قبل العصر الرقمي، أي قبل "البلاي ستيشن" و"الإكس بوكس"، وتلك الألعاب الأخّاذة ـ بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ـ كان الشارع لهم... أو لنا، نحن الذين ننتمي إلى أجيال سبقت الفضاء المكتظ بنبضات الإلكترون...
كان الشارع هو "البلاي ستيشن" الحقيقي لأطفال توارثوا ألعابهم جيلا عن جيل. وبين أركان الشارع نمّوا مواهبهم بألعاب تبدو لأجيال اليوم، بسيطة وساذجة، لكنها كانت مفعمة بالحيوية، وباعثة للنشاط، وبوتقة للتفاعل وتبادل الخبرات وعقد الصداقات، واستقطار المتعة من مظانها، وتنمية المعرفة من جذورها.
والملفت أن تلك الألعاب، الشعبية أو التقليدية، هي نفسها في كل بلد عربي مغاربيا كان أم مشرقيا، تختلف مسمياتها لكنها تأتلف في القواعد والأصول والممارسة.
فأين أصبحت تلك الألعاب الآن؟ وهل ما زال هناك من يمارسها؟ وقبل هذا وذاك، لمن هو الشارع اليوم، الذي كان فيما مضى عامرا بالأطفال والبراءة؟
حنين إلى ذكريات طفولة مضت في الجزائر
أطفال بعقليات جديدة
لكن لأطفال اليوم نظرة مغايرة، حيث يعتبرون خروجهم إلى الشارع للعب مع أبناء الحي مضيعة للوقت، كما لم تعد العائلات تشجع أبناءها على الخروج لاعتبارات مُجتمعية مرتبطة بالمشكلات الهامشية في الأحياء، لا سيما الشعبية منها، والخوف من أذية الآخر التي قد تأخذ طابع المبالغة أحياناً، وآفات اجتماعية تفاقمت مثل تفشي المخدرات والخطف والسرقة وغيرها.
في السياق ذاته، تقول أم مروى "أُفضل أن تبقى ابنتي في المنزل آمنة على الخروج إلى الشارع، فهناك لا يمكنني مراقبتها وأخاف أن يحصل لها مكروه، لكن لها نصيباً من اللعب في مدينة الألعاب خلال العطل ونهاية الأسبوع لتغيير جو الدراسة".
هذا التفكير لم يكن سائداً خلال سنوات مضت في الجزائر، إذ تشرح الشابة سارة مرواني أن الشارع كان بيتاً ثانياً للأطفال في سنها، وأن معظم الألعاب الشعبية كانت تُصنع بأدوات بسيطة وبأنامل أصدقائها وصديقاتها، وتتذكر تلك الفترة من حياتها بكل شغف.
وتقول "كانت للذكور ألعابهم الخاصة وللفتيات أيضاً، وهناك ألعاب مشتركة نتقاسمها معاً، ولطالما فرحنا بقدوم العطل المدرسية لأنها فترة تمنحنا فُرصة اللعب لساعات طويلة تمتد إلى المغرب، لنضرب موعداً في اليوم التالي".
ألعاب شعبية في كل موسم
ونجد أيضاً لعبة "لا ماغين" وهي خاصة بالبنات فقط، اذ تُرسم على الأرض ست خانات متساوية بطباشير بيضاء اللون، وتقوم إحدى البنات برمي حجر في أول خانة، وتركله وهي تحجل إلى الخانة التي تليها، ثم تستريح قليلاً في البيت الرابع، ثم تواصل اللعبة إلى حين إخراج الحجر من المستطيل برجل واحدة.
وإذا وضعت الفتاة رجلها على الأرض أو جاء الحجر على أحد الخطوط فإنها تخرج من اللعبة، ومن تحصل على أكبر عدد من الخانات تُعتبر الرابحة.
كورونا يعيد إحياء الألعاب الشعبية في الأردن
في المقابل، لا تزال بعض الألعاب الشعبية التقليدية حاضرة داخل بعض القرى والمدن الأردنية البعيدة من العاصمة عمّان حتى يومنا هذا، على الرغم من تسلل التقنية إلى منازل الأردنيين بكثافة.
ولم يمنع انتشار شبكة الإنترنت والأجهزة الذكية من هرب الأطفال والمراهقين إلى الأزقة والهواء الطلق، خصوصاً بعد أشهر طويلة من حظر التجوال والحجر المنزلي الذي فرضته تداعيات جائحة كورونا.
