"تأملات في الفن المعاصر لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، هو عنوان يشير إلى الرقعة الجغرافية الشاسعة التي تغطيها مجموعة الأعمال الفنية التي يوثق لها أحدث الكتب الصادرة عن المتحف البريطاني. يضم الكتاب أعمال مئة وسبعين فناناً وفنانة من المنطقة العربية وما حولها في مجالات الرسم والتصوير والفوتوغرافيا. تعكس أعمال هؤلاء الفنانين طبيعة الممارسات الفنية والقضايا المرتبطة بثقافة كل منهم وتفاعلهم مع الأحداث الفارقة في منطقة تموج بالتحولات والصراعات. الأعمال التي يضمها الكتاب تم جمعها خلال العقود الثلاثة الماضية وتمثل جانباً من مقتنيات المتحف المتعلقة بالفنون المعاصرة في هذه المنطقة المُشار إليها. وواكب صدور الكتاب المهم معرض لهذه الأعمال المختارة نظمه المتحف خلال فبراير (شباط).
اللافت هنا أن معظم الأعمال الفنية التي يضمها الكتاب والتي تعود ملكيتها إلى المتحف البريطاني هي أعمال ورقية، منها أعمال تعود لفنانين معروفين بالعمل على وسائط أخرى غير الرسم، وربما يرجع ذلك إلى سهولة تخزينها وأرشفتها داخل المتحف.
يضم الكتاب سبعة فصول رئيسية، يبدأ كل منها بمقدمة قصيرة عن طبيعة الأعمال المدرجة ضمن هذه الفصول السبعة. بين هذه الفصول على سبيل المثال واحد عن الأعمال الفنية التي تتناول المرأة، وآخر عن التجريد والتشخيص، كما يضم فصلاً كاملاً عن الأعمال المرتبطة بالأحداث السياسية والتحولات الثورية والحروب والصراعات التي مرت بها المنطقة.
ولعل التجاور بين هذا العدد الكبير من أعمال فناني العالم العربي من شأنه أن يسلط الضوء على جوانب الاختلاف والاتفاق بين أصحاب هذه الأعمال المشاركة في التعامل مع بعض الجوانب المتعلقة بالممارسة الفنية، كأساليبهم في صوغ الأشكال مثلاً، أو تعاملهم مع فكرة الاختزال والتجريد، وتقاربهم أحياناً حول عدد من القضايا المُشتركة.
الهويات الفنية
المُشرفة على جمع المادة التوثيقية للكتاب فنتيا بورتر هي قيمة فنية بريطانية نشأت في لبنان وتعمل حالياً في المتحف البريطاني كمشرفة على قسم الفنون الإسلامية والمعاصرة المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط. في مقدمتها للكتاب تتطرق بورتر إلى الإشكاليات المتعلقة بالتنميط، أو إسباغ نوع من الهوية على أعمال الفنانين، فتقدم نماذج من هذه المصطلحات المطاطة التي يستعملها الغرب أحياناً، كاستخدام كلمة إسلامي مثلاً للتعريف بالتاريخ والأدب والفن في المناطق الواقعة بين غرب أفريقيا وجنوب شرقي آسيا، حيث يمكن القول إن الإسلام يمثل خيطاً رابطاً بين شعوبها. تكمن الإشكالية هنا كما تقول بورتر في أن تعميم المصطلح على هذا النحو يؤكد عدداً من المفاهيم المرتبطة بهوية واحدة، ما يعني ضمناً التعامل مع رقعة جغرافية واسعة ومختلفة في مرجعياتها الثقافية والتاريخية كوحدة متجانسة تماماً، وهو أمر قد ينطوي على الكثير من المغالطات أحياناً.
وبالمثل تتطرق بورتر كذلك إلى مصطلح الفن العربي، الذي يتم استخدامه للإشارة إلى أعمال الفنانين المنتمين إلى 22 دولة من المغرب إلى الخليج. ترى بورتر أنه على الرغم من أن الفنانين العرب يتشاركون في كثير من الحالات الانشغالات نفسها، إلا أنه من المهم التعامل مع مثل هذه المصطلحات التعميمية بمزيد من الحذر.
من بين الفنانين العرب الذين تطرق إليهم الكتاب، يأتي الفنان اللبناني شفيق عبود، بأعماله المرسومة بخامة الفحم وألوان الجواش. يذهب عبود في أعماله تلك إلى حدود التجريد في اختزاله صور الأشخاص من دون الاعتماد على التفاصيل التشريحية. ومن العراق يبرز اسم الفنان حافظ الدروبي، وهو واحد من رواد الحركة الفنية في العراق، ومؤسس أول استوديو مجاني للفنانين العراقيين، كما عمل عميداً لأكاديمية الفنون الجميلة، واشتهر بأعماله المستلهمة من المدرسة التكعيبية، ومن بين تلاميذه الفنان العراقي ضياء العزاوي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن الفنانين الآخرين ثمة أعمال رسم نادرة للمثالة الأردنية منى سعودي، وأعمال للفنان الإماراتي محمد أحمد إبراهيم، ومن تونس نور الدين خياشي، وميشال بصبوص وشفيق عبود من لبنان، وعصام كرباج ومروان قصاب من سوريا، وخالد زكي من مصر، بالإضافة إلى فنانين آخرين من السعودية والسودان والمغرب والجزائر. ومن إيران يبرز اسم الفنانة شيرين نشأت.
يجدر التوقف هنا أمام النصوص التي يضمها الكتاب عن التعميم والإشارات المغلوطة التي يمكن للمصطلح أن يرسخها في الأذهان، فعلى الرغم من الإشارة إلى هذا الأمر والتأكيد عليه في هذه النصوص، إلا أن الكتاب قد وقع في شرك هذه المنطقة الشائكة نفسها عبر اختياره هذا التصنيف في سبيل توثيقه للمجموعة الفنية المختارة، إذ يستند التصنيف إلى مصطلح له دلالات استعمارية، وهو مصطلح الشرق الأوسط الذي استحدثته بريطانيا للإشارة إلى المناطق التي استعمرتها، كما يذكرنا الجدول الزمني في مقدمة الكتاب، والذي يشير إلى التواريخ التي سيطرت خلالها بريطانيا على دول المنطقة وشعوبها.
من المؤكد أن الإلمام بالحركة الفنية بكاملها في منطقة مشبعة بهذا التنوع هو أمر بالغ الصعوبة، غير أن صدور مثل هذا الكتاب عن المتحف البريطاني - وهو أحد أهم المؤسسات الفنية في أوروبا - من شأنه أن يمهد الطريق لمزيد من الدراسات والقراءات المختلفة حول تاريخ الفن، بعيداً عن المركزية الغربية المعتادة، وهي رغبة ملحة بات من الضروري تحقيقها وترجمتها عملياً عبر العديد من الفعاليات والإصدارات المشابهة.