أعلنت مصادر الكرملين عن مكالمة هاتفية بادر بها نيكول باشينيان رئيس وزراء أرمينيا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإطلاعه على تفاصيل ما جرى ويجري في أرمينيا في أعقاب قراره حول إقالة عدد من كبار قيادات القوات المسلحة الأرمينية. وعلى الرغم من أن المصادر الرسمية اكتفت في نشرها فحوى ما جرى تناوله خلال هذه المكالمة الهاتفية بإيجاز أركانها الرئيسة وتأكيد مناشدة روسيا الأطراف المعنية إلى الحوار وضبط النفس، فإن الشواهد تشير إلى أن باشينيان لم يكتف باطلاع بوتين على تطورات الأوضاع في بلاده، بل طلب الدعم في مواجهة العسكريين الذين يتزعمون مع فصائل المعارضة حركة الشارع الذي يطالب باستقالته من منصبه.
وكان باشينيان سبق وتوجه بمثل هذا الطلب في أعقاب توقيعه مع نظيره الأذربيجاني إلهام علييف تحت رعاية بوتين في التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي اتفاق وقف إطلاق النار وانسحاب القوات الأرمينية من مساحات كبيرة من الأراضي الأذربيجانية التي كانت تسيطر عليها منذ ما يزيد على 30 سنة في أعقاب اندلاع أزمة ناغورنو قره باغ في نهاية ثمانينيات القرن الماضي.
وكانت جماهير المعارضة تدفقت إلى شوارع يريفان العاصمة احتجاجاً على قرارات باشينيان حول إقالة نائب رئيس الأركان ورئيس الأركان وعدد من كبار القيادات العسكرية التي كانت أعربت عن احتجاجها ضد ما وصفته بالتطاول على القدرات العسكرية للجيش وخصائص منظومات "اسكندر" الصاروخية وعدم فعاليتها خلال العمليات القتالية التي دارت بين القوات المسلحة الأرمينية ونظيرتها الأذربيجانية حول مقاطعة قره باغ قبل وقف القتال في نوفمبر الماضي. ورداً على انتقاد تيغران خاتشاتريان نائب رئيس الأركان لتصريحات باشينيان حول عدم فعالية منظومات "إسكندر" الصاروخية الروسية في المعارك التي دارت مع القوات الأذربيجانية والتي وصفها بـ"عدم الجادة"، أعلن باشينيان عن قراره بإقالة نائب رئيس الأركان، وهو القرار الذي أعقبه بقرار آخر حول إقالة رئيس الأركان أونيك جاسبريان، رداً على بيان رئاسة الأركان الذي طالبه بالاستقالة من منصبه.
وبهذا الصدد خرج المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة الروسية في موسكو ليعلن دحضه التصريحات الصادرة حول منظومات "إسكندر"، وعدم صحة ما تردد حول عدم فعالية هذه المنظومات التي قال، إنها لم تستخدم في المعارك الأخيرة ولم تطلق صاروخاً واحداً، بدليل وجود كل ترسانة صواريخها كاملة في مخازنها داخل أرمينيا. وفد أعربت مصادر روسية عن دهشتها تجاه انتقاد باشينيان الأسلحة الروسية، وبخاصة الحديثة ذات الكفاءة العالية التي طالما أعربت الدوائر العسكرية الغربية عن خشيتها من قدراتها.
ومن هنا يتذكر كثيرون في موسكو ما قام به باشينيان من محاولات انقلاب بموجب "سيناريو الثورات الملونة"، وما تلقاه من دعم من جانب راعي هذه الثورات الملياردير الأميركي المجري الأصل جورج سوروس، الذي أسهم في نجاح محاولته الأخيرة التي أسفرت عن وصوله إلى سدة الحكم في يريفان عام 2018. وعلى الرغم عن عدائه "غير المعلن" لموسكو وتوجهاته ومواقفه ضد من تعتبرهم موسكو "أصدقاء" لها في أرمينيا، لا يتورع باشينيان عن اللجوء إليها في كافة الملمات، فيما تحاول موسكو التغاضي عن "تجاوزاته" حرصاً من جانبها على مكاسبها في أرمينيا، ومنها القاعدة العسكرية الروسية جنوبي البلاد، فضلاً عن مواقعها الاقتصادية والجيوسياسية في المنطقة. وننقل عن مصادر روسية ما قالته حول محاولات باشينيان المستمرة، التي تتكرر أحياناً عدة مرات في اليوم الواحد للاتصال بالرئيس بوتين الذي كشف عن ذلك صراحة وفي وجود الزعيمين الأذري والأرميني، لكن في إطار "التعميم"، وهو ما قالته المصادر الروسية من أن بوتين يضطر في بعض الأحيان إلى الاعتذار عن الرد على بعضها بحجة "انشغاله"!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعل ذلك يمكن أن يفسر تراجع روسيا عن الانحياز عسكرياً وإعلامياً إلى أرمينيا في صراعها الأخير مع أذربيجان، مكتفية بالوقوف على الحياد، وبما قامت وتقوم به من جهود دبلوماسية وإنسانية لوقف إطلاق النار وتقديم ما تستطيع من معونات إنسانية لإعادة المواطنين الأرمن إلى مناطق إقامتهم في قره باغ، وتأمين حياتهم في تلك المناطق.