ويرى متخصصون ومراقبون أن الألعاب الشعبية القديمة أكسبت الأطفال معارف عن العالم الخارجي، ودفعتهم إلى اكتشاف بيئتهم وثقافة مجتمعهم وقيمه وأخلاقه.
إحياء التراث
أعاد كثير من الأردنيين استحضار ألعاب شعبية قديمة كانت بمثابة تراث ارتبط بطفولتهم وذكرياتهم، من بينها لعبة "المنقلة"، وهي لعبة لوحية قديمة عبارة عن قطعة مستطيلة من الخشب فيها حفر توضع فيها أحجار.
ومن الألعاب الشعبية الشائعة أيضاً "الزقطة" وهي لعبة مفضلة لدى الإناث أكثر من الذكور، وتقوم على قذف الحصى الصغيرة.
وعلى الرغم من كون لعبة "القلول" إحدى الألعاب التي عفى عليها الزمن، فإن بعض الأطفال عاد لممارستها، خصوصاً مع ارتباطها بالأيام الدافئة والصيف أكثر من الشتاء، وهي عبارة عن كرات زجاجية تقذف بطرق متعددة إلى حفر في الأرض.
ومع اشتياق الأطفال للنزول إلى الأحياء والحارات مجدداً، عادت لعبة "الحجلة" مرة أخرى كمتنفس للأطفال الذين ضجروا من الجلوس في المنزل وإلى شاشات هواتفهم الذكية طوال أشهر.
في مواجهة التقنية
يؤكد تربويون أن الألعاب التقليدية تبث الروح المجتمعية، وتجمع الناس معاً وتغرس فيهم شعور الفخر والمرح، فضلاً عن دورها في بناء الأطفال صحياً ونفسياً.
وتشير سهام الشرمان مديرة مدرسة "خديجة أم المؤمنين للإناث" إلى أهمية إعادة إحياء الألعاب الشعبية، مشيرة إلى تطبيقها في المدرسة التي تديرها لما لها من فوائد حيوية وبث النشاط بين الطلاب، وزيادة حبهم لوطنهم وانتمائهم لتراثهم، وهو ما نفتقده لدى الأجيال الحاضرة بسبب انشغالهم بالتقنية الحديثة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول الكاتب والأديب نايف النوايسة، إن التوثيق والبحث في حياة الشعوب وتراثها أمر غاية في الصعوبة والمتعة في آن واحد، خصوصاً من فئة الشبان الذين يعيشون اليوم حياة العولمة والتسارع التقني والحداثة، التي أبعدتهم إلى حد كبير عن مظاهر العادات والتقاليد التي كانت سائدة قبل عقود من الزمن.
قوانين ومسميات
وثمة 99 لعبة شعبية في الأردن لكل منها قوانينها وطبيعتها ومسمياتها، مثل "البومة" و"حاكم وجلاد" و"صياد السمك" و"الحجارة السبعة"، وتصنف الألعاب الشعبية الحركية إلى ثلاثة أقسام بالألعاب "الشعبية الإيهامية والتمثيلية والترويحية والرياضية".
وفي العاصمة عمّان، تنتشر الألعاب القديمة في الأحياء الشعبية فقط، وتشير دراسات عدة إلى أن الألعاب الشعبية تسهم في جعل الأطفال اجتماعيين، وتعوّدهم على المنافسة مع أقرانهم على عكس الألعاب الإلكترونية.
ووفقاً لأستاذ علم الاجتماع، حسين محادين، فإن تلك الألعاب الشعبية كانت قائمة على التوافق الشفاهي والنظامي المرن بين المشاركين فيها في الريف الأردني منذ خمسينيات القرن الماضي، ويرى محادين أن ثمة تشابهاً بين ما هو موجود في المجتمع الأردني من ألعاب شعبية، والمحيط العربي وإن اختلفت المسميات.
وغلب على الألعاب الشعبية الطابع الذكوري، بينما كانت ألعاب الإناث قليلة بالمقارنة بها، كما أن معظم هذه الألعاب كانت بدنية أكثر منها عقلية.
الألعاب الشعبية في السعودية تقاوم "مدن الألعاب"
من جهة ثانية، لا يخفى على المتابع التغيرات التي تشهدها السعودية، واتجاه أكبر دول الخليج نحو الاستثمار في القطاع الترفيهي والسياحي، وهو الاستثمار الذي يخلق حداثة ترفيهية تسهم بشكل أو بآخر في اندثار ألعاب شعبية ابتكرها الأجداد القدامى قبل عصر مدن الألعاب، والتي يمتد عمر بعضها لأكثر من 100 عام، إلا أن ثمة جهوداً حثيثة لإحيائها في المناسبات الوطنية وحتى الخاصة.
