ستون سنة مضت على إنتاج أول برميل من النفط الليبي الخام، ولم يغيّر الذهب الأسود حال أهل البلاد كثيراً، فإذا كان ثلاثة أرباع السكان يعيشون تحت خط الفقر حينما اكتشفوا فجأةً أنهم يعيشون فوق ثروة هائلة من الطاقة في باطن أرضهم، فإن نصف عدد السكان يقترب من هذا الخط حالياً، بعد ستة عقود على بداية التصدير.
فلماذا لم تستفد ليبيا طيلة هذه العقود من ثرواتها الضخمة، مع عدد سكانها القليل ومساحتها الشاسعة، وموقعها الاستراتيجي المهم على ضفاف المتوسط، الذي يجعل منها محطة مميزة للتصدير؟ ولماذا لم تنجح السلطات المتتابعة في إطلاق ثروة تنموية تنهض بالبلاد، مع توفر كل الإمكانات اللازمة لذلك؟
بداية التصدير
أُعلن اكتشاف النفط رسمياً للمرة الأولى في ليبيا عام 1958، وبدأ الإنتاج في عام 1961، ويشكل حالياً نحو 94في المئة من موارد البلاد، وأهم ما يميز الخام الليبي هو غزارة الآبار المستخرَج منها، وقربه من موانئ التصدير.
وسرعان ما لفت اكتشاف النفط الليبي في نهاية الخمسينيات، انتباه كبرى الشركات الأجنبية في العالم، مثل الأميركية والإيطالية والبريطانية وغيرها، ودفعها إلى القدوم إلى البلاد من أجل البحث والتنقيب، بخاصة مع تمتعه بمميزات، منها الجودة، يُضاف إليها الموقع المطل على أوروبا، بخط ساحلي هو الأطول على ضفاف البحر المتوسط، ما يجعله مثالياً ليكون منصة للتصدير السهل والقليل الكلفة.
تفيد أحدث التقديرات المنشورة، أن الاحتياطات المؤكدة من النفط الخام في ليبيا تقدَر بنحو 46،42 مليار برميل، أي نحو 3،94 في المئة من احتياط العالم، و 6،36 في المئة مما تنتجه منظمة الدول العربية المصدرة للبترول (أوابك)، و 4،87 في المئة مما تنتجه أوبك (منظمة الدول المصدرة للنفط)، ما تعتبر الأكبر في قارة أفريقيا، وفي المرتبة التاسعة بين الدول التي تملك أكبر احتياطات نفطية مؤكدة في العالم.
أما الإنتاج اليومي من النفط الليبي، فحالياً حوالى مليون وثلاثمئة ألف برميل، وهو قريب أيضاً من المعدلات الطبيعية للإنتاج البالغة نحو مليون وسبعمئة ألف برميل يومياً، ما يشكل 2،9 في المئة من إنتاج العالم، و 5،1 في المئة مما تنتجه دول "أوبك".
أما الاحتياطات المؤكَدة من الغاز الطبيعي، فتُقدَر بنحو 1549 مليار متر مكعب، أي نحو 0،83 في المئة من احتياط العالم. وتُقدَّر طاقات مصافي التكرير القائمة في ليبيا بنحو 378 ألف برميل يومياً، في حين يُقدَر إجمالي إنتاج المشتقات النفطية بنحو 325 ألف برميل يومياً.
اهتمام متزايد وتنمية متسارعة
بعد إنتاج أول برميل من النفط الليبي في عام 1961، أصبح استخراج تلك المادة الحيوية وإنتاجها عصب الحياة في البلاد، ومن أولويات كل الحكومات الليبية، وأصبحت الصناعة النفطية المورد الرئيس والعمود الفقري للاقتصاد.
وكانت ليبيا قبيل اكتشاف النفط تُصنَّف في ذيل القائمة الدولية لأفقر دول العالم، وكانت تعتمد بالكامل على إعانات الأمم المتحدة وما تدرّه القواعد العسكرية التي كانت تؤجرها المملكة الليبية آنذاك للولايات المتحدة وبريطانيا في طرابلس وبغنازي وطبرق، ما جعل الثروات المكتشفة من الطاقة طوق نجاة حقيقي للبلاد.
وشرعت القيادة السياسية في ليبيا حينها بحذر بوضع برامج الخطط الاقتصادية الرباعية والخماسية للنهوض بالاقتصاد الوطني، وركزت بداية على التنمية في جانبين، الاجتماعي والاقتصادي.
واتخذت السلطات وقتها خطوات مهمة للاستفادة من عوائد النفط، ركزت على بناء اقتصاد قوي، يهدف إلى زيادة الإنتاج القومي، وشكلت من أجل ذلك "مجلس التخطيط الأعلى"، الذي يشرف على دارسة المشاريع الاقتصادية الكبرى وخطط التنمية الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، ومتابعة تنفيذها. وبعد سنوات قليلة وصل إنتاج النفط في عام 1970، إلى مستويات قياسية قُدرت بنحو 3،7 مليون برميل يومياً، بظل القدرة العالية والكاملة لأنظمة خطوط الأنابيب في البلاد.
خطط للاستفادة من النفط
وعن الخطط التي وضعتها المملكة الليبية يومها للاستفادة من عوائد النفط، قال أستاذ التاريخ أحمد البرعصي إنها "وضعت خططاً اقتصادية عدة، لاستثمار الثروات الهائلة التي بدأت تدرها الموارد النفطية، مؤلّفة من مراحل عدة، وتنطلق الأولى بخطط خمسية تبدأ أولها في عام 1964، وتتنهي الثانية في عام 1973، وكان مخططاً أن تنطلق بعد ذلك الخطة الثالثة، وهي الخطة العشرية، لكن انقلاب القذافي حال دون تنفيذها".