وكان بوتين واصل ذات النهج في حديثه الهاتفي الأخير مع باشينيان الذي جرى بمبادرة من رئيس الحكومة الأرمينية. وقال ديمتري بيسكوف الناطق الرسمي باسم الكرملين إن بوتين "تحدث في إطار تأييده للحفاظ على النظام والهدوء في أرمينيا وحل الأوضاع الراهنة في إطار القانون". وأضاف أن "رئيس الدولة الروسية دعا جميع الأطراف إلى ضبط النفس". وكان سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسية أجرى اتصالاً هاتفياً مع نظيره الأرميني أكد فيه موقف موسكو التي قال إنها تعتبر الأزمة "شأناً داخلياً"، وإن أعرب عن أمله في أن تتوصل الأطراف المعنية في أرمينيا إلى الحل المنشود بشكل سلمي. وأعادت المصادر الروسية إلى الأذهان ما تقدمه موسكو على صعيد الوساطة بين أرمينيا وأذربيجان. وقالت إن ما توصل إليه بوتين في لقائه الأخير في موسكو مع كل من رئيسي أرمينيا وأذربيجان يظل قيد التنفيذ، ومنه ما يتعلق بنشاط قوات حفظ السلام الروسية، وترسيم خطوط التماس بين الجانبين، وكذلك بعمل اللجنة الثلاثية التي تشكلت من نواب رؤساء حكومات روسيا وأذربيجان وأرمينيا للعمل على ملف إعادة الإعمار في قره باغ.
وكانت المواجهة بين باشينيان ومعارضيه، استمدت بداياتها من الحركات الاحتجاجية التي اجتاحت أرمينيا منذ توقيع اتفاق نوفمبر الماضي الذي وصفته مصادر كثيرة أذربيجانية وأرمينية بأنه "استسلام" وليس وقفاً لإطلاق النار. وكان باشينيان اعترف بأنه توجه إلى بوتين يطلب منه الوساطة في وقف إطلاق النار استجابة لطلب القيادات العسكرية الأرمينية التي اعترفت بعجزها عن مواجهة القوات الأذربيجانية المدعومة من جانب القوات المسلحة التركية، والتي استولت على مساحات كبيرة من الأراضي التي كانت تسيطر عليها أرمينيا في ناغورنو قره باغ وسبعة أقاليم أذربيجانية تشغل المساحات المحيطة بقره باغ والمتاخمة للأراضي الأرمينية. وقال باشينيان، إن ممثلي القوات المسلحة الأرمينية أبلغوه بعدم القدرة على الصمود، فيما أعربوا عن خشيتهم من سقوط المزيد من الأراضي بما فيها ستيباناكيرت عاصمة الإقليم المتنازع عليه.
ودعا باشينيان أنصاره في أرمينيا إلى الخروج من أجل مواجهة فصائل المعارضة التي تدفقت على شوارع يريفان تطالب باستقالته وأعضاء حكومته، بدعم من اثنين من رؤساء جمهورية أرمينيا السابقين وهما "سيرج سركسيان، وروبرت كوتشاريان"، في الوقت الذي سجل فيه الرئيس الحالي أرمين سركسيان موقفاً أقرب إلى الحياد مكتفياً بمطالبة الجانبين بضبط النفس. وأعلن الرئيس سركسيان أنه لم يصدق بعد على قرار إقالة رئيس الأركان، فيما طالب الجانبين بالعمل من أجل نزع فتيل التوتر القائم. وكان باشينيان اتهم هؤلاء الضباط بأنهم صنيعة رؤساء الجمهورية السابقين، فيما طالب الجيش بالانصراف إلى تنفيذ مهامه في حماية الحدود، وتأمين وحدة أراضي أرمينيا، مؤكداً لا أحد يستطيع مخالفة تعليماته.
ومن اللافت أن باشينيان الذي بدأت الأرض تميد تحت قدميه، وبات على شفا الرحيل من منصبه، وجد الدعم لدى من كان حتى الأمس القريب يناصبهم العداء. فقد نقلت الوكالات الأجنبية ما أعرب عنه مولود جاويش أوغلو وزير الخارجية التركية من دعم لرئيس الحكومة الأرمينية. وكان جاويش أوغلو انتقد في تصريحاته التي أدلى بها خلال مؤتمر صحافي مشترك عقده مع نظيره المجري بيتر سيارتو في بودابست، ما وصفه بالمحاولة الانقلابية في أرمينيا. وقال إن بلاده ضد كل الانقلابات والمحاولات الانقلابية، مؤكداً "أنه من غير المقبول للعسكريين أن يطالبوا حكومة منتخبة بالاستقالة فضلاً عن القيام بانقلاب". لكنه ورغماً عن ذلك عاد ليقول "إنه من الطبيعي في الديمقراطيات أن ينتقد المواطنون حكوماتهم بل وحتى يطالبوها بالاستقالة".
وتظل الأبواب في يريفان مشرعة على كل الاحتمالات، فيما يقف باشينيان على شفا مواجهة قد تكون بداية النهاية لسنوات حكمه التي تظل الأكثر اضطراباً في تاريخ أرمينيا منذ استقلالها في عام 1991 في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي السابق.