فرض عصر العولمة نفسه على دول العالم وغير طبيعة اقتصاديات الدول، التي باتت تتجاوز الحدود المحلية ولا تتوقف عن حدود المنظمات الإقليمية، حيث باتت موازنات الشركات العملاقة تفوق بأشواط موازنات الدول، لا سيما في دول العالم النامي. إلا أن طبيعة وحجم دور هذه الشركات العالمية وضعها أمام تحدي السباق الهائل مع التقدم التكنولوجي المتسارع، إذ إن العديد من تلك الشركات أسقطها ذلك التحدي بالضربة القاضية، في حين اضطرت شركات أخرى لتوسيع مجال إنتاجها ولو إلى خارج اختصاصاتها الأساسية، وذلك من أجل تثبيت دورها في الاقتصاد العالمي وتغطية الخسائر التي قد تعصف بأحد منتجاتها. وبعكس مآسي " الفيروس المتحور" نجحت تلك الشركات في "تحوير" اختصاصاتها.
التموضع الاستراتيجي
وفي السياق، أوضح المحلل الاقتصادي البروفسور جاسم عجاقة، أن "عملية انتقال الشركات العالمية من اختصاص إلى آخر، يأتي نتيجة دراسة كاملة ومتكاملة حول متطلبات السوق الاقتصادية"، معتبراً أنه "عندما يريد شخص معيّن تأسيس شركة، من أي نوع كانت، أو حتى لو قرر إنشاء مزرعة بسيطة، لا بد من أن تتوافر لديه المعرفة، ويبدأ حينها بتصنيع المنتجات، وتغليفها بهذه المعرفة، لتصل في ما بعد إلى المرحلة التي يسمح من خلالها تصريف المنتجات في السوق".
ولفت عجاقة إلى أنه "لا يمكن الحديث عن انتقال الشركات الرائدة من اختصاص إلى آخر بشكل عام، إذ إن لكل شركة دراسات وتطلعات، أدت إلى انتقال إحداها من اختصاص إلى آخر"، مستشهداً بشركة "آي بي أم" IBM التي كانت في الستينيات والسبعينيات من أولى الشركات التي بدأت بصناعة البرامج الإلكترونية، وكانت تصنّع في الوقت ذاته الحواسيب، "في ذاك الوقت ظهرت شركة "مايكروسوفت"، وأخذت القيادة في السوق، ونتيجة الصفقة بين شركتَي "مايكروسوفت" و"أي بي أم"، توسعت الأخيرة في مجال تصنيع برامج الحواسيب، أما "مايكروسوفت" فتحوّلت من لاعب صغير إلى أحد المنتجين الرئيسيين للبرمجيات في سوق الحواسيب المنزلية".
وأضاف "بمعنى آخر، السوق الاقتصادية وحدها مَن يحدد المكانة في السوق"، معتبراً أن أي مسؤول في شركة صغيرة أم عالمية، إذا ما قرر الانتقال من مجال اختصاصه إلى اختصاص آخر يجب أن يتطلع إلى المعرفة وتوافر سوق الربح لهذا المجال"، مؤكداً أن "هذا النوع من التغييرات داخل الشركات العالمية، تُسمى "التموضع الاستراتيجي"، وهي أساسية للاستمرار وتدخل ضمن حسابات الصمود في الأسواق الاقتصادية".
اصطياد الفرص
في المقابل، اعتبر أستاذ الاقتصاد، الدكتور جهاد حكيّم أنه "إذا كانت الشركة تعمل في قطاع توقف نهائياً عن التداول في الأسواق، حينها تنتقل من اختصاص إلى آخر"، مشيراً إلى أن مفاعيل فيروس كورونا في هذه المرحلة، هي أحد أبرز الأسباب الأساسية التي دفعت بالشركات العالمية إلى الانتقال من مجال اختصاصها إلى مجالات اختصاص أخرى"، لافتاً إلى أن "أسباباً اضافية، منها قرار ذاتي للشركة بالتوسّع والانتقال من العمل العادي إلى عمل يواكب التطور، بهدف تنويع الاستثمار وتخفيف حدّة المخاطر".