فثمة ألعاب شعبية مثل لعبة "طاق طاق طاقية" أحد أشهر الألعاب الشعبية التي لا تزال القرى السعودية البعيدة من مدن الترفيه تمارسها، ويردد الطفل الذي يدور على حلقة من الشبان أو الأطفال وهم جلوس على الأرض وهو يحمل طاقيته (غطاء قماشي للرأس) " طاق طاق طاقية... رن رن يا جرس" وخلال دورانه يلقي بطاقيته خلف أحد الجلوس بغتة، والذي يجب أن يتنبه لها فوراً حتى يقوم بمطاردة من ألقاها قبل أن يجلس مكانه.
فيما توارت خلف الأزمنة أشهر الألعاب أيضاً، وهي لعبة "الدنانة" التي يشترك في لعبها الجيل الذي يعيش في أواخر ثلاثينياته ومن هم في الأربعين وما بعدها، إذ كانت لعبة لا تباع بل يتولى الشبان في سبعينيات القرن الماضي صناعتها بشكل يدوي، وهي عبارة عن مقبض حديدي يؤخذ غالباً من مخلفات الحرث والزراعة، وفي رأسه حلقة دائرية إما إطار دراجة هوائية متهالك أو علبة صفيح ثُقب طرفاها بسلك حديدي والمقبض العمودي المنحني يمكنك من قيادتها بدفعها أمامك، كما لو أنك تمسك بسنارة صيد وتسير بها، وكانت تلك واحدة من أهم الألعاب وأشهرها.
وأسهمت في بث روح المشاركة الاجتماعية بين أبناء الجيران من الأطفال والشباب، وساعدتهم في تمضية أوقات فراغ بشكل مشترك، وهو الوضع الاجتماعي الذي غاب بغياب هذا النوع من الأنشطة الجماعية.
وتسعى المهرجانات الشعبية في السعودية إلى إعادة إحيائها، فالمهرجان الأكبر في البلاد "الجنادرية" الذي يقام مرة كل عام، يحرص على تنظيم هذه الألعاب في ردهات الفعالية.
ويضع "الجنادرية" في جدول فعاليته جميع الألعاب الخاصة بالذكور والإناث، منها لعبة "عظيم ساري" و "وحدة وحدة"، أو تلك المخصصة للبنات "الخطة" و"حدرجا بدرجا" و"الدبق" و"فتحي يا وردة"، و"الصقل أو المصاقيل" التي تلعب عن طريق الكرات الزجاجية التي تسمى في ثقافات أخرى "بارجون".
ألعاب الشارع انهزمت بضربة رقمية قاضية
قبل سنوات، كانت أصواتهم تتسلل من النوافذ والأبواب، من الشوارع وربما من الساحة أمام الشقق السكنية "كهرباااا"... ويرد آخرون "فك الكبس"، لكن الأوضاع تغيرت والأحوال تبدلت، واليوم إن سمع أحد الكبار "كهرباااا" فإنه يُهرع ملتاعاً جهة النافذة أو الباب، ظناً أن عمود الكهرباء الذي سُرِق غطاؤه وتعرت أحشاؤه قد كهرب أحد الصغار أثناء لعبهم لعبة "كهربا".
وساوس كهربائية
الوساوس الكهربائية نفسها ومخاوف التعرض للصعق ذاتها تراود الأهل أيضاً في حالات مشابهة، حيث "كيكا على العالي". فلعبة الشارع الشبيهة بـ "كهربا" في مصر، لا تنتهي بـ "فك الكبس"، بل تنتهي بتسلق الصغار شيئاً مرتفعاً في الشارع حتى لا يمسك بهم من وقع عليه الاختيار، ليكون "المساك"، ولأن الشيء الوحيد في الشارع المتاح للتسلق هو عمود الإضاءة ذاته، فإن مخاوف الصعق تنتابهم مع كل "كيكا" تنجز "على العالي".
