إيران التي لم تقدم تنازلات كانت ستبدو مفهومة تحت وطأة "الضغوط القصوى" في فترة رئاسة دونالد ترمب، لا يبدو أنها مستعدة لتقديم تنازلات موضوعية أمام لغة بايدن المائلة إلى تخفيف التصعيد ضدها، بخاصة إذا ما نظرنا إلى سلوكها في الشهرين الأخيرين منذ بداية الحديث عن عملية سياسية مرتقبة لتسوية ما خلفته السنوات الأربع الماضية في العلاقة مع إيران وملفها النووي.
إذ تستقبل طهران طلب المفاوضات بالتحضير له عن طريق التصعيد، فبعد أن واجهت السنوات السابقة بسياسة "الصبر الاستراتيجي" بانتظار لحظة عودة المؤمنين بالاتفاق النووي إلى البيت الأبيض، يبدو أنها انتقلت اليوم إلى مرحلة "التصعيد الاستراتيجي" التي لا تهدف من خلاله إلى التصعيد في ذاته بل لما بعده، بحسب مراقبين.
وبالنظر إلى خيارات جو بايدن وفريقه في البيت الأبيض لإدارة الصراعات التي تضطلع بها الإدارة، يظهر الخيار الدبلوماسي على رأس القائمة، ليس كخيار رئيس بل الوحيد على ما يبدو.
المظاريف الثلاثة
إذ أقدمت واشنطن منذ تسلم الإدارة الجديدة على عرض مواقف البلاد الجديدة، وكان من ضمنها الموقف من الملف الإيراني، ويتلخص الموقف في خطوات سياسية كانت كفيلة بأن تشرح للطرف الإيراني المتوجس ما هو مقبل عليه مع الحاكم السبعيني، تمهيداً لمفاوضات مفترضة تتطلب إشارات حسن نوايا من الرجل الذي شهد توقيعه قبل خمس سنوات.
تلخصت هذه الخطوات في التراجع عن مواقف أقدمت عليها إدارة دونالد ترمب ضمن خطة الضغط الأقصى الذي اتخذته ضد الدولة الشرق أوسطية، أولها، كان التراجع عن فرض قيود على تحركات الدبلوماسيين الإيرانيين في بعثة طهران بالأمم المتحدة، والثاني، كان سحب طلب كانت قدمته الخارجية الأميركية في أغسطس (آب) 2020 إلى مجلس الأمن لتفعيل خاصية "سناباك"، التي تعني إلغاء الاتفاق النووي بالكلية، وإعادة فرض العقوبات الأممية، كما كان عليه الحال قبل توقيع الاتفاق.
تلك الخطوات كانت رسائل عملية، ترافقت مع إعلان علني قدمه بايدن منذ حملته الانتخابية، وما تلى فوزه بالتزامه الاتفاق الموقع مع إيران كسبيل وحيد للحد من سباق تسلح نووي في المنطقة.
كيف استقبلت طهران الرسالة؟
لا شك أن إيران التقطت الظرف الذي فتح في غرفة الإيجاز الصحافي في البيت الأبيض، إلا أن رسالة الرد وفق السياقات الزمنية لا تبدو أنها أتت كما كان يتمنى بادين. فبعد أن دشن أنتوني بلينكن العهد الدبلوماسي الجديد بمؤتمر صحافي أعلن فيه موقف بلاده من الصفقة النووية والتزام بلاده العودة إليه بشرط عودة إيران إلى التزاماتها وفقه، شهدت جبهات عديدة تشارك فيها إيران بشكل مباشر أو غير مباشر تصعيداً كان لافتاً في توقيته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فبالنظر إلى الجبهة اليمنية، تشهد مأرب، آخر معاقل الشرعية اليمنية في الشمال تصعيداً غير مسبوق منذ شهر تقريباً، بعد أن قررت ميليشيات الحوثي انتزاع المحافظة، وهي التي تتلقى دعماً مباشراً من طهران، بحسب اتهام عواصم إقليمية ودولية.
تصعيد مقابل يقوده الحوثي تجاه الحدود السعودية، عن طريق الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية التي باتت جزءاً من يوميات الحرب الدائرة في جنوب الدولة الخليجية الكبيرة، بعد أن باتت دفاعاتها الجوية تتعامل معها بشكل مستمر منذ أكثر من شهر، أي بعد إعلان السياسة الشرق أوسطية لـ"واشنطن الجديدة".