وبرأي حكيم فإن الشركات العملاقة تسعى إلى اصطياد الفرص، "أي الدخول على خط المجالات الأكثر تداولاً في الأسواق". ومن الأسباب التي يعتبرها أيضاً سبباً في تغيير استراتيجيات الشركات العالمية، قال إن "تراجع اختصاص الشركة عن جني الأرباح، يجعلها بموضع الانتقال الضروري نحو مجال آخر"، موضحاً أن "البعض يعتمد على الإبقاء على الاختصاص ذاته، لكن مع زيادة الخدمات والانتقال من العمل التقليدي ضمن إطار المجال التجاري، إلى العمل عبر المنصات الإلكترونية". وقال إن "مجال التعليم دليل على ذلك، إذ أصبح لدينا ما يُسمى التعلم المختلط، بين أخذ الصفوف عن بعد أو عن طريق الحضور المباشر، وهذا يعني أنه لم يتغيّر اختصاص التعليم إنما انتقل الاختصاص من التقليدي إلى العملي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فرصة كورونا
وتشكّل شركة "كوداك" الأميركية نموذجاً واضحاً على تحدي التقدم التكنولوجي، فبعدما سيطرت لما يقارب 130 سنة على إنتاج الأفلام الفوتوغرافية وأدوات التصوير، وقدمت خدماتها في كل دول العالم تقريباً حتى أشهرت إفلاسها عام 2012 لأنها لم تتنبأ بثورة التصوير الرقمي وكاميرات الهواتف الذكية. وظلت كوداك تحاول المنافسة بعدما قدم بنك "سيتي غروب" تسهيلاً ائتمانياً بقيمة 950 مليون دولار لإنقاذها داخل الولايات المتحدة فقط، لكنها لم تمتلك القدرة على الابتكار الكافي لمنافسة شركات التصوير الرقمي مثل "كانون". إلا أن تفشي وباء كورونا كان بمثابة فرصة ذهبية للشركة التي تحولت إلى صناعة الأدوية، حيث يُتوقع أن تنتج "كوداك" نحو 25 في المئة من الأدوية الجينية، وستسمح بتوفير نحو 260 ألف فرصة عمل، مستفيدةً من قانون "إنتاج الدفاع" الذي ترعاه وزارة الدفاع الأميركية، والذي يسمح للحكومة الفيدرالية بالاستعانة بالقطاع الصناعي الخاص لسد حاجات البلاد الخاصة والأمنية.
تحدي المستقبل
كذلك شركة "نوكيا" الفنلندية والتي كانت الأشهَر في عالم الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات لما يقارب الـ 20 سنة، قبل ظهور شركات مثل "آبل" مع رؤية مختلفة وبداية عصر الهواتف الذكية. وقدمت نوكيا خدماتها في صناعة الهواتف النقالة في 150 دولة حول العالم تقريباً مع أرباح تجاوزت 30 مليار يورو سنوياً، إلا أن تأخرها في مواكبة تطور الهواتف الذكية دفع رئيس الشركة إلى البكاء في مؤتمر صحافي، والإقرار بأنهم فشلوا ولم يستطيعوا مواكبة التطور، علماً أن الشركة التي انطلقت في عام 1865 وهي من الشركات ذات التاريخ العريق، لم تستهل تاريخها بصناعة الهواتف أو وسائل وتقنيات الاتصال، إنما بدأت كشركة لإنتاج الورق، قبل أن توسع نشاطها لصناعة المطاط وبعدها الكابلات والوصلات الكهربائية، لتبرز في منتصف القرن الماضي في صناعة الحواسيب وأجهزة التلفاز، لتسجل بعدها قفزة نوعية عبر تشغيل أول شبكة عالمية للاتصالات الجوالة في عام 1981، ما أكسب الشركة شهرتها المستمرة إلى اليوم.