أثناء لعبهم زمان أيضاً، اعتاد الجميع النداء الاستفساري "خلاويص؟" أي هل اختبأتم؟ فيرد من لم يتمكن من الاختباء بعد "لسه" (ليس بعد)، وإن لم يرد أحد سواء بـ "خلاص" أو "لسه"، يعاود الكبار الركض نحو النافذة خوفاً من أن تكون البالوعة التي نُزع غطاؤها من قبل عصابة سرقة الحديد، قد ابتلعت أحد الصغار في لعبة "المساكة" أو "الاستغماية" الشهيرة.
"الاستغماية" وأخواتها
شهرة "الاستغماية" وقريناتها من ألعاب الشارع المنقرضة، لا تنافسها سوى حفنة من ألعاب الذكاء التي تحتاج قدرات حسابية ومهارات ذهنية على الرغم من بساطة أدواتها وبدائيتها، وفي الوقت نفسه عراقتها، وهي "السيجة" التي لا تحتاج إلا لبعض الحصى وأرض رملية يمكن رسم مربعات عليها بالإصبع، أو أرض عادية وطباشير.
وعلى الرغم من أن الكبار يلعبونها بأعداد أكبر من الحصى، فإن الصغار كانوا يلعبونها في شوارع المدن والقرى بعدد قليل من الحصى، وذلك حتى عقود مضت.
عقود مضت على عصر "البلي" الذهبي، البلية، هذه الألعاب البلاستيكية أو الزجاجية الصغيرة، التي كان الصغار يلعبون بها فيما يشبه لعبة الغولف، إذ يتحتم على الصغير دفع البلية بأصابعه لتستقر في حفرة صغيرة محفورة بالأيدي، كانت أيضاً مدعاة لهلع الكبار، ولها دفتر في قسم الطوارئ في المستشفيات حيث "حسين بلع بلية" و"نادية التهمت بلية ظناً منها أنها حلوى".
عربة الآيس كريم وتبعاتها
الحلوى التي تُباع في الشارع وكذلك "الجلاس" أو "الآيسكريم"، الذي تدغدغ عربته التي يدفعها البائع، بألوانها البراقة ووعده الجهوري بـ "أحلى كلو كلو" (اسم كان يطلق على كرات الآيسكريم)، كانت تدفع بأطفال الحي إلى الشارع في مواعيد محددة يومياً، وعقب شراء ما تيسر من حلوى و"غلاس"، غالباً ما كانت جموع المتسوقين الصغار تنتهز الفرصة للعب في الشارع ولو لدقائق معدودة.
هذه الدقائق كانت عزيزة غالية للقلة القليلة من الصغار، التي يرى الأهل أن لعب الشارع يمثل خطورة عليهم.
قليلة هي الألعاب الشعبية التي كانت تجمع الأولاد والبنات، فالأعمار الصغيرة حتى السبع أو ثماني سنوات كانت تنخرط في ألعاب مشتركة، ومعظم هذه هذه الألعاب لا تحتاج إلا لطباشير لتدشين اللعبة، وحجر صغير للنيشان في داخل المربعات المرسومة.
"الحجلة" أو لعبة القفز هي لعبة البنات، وكن يسمحن بانضمام الأولاد بشروط، الأولاد الصغار سناً وحجماً، أقارب البنات من الدرجة الأولى، وأولئك المضمونون من حيث عدم اللجوء إلى الخشونة في اللعب أو التنمر والسخرية من اللعبة واللاعبات.
سخرية الأولاد بالبنات وألعابهن، سمة من سمات لعب الشارع وقت كان شائعاً، فالبنات يلعبن "فتحي يا وردة" بأصواتهن الرقيقة وخطوات تفتيح الوردة اللطيفة، حيت تشابك الأيدي والتظاهر بأن الوردة تتفتح ثم تعاود الإغلاق على نغمة "فتحي يا وردة. أقفلي يا وردة. هنا وردة. وهنا وردة".
فتّحي يا وردة
رقة "فتّحي يا وردة" وقفزات "الحجلة" والهدوء الملازم لها، كانت تقابلهما خشونة الكرة "الشراب" وغلظتها. الكرة المصنوعة فعلياً من الجوارب القديمة، وكانت وما زالت إلى حد كبير مركز الجذب الرئيس في ألعاب الشارع الشعبية.
أطفال ومراهقو الحي والأحياء المجاورة لطالما جذبتهم الساحرة المستديرة، ولو كانت من الجوارب القديمة، وسواء كانوا أربعة أو خمسة أو 20 طفلاً ومراهقاً، أو حتى العشرات منهم، ظلت هذه المستديرة قادرة على ملء وقت الفراغ بتمرير الكرة وإحراز أهداف في مرمى الآخر، سواء كان المرمى طوبتين أو حقيبتي مدرسة أو سلتي قمامة.