هذا التصعيد الحوثي في سياقه الزمني، يفضل البعض ربطه بالشق الثاني من إيجاز بلينكن، الذي تحدث في ذات المؤتمر عن ضرورة وضع حد للمعاناة الإنسانية في اليمن عن طريق الدفع بعملية سياسية لإنهاء الحرب، طاولة مفاوضات أخرى من ضمن الطاولات الكثيرة التي تملكها الدبلوماسية الأميركية تود نصبها بين طرفي الصراع اليمنيين.
السباق إلى الطاولات
السؤال لن يكون عن مبررات هذا التصعيد وعلاقته بالطاولات التي بدأ صرير قوائمها يُسمع في الأرجاء، فالسياق الزمني يفسر خطوات حلفاء إيران على أنها رغبة في التحضر للمفاوضات التي تعد بها الولايات المتحدة بأكبر كم ممكن من أوراق اللعب.
فبدلاً من التفاوض على صنعاء وصعدة، والحديدة بمينائها الاستراتيجي، يدفع الحوثيون للتمهيد الى مفاوضات مقبلة من خلال التصعيد في هجماتهم على مأرب، ومطار أبها، وخميس مشيط طيلة الأسابيع الماضية.
لكن السؤال الذي يبرز هنا، هو هل يمكن أن تكون الخطوات الحوثية التي يتجهز بها للمفاوضات اليمنية منفصلة عن أي حراك سياسي إيراني للتحضير لمفاوضاتها المرتقبة حول الملف النووي؟
فعلى الرغم من أن الحوثي كان يبدي استقلالاً نسبياً بقراره عن إيران في فترة سابقة، بات اليوم بعد أن صار الدعم العسكري من حلفائه الدوليين جزءاً من أسباب بقائه أكثر التصاقاً بمصالح حليفته حتى لو على حساب المصلحة الوطنية اليمنية، وهو ما كان جلياً في حادثة استهداف معامل النفط الخاصة بـ"أرامكو" السعودية في سبتمبر (أيلول) 2019، عندما أصر على تبني القصف في حين كانت كل الاتهامات الدولية تشير إلى قدوم المقذوفات من الشمال، أي من إيران رغم نفيها التورط بالهجمات.
وبناء على هذا التحول في القرار السيادي للجماعة التي تسيطر على شمال اليمن، لا يقبل المراقبون للمشهد اليمني أي تفسير لسلوك الحوثي بمعزل عن مصالح طهران، كما يقول بدر القحطاني، الصحافي المتخصص في الشأن اليمني في جريدة "الشرق الأوسط" اللندنية في تحليل سلوك الحرب الحالية على تخوم مأرب "من الممكن قراءة التصعيد الحوثي العسكري على مأرب بأنه سعي لموقف تفاوضي أفضل في المحادثات اليمنية المرتقبة، لكن إرسال مئات المقاتلين أسبوعياً يذهبون أفراداً ويعودون جثثاً ومصابين سواء من مأرب أو بعض جبهات الجوف؛ لا يمكن أن يكون مكسباً تفاوضياً للجماعة، لأن مقارنة مستوى المكاسب بحجم الخسائر البشرية لا يمكن تحويله منطقياً لأي مكتسبات سياسية ممكنة"، إذ ينخر ذلك من رصيد شعبية حكومة الأمر الواقع في مناطق سيطرته، بحسب الصحافي السعودي.
ويفسر القحطاني هذه الخطوات بعد تقليله من احتمال أن يحقق ذلك مكسباً على صعيد المفاوضات الوطنية اليمنية، بأنه أوراق في مفاوضات الطاولة المجاورة "المشهد في رأيي يشي بأن التصعيد ليس قراراً حوثياً بل يندرج ضمن مناورات طهران، ضمن حزمة تصعيدية إيرانية بجوار اتجاهها لرفع التخصيب والتهديد بوقف إجراءات التفتيش الدولية وخلافها"، إذ يفسر إصرار الميليشيات على خسارة هذا الرصيد البشري وربما الشرعي على أنها خطوة لمصلحة طرف لا يتضرر بشكل مباشر جراء ذلك.
هذا المنحى الذي تأخذه قراءة المشهد اليمني والمنحنيات الحادة في طريق الوصول لسلام دائم في البلد الذي تمزقه الحرب منذ ست سنوات، يهدد بتكرار سيناريو مفاوضات الكويت كما يقول القحطاني "أي ربط بين الملف الإيراني والملف اليمني يعني تكرار ما حصل في الكويت عام 2016، بعد أن رفض الحوثيون التوقيع على الاتفاق على الرغم من موافقتهم"، الأمر الذي يفسره بأنه "تدخل إيراني في مسار السلام"، وهو ما يضع مصير 30 مليون مواطن على محك الحسابات الإقليمية.