من الأسماك الى التكنولوجيا
وعلى خطىً شبيهة بـ "نوكيا" سارت شركة "سامسونغ" من حقل التجارة في شتى أنواع البضائع والمواد الغذائية مثل الأسماك والخضراوات والفواكه، إلى حقل التكنولوجيا والشهرة العالمية. ويشير سجل الشركة إلى نجاحات مذهلة وأرباح طائلة، حيث كانت تمتلك مصنعاً لتكرير السكر ومصنعاً ضخماً لصناعة الصوف.
وبسبب نجاحها الكبير، قررت الشركة تحويل مصانعها إلى مجموعة صناعية متكاملة، وبدأت باستثمار أموالها في تأسيس شركات في مجالات مختلفة كالتأمين وتجارة التجزئة والأمن، وفي الستينيات افتتحت شركة للإلكترونيات بهدف السيطرة على هذا المجال أيضاً. ونجحت فعلاً في صناعة أول تلفزيون بالأبيض والأسود في العالم، وبحلول منتصف الستينيات كانت شركة "سامسونغ" للإلكترونيات تملك ستة أقسام مختلفة، وبحلول عام 1980 اشترت أكبر شركة للاتصالات في كوريا الجنوبية. وفي ذات العام بدأت "سامسونغ" في إنتاج الهواتف وأجهزة الفاكس وعدد متنوع من الأجهزة الالكترونية، حيث لا تزال تحقق ريادة في هذا المجال في الأسواق العالمية.
مطاحن التوابل الفرنسية
وفي إطار الحديث عن التحولات الاستراتيجية للشركات العالمية لا بد من الإشارة الى شركة "بيجو" الفرنسية، وهي ثاني أكبر شركة صناعة سيارات في أوروبا بعد "فولكس فاغن"، وموجودة في 160 دولة، ولها أكثر من 10 آلاف منفَذ بيع حول العالم. وللأسد في شعار الشركة قصة ممتعة، فهو يرمز إلى صفات بيجو الثلاث، وهي صلابة الأسنان، ومرونة النصل مثل العمود الفقري للأسد، وسرعة القطع مثل سرعة انقضاض الأسد على فريسته. وبدأ ظهور ذلك الشعار منذ عام 1847، وظهر في البداية على منتجات الشركة آنذاك، مثل مطاحن القهوة والعجلات والدراجات النارية. وظهر على سيارات "بيجو" منذ عام 1905، ومرّ بعشر محطات تطوير لتصميمه.
والطريف هو أن رحلة "بيجو" بدأت بصناعة القهوة، وتحولت مع الوقت، منتهيةً عند صناعة السيارات، حيث بدأ التحول من صنع قضبان للفساتين القماشية التي كانت مشهورة في أوروبا في القرن الثامن عشر، ثم تحولت من قضبان الفساتين لقضبان هياكل المظلات، ثم أسلاك العجلات، والتي بدت كخطوة نحو صناعة العجلات.
وفي عام 1890، طورت "بيجو" سيارتها الأولى لتصبح بـ 4 عجلات ومحرك غير بخاري، حيث قامت بإدخال ابتكارات عدة، كمقود السرعات القابل للانزلاق، وأنظمة تعليق من 3 نقاط، إضافة إلى أول عجلة مطاطية، ودخلت عالم السباقات في عام 1894. إلا أن ظروف الحرب العالمية حولت "بيجو" لصناعة الأسلحة والمركبات العسكرية، وبنهاية الحرب كان المصنع قد تعرض لتدمير وخسائر جسيمة، مما جعله في حاجة لتجديد استغرق حتى عام 1948، وهو ما دفع الشركة إلى بدء تنفيذ سلسلة تصميمات لشركة إيطالية، نجحت في تغيير مسار "بيجو"، ما شجعها على دخول للسوق الأميركية في عام 1958.