات حاسمة من جهودها في سبيل الدفاع عن رغد عيش بلدانها وكرامتها في الاستقلال بقرار التحكم في خيراتها، فأظهرت الصور العتيقة نجوم "مؤتمر بغداد" التاريخي الذي عقد في الفترة ما بين 10 و 14 سبتمبر (أيلول) 1960 داخل قاعة الشعب في العراق، وهم يمثلون الدول الخمس المؤسسة للمنظمة، السعودية والعراق والكويت وإيران وفنزويلا.
وكان من الطبيعي أن يمثل السعودية وزيرها عراب الفكرة الطريقي، الذي وثّقت الدراسات عنه كيف كان من بين أوائل الموقظين لنفس الاستقلال النفطي، إذ كان يومها محتكراً من جانب شركات القوى العظمى، التي استمرأت جني الأرباح الطائلة من نفط العرب والدول النامية، ولا تخصص لهم غير "الفتات"، متكئة إلى عقود إذعان جائرة تم إبرامها في ظروف مغايرة.
لكن مع ذلك فضلت دول بينها السعودية أن تستعيد حقوقها بالطرق القانونية عبر شراء حصص الشركة المستثمرة في حقولها، بدلاً من التأميم الذي لجأت إليه دول أخرى مثل مصر، وكان ذلك ضمن أسباب عدة قيل إنها منحت السعودية ثقة عالمية، كمصدر موثوق للطاقة يمكن الاعتماد عليه.
منازلة كارلوس
بعد أن انتهت فترة الطريقي بزغ نجم آخر استمر طويلاً في قيادة زمام المبادرة وصنع القرار النفطي السعودي لأكثر من 20 عاماً، وهو الوزير أحمد زكي يماني، ومن بين المحطات التي صنعت نجوميته مجيئه في عهد الملك فيصل الذي اشتهر بمواقفه الحاسمة في قضية "حرب 73" مع إسرائيل كما أسلفنا، يوم عاقب حلفاءها بقطع إمدادات النفط عنهم، مما أحاط المقربين من القرار بهالة كبيرة، ربما أثارت غيرة قوى المقاومة الفلسطينية التي أرسلت إلى اجتماع أوبك في فيينا 1975 عصابة مسلحة بقيادة الفنزويلي الشهير بلقب "كارلوس"، فاقتحم القاعة التي تضم وفود أعضاء المنظمة الذين أصبحوا أكثر من الخمسة المؤسسين، مثل نيجيريا والإمارات والجزائر.
لكن من حسن الحظ أن كارلوس لم ينفذ تعليمات رؤسائه الفلسطينيين، فلم يقتل الوزير السعودي يماني ونظيره الإيراني بحسب التعليمات التي انكشف أنه تلقاها من القذافي، وفقاً لكتاب أصدره قبل سنوات بواسطة كاتب فرنسي، وآخر هو "الصندوق الأسود" للزميل غسان شربل الذي التقى مجموعة من رفاق كارلوس، ووثق بعض وقائع عمليات الرجل المثير للجدل حتى اليوم.
من هذه المحطة تجددت نجومية يماني عبر تركيز الخاطفين على استهدافه وقيادته دفة الحوار معهم، قبل أن تجري التسوية في الجزائر بتفاوض من رئيس الجزائر الأسبق عبدالعزيز بوتفليقة الذي كان حينها وزيراً الخارجية، بعد رحلة رعب تنقلت بين النمسا وتونس والجزائر.
وفي هذا السياق، برز الوزراء المختطفون في دولهم، خصوصاً الإيراني والكويتي عبدالمطلب الكاظمي، الذي ذكر في فيديو له شاهدته "اندبندنت عربية"، أنه تشابك مع الخاطفين عند الباب ولم يكن يعرف حينها أنهم مسلحين، إلا أن حسن حظه جعله في خانة بين الأعداء والأصدقاء، فلم تطلق عليه جماعة كارلوس الرصاص. وقال إنه عندما اقتحم الاجتماع قسم الأعضاء إلى ثلاثة قوائم، هي "الأعداء والأصدقاء والمحايدون"، وجرى تصنيف بلاده بين الأصدقاء، على أنهم أقروا بأن نصفها عدو، وكان العدوان من دون استثناء بين المجموعة هما "السعودية وإيران"، وذلك في عهد الملكية قبل وصول الإسلاميين إلى السلطة في طهران عام 1979، وكان الكاظمي نجا قبل ذلك بأشهر فقط من عملية لا تقل دموية، راح ضحيتها الملك السعودي فيصل بن عبدالعزيز، الذي كان في استقباله لحظة اغتياله في مكتبه 25 مارس (آذار) 1975، قبل أشهر من اقتحام اجتماع "أوبك" في 12 ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه.