ضلوع البنات في هذه المنظومة كان ولا يزال مغلقاً، حتى في السنوات الماضية التي شهدت انخراطاً للبنات في لعب كرة القدم، تظل "الكرة الشراب" مغلقة بالضبة والمفتاح على محتكريها من الأولاد.
ألعاب الشارع الشعبية لم تكن براءة 100 في المئة على طول الخط، فحب الاستطلاع والرغبة في استكشاف "الممنوع" قاعدتان رئيستان في اللعبة الماكرة، التي تخلط "الهبل بالشيطنة".
لعبة "عريس وعروس" اتسعت لتفاوتات عدة على مقياس البراءة، فمن الرغبة في تقليد ماما وبابا في الأعباء والمسؤوليات وإدارة البيت، إلى درجات متفاوتة في استكشاف الفروق بين الجنسين، ظلت اللعبة الأكثر إثارة من قبل الصغار والأكثر مطاردة من قبل الأهل.
أجيال منقرضة
الأهل الذين مرّوا بمرحلة ألعاب الشارع الشعبية ومن بعدهم الأبناء والبنات، صاروا اليوم أجيالاً معرضة للانقراض.
عقود طويلة وأطفال مصر، لا سيما من الطبقات المتوسطة وما دونها، سواء في المدن أو القرى، يتخذون من الشارع أو الحارة أو حتى الساحة أمام الشقق السكنية في العمارات، موقعاً للعب والتلاقي.
أماكن لعب الصغار الآمنة حيث النوادي الرياضية والاجتماعية المغلقة على أعضائها، الذين يسددون اشتراكات تعتبرها الغالبية باهظة، أو حتى الحدائق العامة غير المتوافرة للصغار في الأحياء الشعبية والمناطق العشوائية والقرى.
لكن الأمور تغيرت والأحوال تبدلت، ومع كل تغير وتبدل كانت أنماط جديدة من اللعب تتقدم خطوات، والألعاب الشعبية في الشارع تتراجع خطوات، فعصر الألعاب الرقمية والأجهزة الإلكترونية أجهز على الجميع.
تركيبة المجتمع
لكن ليس من الإنصاف تحميل الغزو الرقمي والإلكتروني وحده مسؤولية تراجع ألعاب الشارع الشعبية، فتركيبة الشارع المصري باتت غير مناسبة في أغلبها للعب الأطفال فيه، حيث المركبات بأنواعها بما فيها "التوك توك" التي لم تترك شارعاً أو حارة إلا وغزتها، في ظل ضعف تطبيق قواعد وقوانين المرور، جعل الشارع مكاناً غير آمن بالمرة للعب الصغار.
وإذا كان لعب الأولاد في بعض الأماكن ما زال موجوداً وتحديداً حيث الكرة، سواء أكانت "شراباً" أو كرة عادية، فإن لعب البنات في الشارع اختفى تماماً. موجات التشدد التي هبت على مصر على مدى نصف قرن مضى، ألقت بظلالها على كل ما يتعلق بالإناث، بمن فيهن الصغيرات اللاتي بتن الفئات التي تأثرت بفتاوى التشدد في مجتمع يعتبر نزولهن الشارع للعب أمراً مكروهاً.
أستاذة الطب النفسي في جامعة عين شمس هبة عيسوي، تؤكد أهمية اللعب في حياة الصغار لقيمته التربوية والجسدية والعقلية والاجتماعية، ولذلك فهي تتحدث عن أهمية قيام الأهل بتوجيه الصغار في مجالات اللعب لمراعاة العمر ونوعية اللعب مع عدم ترك الصغار للعب الصدفة.
وعلى الرغم من أن الألعاب الشعبية في الشارع معظمها متروك للصدفة، فإنها كانت تنمي مهارات الصغار الجسدية والاجتماعية بشكل أو بآخر، ولكن في زمن آخر كانت الصدفة فيه أكثر أمناً وسلاماً.
محاولات في تونس لإحياء الألعاب الشعبية
تزخر الثقافة الشعبية التونسية بألعاب عدة أصبح معظمها من الماضي، منها ما يخص الذكور، وبينها ما يخص الإناث، وألعاب أخرى تجمع بين الجنسين، كما تختلف من منطقة إلى أخرى بحسب العادات والتقاليد والعامل المناخي، ميزة هذه الألعاب التواصل المباشر بين الأفراد ومعداتها البسيطة غير المعقدة وغير المكلفة أيضاً، كما تمتاز هذه الألعاب الشعبية عادة إما بنشاط رياضي أو فكري ذهني وأخرى تعتمد التراث الغنائي.