وأضاف البرعصي أنه "للدلالة على ضخامة هذه المشاريع التي تضمنتها هذه الخطط، فإن الخطة الخمسية الثانية وحدها، جُهزت في ثلاث مجلدات تفصيلية، من 800 صفحة، وضعها فريق تخطيط مكوَّن من 250 ليبياً، من الجامعيين المؤهلين، مع عدد من الخبراء العرب والأجانب، لتكون قاعدة لانطلاقة تنموية سليمة متوازنة". وأشار إلى أن "هذه الطفرة الاقتصادية قفزت بليبيا إلى أعلى مؤشرات التنمية في العالم، وجعلت سقف الطموحات يرتفع داخلياً وخارجياً، حتى أن بعض الصحف العالمية وصفتها حينها، بأنها ستصبح بعد سنوات سويسرا شمال أفريقيا".
ثنائية المال والفساد
وقال البرعصي إن "الأمور لم تسر بعد ذلك، بحسب التوقعات الحالمة تماماً، فمع النهضة الكبيرة التي عاشتها ليبيا بعد اكتشاف النفط، إلا إن تدفق المال بوفرة الذي كان قبل سنوات قليلة معدماً، ساهم بظهور مرادفه السيء الدائم وهو الفساد، إذ كشفت التحقيقات عن فساد ضخم في بعض المشروعات التي أُطلقت في طول البلاد وعرضها، ما دفع الملك إدريس السنوسي إلى إصدار بيان شهير، يحذر فيه من تفشي هذه الظاهرة في مؤسسات الدولة".
أما أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية جمال الشطشاط، فرأى أن "ظهور النفط جعل مصير ليبيا مرتبطاً دائماً بالتدخلات الخارجية، إذ أسال ظهور هذه الثروات الضخمة في بلد صغير ناشئ، لُعاب القوى الدولية التي تزايدت تدخلاتها في البلاد، ومحاولات تحديد مصيرها ورسم خطها السياسي، بضغط من الشركات النفطية التي دخلت البلاد بأعداد كبيرة. وبدأ يظهر هذا الدور جلياً في عام 1963، حين تحولت الدولة من النظام الفيدرالي إلى الاتحادي بمساهمة من هذه الشركات، التي أرادت التعامل مع سلطة مركزية واحدة بدلاً من ثلاث سلطات محلية".
ويُعتقد أن "بعض هذه الشركات، لعب دوراً كبيراً في دفع دولها إلى تنسيق انقلاب القذافي في عام 1969، بعد تراخي قبضة الدولة حينها، مع دخول الملك عامه الثمانين وزهده بالسلطة، ووقوف البلاد على حافة الهاوية مع هذا الوضع السياسي الهش، الذي يهدد مصالح هذه الشركات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انقلاب القذافي
وصل معمر القذافي إلى السلطة في ليبيا، عبر انقلاب دبره مع بعض الضباط الصغار في الجيش، ووجد بين يديه مشروعاً تنموياً متكاملاً لخمسة عشر عاماً على الأقل، لكن بدلاً من الاستمرار فيه، ثم تطويره في مراحل لاحقة، ألغى المشروع وكل ما هو محسوب على النظام الملكي، إذ كان حاقداً عليه وحاكم كل رموزه، باستثناء الملك الذي غادر البلاد.
وبدأ القذافي بعد ذلك باستثمار موارد النفط وأموال البلاد في السياسة، وفي صراعاته الكثيرة مع دول الغرب، وبعض دول الجوار، ما أدخل ليبيا في مرحلة عدم استقرار دائمة وعطّل كل مشاريع التنمية فيها سنوات طويلة، بل وقاد شعبها إلى عقد من المعاناة الاقتصادية، في فترة الحصار الدولي، خلال عقد التسعينيات.
ليبيا الغد
اضطر القذافي مع زيادة الضغوط الدولية عليه، إلى التصالح مع الغرب. وكان جزء من الصفقة معه ينص على إطلاق مشروع تنموي ضخم، تنفذه شركات غربية، تحت اسم "مشروع ليبيا الغد"، الذي قاده ابنه سيف الإسلام، الذي كان يستعد لوراثة الحكم. فشل هذا المشروع أيضاً، بعد الصدام الذي وقع بين الحرس القديم للقذافي، والحرس الجديد لابنه، وانحاز الأب في هذا الصراع لحرسه الذي كان يشكل العمود الفقري لنظامه ويمنحه الحماية.
ثورة فبراير وعقد الفوضى
تجمد مشروع ليبيا الغد، وأكثر من نصف تخطيطاته لم يُنجَز، حتى قيام ثورة فبراير (شباط) 2011، التي أسقطت النظام فدخلت البلاد بعدها في فوضى عارمة، انعكست على كل القطاعات، في مقدمتها النفط، الذي كان ورقة بارزة في الصراع الذي دار بين أطراف عدة متنازعة على السلطة. وما حدث بعد الثورة من اقتتال وفوضى، أوصل سكان ليبيا إلى أزمات معيشية واقتصادية لم يشهدوها منذ اكتشاف النفط، وصلت حد انعدام السيولة في المصارف سنوات، مع توقف الإنتاج النفطي وتذبذبه بشكل خطير وتعرض منشآته لأضرار جسيمة.
بعد 60 سنة من التدفق المستمر للذهب الأسود، يبقى الحال في ليبيا كما يصفه أهلها بلهجتهم المحلية "عينك تحق وإيدك ما تطق"، أي بمعنى العين ترى النفط يُصدَّر، ما يدر الكثير من المال، واليد خالية ولم يشعر به سوى المنتفعون منه.