الموت يغيب الخاطف والمخطوف
ومن غرائب الصدف أن اللبناني أنيس النقاش الذي كان عضوا يومها في حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) وكان يعرف حركيا بـ "خالد"، وبين الخاطفين لطائرة أوبك حينها، لقي قبل يوم حتفه في فترة متزامنة مع وفاة أحد مخطوفيه أحمد زكي يماني، وكأن القدر منحهما في فيينا عمراً واحداً، إما أن ينتهي يومئذ أو يمتد كما حدث إلى حين.
ومع أن وسائل إعلام عدة حاولت إبراز اليساري النقاش بوصفه مناضلاً شريفاً في فعلته تلك، إلا أن كثيرين لا يزالون ينظرون إلى فعلته بكل المقاييس على أنها غير مبررة، خصوصاً وأن السعودية حينئذ خرجت للتو من معركة كلفتها أثماناً باهظة من أجل القضية الفلسطينية، التي أكد نقاش في حواراته الإعلامية أن منظمة تحريرها هي الضالعة في واقعة الخطف، وأنها ذات بعد سياسي في المقام الأول يخدم بعض الدول العربية المصنفة من قبل القادة الفلسطينيين على أنها مناصرة لقضيتهم، في إشارة إلى القذافي الذي ألمح إلى أنه موّل العملية.
وعوداً إلى الراحل المكي الكبير، فإن نجاحاته لم تقتصر إبان عمله النفطي على الجانب التطبيقي، وإنما أيضاً اتسمت رؤاه ببعد استراتيجي، اكتسبت صدقيتها في ما بعد، حين أخذ الزمن دورته وأصبحت حية أمام أرباب الصنعة، وأبرز تلك الأمثلة هو تأكيده في وقت مبكر أن جنون أسعار النفط الذي فرح به المنتجون كثيراً بعد حرب 1973 نظير الإيرادات المتدفقة لن يكون في مصلحتهم على المدى البعيد، ويشجع على التفكير في بدائل عن نفط الشرق الأوسط والخليج، وهذا ما حدث لاحقاً.
ورطة "المنتج المرجح"
لكن أحد الشهود على تلك المرحلة، وسلف يماني في حمل حقيبة الطاقة السعودية أكبر منتج للنفط في العالم، المهندس علي النعيمي، وثق في مذكراته لدى الإشارة إلى رئيسه الأسبق، أن ما يؤخذ على الرجل أنه "في نهاية المطاف ليس خبيراً في صناعة النفط، فهو لم يعمل في تلك الصناعة قط، ولم يدرس علوم النفط في الجامعة، فأدى زجّه بالمملكة للعب دور "المنتج المرجح" إلى تقليص إنتاجنا لدعم الأسعار، فخسرنا إيرادات كنا بأمس الحاجة إليها، فضلاً عن تقليص حصتنا السوقية، وعندما رفعنا الإنتاج لاستعادة حصة سوقية أكبر، انهارت أسعار النفط العالمية، مما كلف المملكة ثمناً باهظاً". وغني عن الذكر أن القرار إياه كلف يماني أيضاً ثمن موقعه وأنهى نجوميته.
لكن النعيمي لم ينس أن يذكر للتاريخ في مذكراته "من البادية إلى عالم النفط"، رأيه الذي سمّاه بالمتواضع في أن ذروة عطاء يماني كان خلال السبعينيات، "حين سعى في اتفاق الشراكة بين المملكة وشركات النفط الأربع المالكة لأرامكو، مسخراً كل معرفته ومهاراته كمحام قدير لنقل ملكية الشركة ببراعة وعلى نحو عادل وودي"، مؤكداً في صفحة (126) أن المجال مهما أسهب لا يسع "أهمية ذلك للسعودية ولأرامكو على حد سواء، فضلاً عن ضمان استقرار صناعة النفط العالمية".
ويلفت النعيمي إلى أن بلاده في 1986 وعلى الرغم مما يشبه شماتة كثيرين بها والاحتفال بتعرضها لمعاناة "أسعار نفط منخفضة وإعفاء وزير البترول الأرفع مقاماً في العالم"، إلا أن المشهد لم يخل من آخرين أدركوا أهمية أن تبقى السعودية متمسّكة بخيوط المشهد، وهذا ما حدث مجدداً، إذ عادت الأمور إلى نصابها، فكان ذلك أفضل عزاء ليماني وهو الذي عاد في مذكراته لتلك المرحلة، وسلط عليها كثيراً من الأضواء، وإن عاد إلى مجاله الذي برع فيه وهو "المحاماة"، وظل وفياً لاهتماماته الفكرية والثقافية حتى الرحيل، وإن لم يعن ذلك نسيان "النفط" الذي صار الراحل فصلاً منه، وقدراً من أقداره.