في الماضي القريب، كانت الأحياء الشعبية وأزقتها الفضاء الأساس الذي يحتضن الأطفال من أجل المشاركة في اللعب، فأغلب الألعاب كانت مرتبطة بالشارع، على غرار البيس (الكرة البلورية)، وأوراق الأبيض والأسود، والسبع حجرات، و"الحنش" التي تعتمد على أغطية قوارير المشروبات الغازية، والزربوط وتسمى أيضاً النحلة، تعتمد على خيط لتدوير الزربوط. معظم هذه الألعاب تخص الذكور لأن البنات غالباً ما تعتمد ألعابهن على خصوصياتهن، على غرار البيت والطبخ والدمية أو الكرود التي تعتمد على حجرات صغيرة الحجم، وأيضاً لعبة المربع والحبل وهي ألعاب حركية بدنية، وغيرها من الألعاب التي لم نعد نراها اليوم لأسباب عدة، أهمها غزو الألعاب الإلكترونية، فضلاً عن عمل المرأة، إذ لم يعد للأطفال في تونس الوقت الكافي للعب، فكل وقتهم يقضونه في المدرسة، وبعد انتهاء الدوام يتم إيواؤهم في أماكن خاصة للمراجعة والراحة إلى أن ينتهي دوام الوالدين من العمل، ولا ننسى العامل الأمني الذي لعب دوراً مهماً في خوف الوالدين من اللعب في الشارع.
وإن اندثرت هذه الألعاب على أرض الواقع، فقد وجدت محاولات لتوثيق الموروث الشعبي للألعاب، في هذا الإطار قدم رئيس جمعية أطفال بلا حدود للمسرح والتنشيط التربوي بقفصة جنوب تونس، صابر عبداوي، ملفاً منذ أكثر من سنة لصندوق التشجيع على الإبداع الأدبي والفني بوزارة الشؤون الثقافية بعنوان "الألعاب الشعبية في الجنوب التونسي"، وتمت الموافقة على دعمه وتنفيذه من طرف مجموعة من المؤلفين.
وفي وثيقة تقديمية لكتابه، يتحدث صابر العبداوي عن خصائص هذا المشروع تحت عنوان "تراث أجدادي أهديه لأولادي"، وجاء في هذه الوثيقة التي تحاول البحث في الأصول الحضارية لهذه الألعاب، "لقد كان للتطور التاريخي للبلاد التونسية أثر بالغ في تأسيس ثقافة متنوعة امتدت آلاف السنين من العصر البونيقي والروماني والبيزنطي وصولاً إلى الحضارة العربية الإسلامية وبناء الدولة التونسية المعاصرة، وعبر هذه العقود المتعاقبة ابتكر التونسيون ألعاباً لتسلية الأطفال وحتى الكبار".
من جانبه، يقول رئيس جمعية الحفاظ على الألعاب التراثية عز الدين بوزيد، إنهم يسعون إلى المحافظة على التراث اللامادي وتثمينه، وأيضاً إحياء الألعاب الشعبية، ويعتقد بوزيد أن "وسائل الإعلام والتطور التكنولوجي لعبت دوراً سلبياً في اندثار هذه الألعاب، إضافة إلى أن التطور المعماري والحضاري أسهما في تقلص الفضاءات المخصصة للعب".
وفي محاولة منهم لإحياء هذا التراث ومحاربة الغزو الإلكتروني، يقول بوزيد، "حاولنا تطوير الألعاب التقليدية الشعبية في مستوى شكلها وأيضاً استبدال المواد التي كانت تُعتمد في الماضي، من الحجر أو الفحم والتراب وغيرها، وتعويضها بالخشب والنسيج والصوف لتصبح ملائمة للتطور الاجتماعي الذي نعيشه اليوم".
ويفيد بوزيد بأن تحديثهم لبعض الألعاب الشعبية أعطى نتيجة إيجابية بجلب انتباه بعض الأطفال، بخاصة في فترة الحجر الصحي الذي عشناه السنة الماضية، كما طورنا بعض الألعاب الشعبية التي تقتصر على كرة القدم والطائرة والتنس، وبالتالي نحاول التسويق لألعابنا الشعبية الرياضية.