يمن الطاولة أم يمن الورقة؟
حجم الحديث عن ضرورة إيجاد حل سلمي في اليمن لا تتواكب معه خطوات بذات الزخم، إذ لم تقدم القوى الدولية الراعية لهذه المفاوضات على رأسها الولايات المتحدة أي مبادرة لتأسيس قاعدة سوى إبداء حسن نوايا بإزالة اسم الحوثي من على قوائم الإرهاب.
إذا أكد محمد العامري، المستشار في مكتب رئيس الجمهورية اليمنية، أن الحكومة الشرعية بوصفها طرفاً أصيلاً في أي حل مقبل للبلاد لم تتلقَ أي رسالة حول برنامج عمل للبدء في عملية وطنية تفاوضية.
وأضاف عند سؤاله عن موعد مفترض لبداية العملية السياسية "مشهد الأحداث اليوم لا يشي بفرصة حوار مقبلة، فما يحدث من تصعيد على مأرب لا يمكن أن يؤسس عليه أي عمل سياسي، وليونة الخطاب الدولي تجاهه لا تعطي مؤشراً عن رغبة حقيقية في البدء بعملية سلام في الوقت الحالي".
الأمر الذي أكده مصدر حكومي يمني، وعضو في الوفد التفاوضي الخاص بالشرعية في جولات الكويت وستوكهولم، إلا أنه يملك سبباً آخر للتشاؤم "حتى لو عقدت المفاوضات ففرص الوصول إلى حل بمعزل عن المصلحة الإيرانية لا يبدو ممكناً وفقاً لتجارب سابقة"، مضيفاً "منذ مفاوضات الكويت كانت كتلة الانقلابيين تتكون من جناحين، الجناح الحوثي، والجناح المؤتمري، هذا التقسيم خلق توازناً داخل الكتلة بين الأول المرتبط بمصالح خارجية، والثاني، الذي كان معادياً للشرعية، لكنه أكثر ارتباطاً بالقضية المحلية"، إلا أن كتلة صنعاء طرأ عليها تغيير في الآونة الأخيرة بعد تراجع دور المؤتمرين في الحياة السياسية الأمر الذي وضع القضية برمتها في يد الجناح ذي الارتباطات الخارجية، بحسب المصدر.
وسعت "اندبندنت عربية" للتواصل مع الحوثيين للحصول على تعليق حول الاتهامات التي وجهت لهم من قبل أطراف تابعة للشرعية، وحصلت، أخيراً، على رد مقتضب من المكتب الإعلامي للجماعة نفت فيه وجود أي علاقة بين التصعيد على مأرب والسعودية وأي عملية سياسية أخرى سواء داخلية أو خارجية.
وأوضح أن معركتهم الأخيرة ذات أبعاد عسكرية بحتة من أهدافها "تحرير بقية الأراضي اليمنية".
في حين، أكد مكتب المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن، في حديثه لـ"اندبندنت عربية"، أنه ملتزم بمنع أي تداخل بين العمليتين، لكون ذلك ضرورة لخلق سلام يمني حقيقي ينعكس على الشعب اليمني.
وأضاف المكتب "تلتزم الأمم المتحدة بعملية سياسية شاملة بقيادة يمنية يملكها اليمنيون لإنهاء النزاع في اليمن، إذ ينفذ المبعوث الخاص وفريقه دبلوماسية مكوكية ويسعون للحصول على دعم المجتمع الدولي ودول المنطقة للتوصّل إلى حلّ سياسي سلمي في اليمن"، لكن رغم الدور المنتظر من الفاعلين الإقليميين "يجب أن يكون مستقبل اليمن بين أيدي اليمنيين فحسب، ولهم القدرة على اتخاذ قرار بوقف العمليات العسكرية والتوجه إلى طاولة المفاوضات للتوصل إلى اتفاق سلام يلبي تطلعات الشعب اليمني بشكل خاص".
قنوات جديدة
أما إيران، فتصر على عدم علاقتها بالميليشيات اليمنية على الرغم من أن ارتباطها بالأزمة المندلعة منذ 6 سنوات بات محط اعتراف دولي.
إذ فتح المبعوث الأممي الخاص باليمن مارتن غريفيث قناة جديدة في العملية السياسية اليمنية، بزيارة إلى طهران مطلع فبراير (شباط) الماضي لبحث دور إيجابي لحليف الحوثي في الدفع بالملف السياسي، وهو ما يعني أنها باتت معنية بالقضية اليمنية وفاعلة فيها باعتراف دولي، ما يعقد فرص فصلها عن الطاولتين المرتقبتين في الشرق الأوسط.
إلا أن الرغبة الأميركية الجديدة في إيجاد نهاية لحرب السنوات الست عزز فرص المسار السياسي لإنهاء النزاع، فقد باشرت الولايات المتحدة ودول أوروبية فعلاً فتح قناة أخرى بشكل غير معلن مع طرفي الحرب، فبحسب مصدر دبلوماسي غربي رفيع نجحت عن طريقها في تحقيق اختراق في جدار الخلاف بتأسيس وثيقة يتم على إثرها البدء في مفاوضات سياسية مباشرة بين الشرعية والحوثي.
وأكد المصدر في هذا الصدد "تم التواصل مع وزير الخارجية اليمني أحمد بن مبارك، والناطق باسم الحوثيين محمد عبد السلام، واشترط الأول وقفاً شاملاً لإطلاق النار، في حين اشترط الثاني، فتحاً كاملاً لمطار صنعاء وميناء الحديدة"، وباتت تلك الشروط اليوم وثيقة نهائية لتأسيس حوار مقبل تتضمن الحد الأدنى من مطالب الطرفين على أن لا يشترطوا ماهو أكثر من ذلك قبل الجلوس على الطاولة.
وأضاف "يقود المبعوث الخاص باليمن مارتن غريفيث بمساعدة غربية مباشرة جهود إقناع كل طرف بشروط الآخر ضمن الميثاق لإبداء حسن النوايا والانخراط بعدها في العملية التفاوضية، وهو يعتقد أنه يملك فرصة مواتية لفعل ذلك".
هذه المعلومة يمكن أن تضع تفسيرا داخليا بجوار التأثير الإيراني، لدوافع التصعيد الملفت للحوثي خلال الأسابيع الماضية، فعلى ما يبدو يسعى الطرف الذي يسيطر على صنعاء إلى إعطاء قيمة تفاوضية أكبر لامتلاكه ورقة "وقف إطلاق النار" في وثيقة الحوار التي باتت تحت رعاية دولية، وإن كان بشكل غير علني.
التصعيد بوصفه سلوكاً تفاوضياً
بجوار آراء المعلقين يمكن وضع المشهد اليمني في إطار مقارنة إقليمية لتفكيك الرسائل العسكرية، إذ شهد العراق شكلاً من أشكال التصعيد الذي اتهمت فيه الولايات المتحدة وسلطات كردستان الجانب الإيراني بالوقوف خلف استهداف مطار أربيل في منتصف فبراير الماضي، وأسفر عن إصابة جنود ومدنيين أميركيين.
وعلى الرغم من إنكار إيران علاقتها بالميليشيات العراقية العقائدية التي تقف وراء الهجوم، فإن أطرافاً دولية ومحلية تصر على ربطها بطهران، كما هو الحال مع الباحث في الشأن العراقي رعد هاشم، الذي يقول "تحاول الإدارة الأميركية نقل المواجهة ولو بشكل مؤقت من الساحة العراقية إلى سوريا، وهذا كان جلياً في رد واشنطن على قصف أربيل بقصف مقابل في سوريا استهدفت من خلاله بنى تحتية للميليشيات الإيرانية، إلا أن الساحة السورية غير محبذة لطهران لأنها غير متماسكة وتحتاج إلى الهدوء في الفترة الحالية؛ لذلك لا يكون الرد هناك بل في العراق"، وحول علاقة ذلك بارتباط الميليشيات بطهران، فإنه يرى أن "هذا السلوك يراعي مصالح طهران في توزيع الضغط ونقاط المواجهة، لذلك هو مرجح بالنسبة لي حول علاقة سلوك الميليشيات الولائية العراقية بالجمهورية الإيرانية".
ويملك رعد ربطاً هو الآخر بين التصعيد العراقي والمفاوضات النووية "طهران تعلمت من تجربة المفاوضات السابقة أن عناصر ملحقة كنفوذها وسلوك أذرعها في المنطقة، هي أوراق تعزز موقفها التفاوضي، لذلك ليس من المتوقع أن ينعكس اللين الذي يقدمه بايدن على سلوكها قبل المفاوضات"، بوصفه ضرورة لمفاوضات ناجحة بالنسبة لها، بحسب الباحث العراقي.
بايدن، مفاوض أعزل أم سياسي مكبل؟
هذا السياق الذي يفسر المستجد في المشهد السياسي والعسكري في الساحة الشرق أوسطية بأنه الطريقة الإيرانية للتعبير عن استعدادها للمفاوضات، يطرح تساؤلاً في المقابل عن مدى استعداد الجانب الغربي له.
بايدن الذي قدم تنازلاً كاملاً فيما يتعلق بورقة العقوبات بتعهده برفعها كاملة، إضافة إلى تعطيله الخطوات التصعيدية التي كان يفترض بها أن تفرض وفق خطة سلفه، لا يبدو أنه لا يزال يملك ما يكفي من الأوراق لطرحها على الطاولة في حال نصبت، بعد أن قدم كل ما لديه قبل الجلوس حولها.
ويفسر الدكتور إدموند غريب، الأكاديمي والكاتب في الشؤون الدولية، هذا المأزق الذي تعيشه إدارة الرئيس الجديد في المفاوضات المقبلة على شقين، الأول محلي، والآخر دولي، إذ يقول "مشكلة السياسة الأميركية الخارجية أنها مرتبطة بارتداداتها الداخلية بشكل مباشر، فالاتفاقية الإيرانية بالنسبة لأميركا تتداخل مع تحديات محلية، إذ لا يملك البيت الأبيض المرونة في إجراء تصعيد عسكري مقابل لتحقيق مكتسبات تفاوضية كما تفعل إيران؛ لأن بايدن لا يريد مصادمة المشرعين، فالكونغرس الذي وقف في وجه ترمب بسبب أخذه خطوات عسكرية من دون العودة إليه، لن يتوانى عن أخذ موقف مماثل من بايدن"، وهو ما لا يريده الرئيس الأميركي لحاجته للتوافق مع النواب فـ"القضايا الداخلية التي يحتاج فيها إلى تمويل ضخم من الكونغرس كملف مكافحة كورونا تحدد مستقبله السياسي"، ما يجعله مضطراً لأن يكون حذراً من أي خطوة عسكرية تجعل المشرعين يصطفون ضده كم حصل مع سلفه، بحسب غريب.
سبب آخر يرى المحلل المتابع للشأن الأميركي، أنه يدفع حاكم البيت الأبيض إلى التمسك بإنجاح الاتفاق النووي بأي ثمن "النخبة السياسية الأميركية تدفع إلى ضرورة تخفيف التوترات في المنطقة قدر المستطاع وإحلال الخيارات السياسية نيابة عنها بدلاً من الانغماس أكثر في أزماتها، لأن موعد مغادرة الشرق الأوسط بات ضرورياً لصالح المعركة الآسيوية التي تشكل أهمية قصوى بالنسبة لأولويات أميركا الحالية"، ما يجعل من الاتفاق النووي بعيوبه حلاً لمنطقة أثبتت فشلها في قبول الحلول الجذرية.
لكن على الرغم من محدودية خياراتها لا يعتقد غريب أن بايدن سيكون أعزلَ على طاولة المفاوضات، إذ يملك بعض الأوراق من تركة الإدارة السابقة فـ"إيران في مطالبتها برفع العقوبات كشرط للعودة إلى التزاماتها النووية هي في الحقيقة تتحدث عن نوعين من العقوبات، الأول، هو ما كان مفروضاً عليها قبل اتفاق 5+1 الذي كان يفترض أن يرفع بشكل تدريجي خلال سنوات بعد التوقيع إلا أن ترمب عطله بانسحابه في 2018، وهو ما وعد بايدن برفعه في حال التزام الأخيرة بما عليها"، لكن في المقابل يوجد عقوبات خارج إطار الاتفاق "هناك ما يقارب الـ800 عقوبة فرضتها الإدارة السابقة ضمن خطة الضغط الأقصى التي مورست بعد الانسحاب، لا يبدو أن بايدن سيتراجع عنها بسهولة، وقد تكون ورقته الرئيسة في أي مفاوضات مقبلة بغرض تعديل الاتفاق وفق الاشتراطات الجديدة".
وعلى ما يبدو، فإن الخيارات لوضع حد لحالة اللا استقرار في المنطقة باتت بين السيء والأكثر سوءاً، بالنظر إلى ما تتسبب فيه الدعوة إلى مفاوضات وصنع مسار سياسي للوصول للسلام على الحالة الشرق أوسطية، فلم يعد من الواضح ما إذا كانت الدعوة إلى مفاوضات حلاً لأزمة أم دافعاً لمفاقمتها بغية الحصول على مكتسبات تفاوضية.