ذات مرة، تحدث الفلكي الأميركي الشهير كارل ساجان (1934-1996)، قائلاً "إن حياة الإنسان أغلى من أن تتقيد بكوكب واحد، وكما أن أجناس الحيوان تزيد من فرص بقائها بالانتشار والهجرة إلى مناطق مختلفة، فإن على البشرية أن تستكشف في نهاية المطاف عوالم أخرى، من أجل مصلحتها الخاصة على أقل تقدير".
أما الصحافي المتخصص في شؤون الفضاء وبرامج الفضاء الروسية، جيمس أوبرج، فقد علق على ما يمكن حدوثه من سيناريوهات فناء البشرية قائلاً "قد يأتي يوم نشهد فيه 11 سبتمبر آخر على مستوى الفضاء الخارجي للأرض، وسنتعجب يومها من أن الأجيال السابقة لم تلتفت بجدية لهذا الاحتمال وتقوم بالجهود المطلوبة لإنقاذ البشرية مسبقاً".
هل باتت هناك ضرورة حتمية لاستيطان الفضاء، كخطوة استباقية لما يمكن أن يحدث للأرض ومن عليها؟
عن سيناريوهات فناء البشر
المنطلق الأول للبحث عن حياة للإنسان خارج الكرة الأرضية هو الخوف من فناء البشرية لسبب، أو لآخر.
والشاهد أن الأسباب قد تعددت في العقود الأخيرة، منها ما هو موصول بالبشر، بمعنى أنهم هم من يمكن أن يكتبوا شهادة وفاتهم بأنفسهم، ومنها ما هو خارج عن إرادتهم.
تبدو ساعة يوم القيامة، وفي آخر قراءة لها، على بعد عشر ثوانٍ من منتصف الليل النووي، بمعنى إمكانية استخدام الأسلحة النووية في معارك تفني البشر والحجر، وتقود البشرية إلى شتاء نووي كفيل بجعل الكرة الأرضية غير صالحة للحياة، وقد ظن الجميع أنه بانتهاء الحرب الباردة قد تجنبت الخليقة هذا السيناريو، لكنه يطفو على السطح الآن مرة جديدة.
ومن السيناريوهات التي يمكن للإنسان أن يتسبب فيها في حدوث دمار شامل على الأرض، يأتي سيناريو الحرب الإيكولوجية، تلك التي تشنها الطبيعة غضباً على من أفسد الأرض، وتسبب في الاحتباس الحراري، ذاك الذي جعل الكوكب الأزرق قنبلة موقوتة، وها هي كتل ثلجية بحجم لندن، تنفصل عن القطب الشمالي، ما يعني ارتفاع منسوب المياه، ومن ثم غمر اليابسة، وتهديد حياة الملايين.
أما السيناريو الخارج عن إرادة البشر فيتمثل في سلاسل الصخور والكويكبات، عطفاً على النيازك، وبقية الكواكب التي يرى العلماء أنها حكماً ستصطدم بالأرض ذات نهار، وكما فعلت بعضها قبل ملايين السنين، حين أهلكت كائنات حية مثل الديناصورات العملاقة، فإن السيناريو وارد أن يتكرر في حق البشر.
استيطان الفضاء وأهداف أخرى
يعنُّ لنا التساؤل: هل هناك أسباب أخرى تدفع البشرية للصعود إلى الفضاء واستيطانه؟
في أوج المواجهة بين القطبين الكبيرين في عام 1980، أي بين حلفي وارسو والناتو، كتب لويس هالي، من وزارة الخارجية الأميركية عبر مجلة "فورين بوليسي" يقول "إن استيطان الفضاء سينقذ البشرية في حال قيام حرب عالمية نووية".
في التوقيت نفسه، اقترح الكاتب الصحافي وليام باروز، وعالم الكيمياء الحيوية روبرت شابيرو، فكرة مشروع حمل اسم "تحالف إنقاذ الحضارة"، وقد كان الهدف منه هو إرسال احتياطي للحياة البشرية خارج الأرض، بحيث يمكن حال فناء الحضارة البشرية على الأرض، أن تتم إعادة غزوها وإعمارها من الفضاء.
على أن هناك من الذرائع التي لا تجعل فكرة الفناء شرطاً لاستيطان الفضاء، فهناك من يرى أنه من الضرورة بمكان أن تنشر الإنسانية العاقلة الحياة والجمال في الكواكب الخارجية، بمعنى ترقية تلك الكواكب الصامتة الحجرية، وجعلها مليئة بالحركة والنمو، وكل ما هو جميل، وهو رأي فلسفي أكثر منه واقعياً.
البراغماتيون من جهتهم يرون في الفضاء مصدراً لا ينضب عبر أطر متعددة، فهناك من يهتم بجني الأرباح من تصدير الطاقة الشمسية، عبر الأقمار الاصطناعية الخاصة، ثم التعدين على سطح تلك الكواكب، والاستفادة بالموارد الثرية هناك، فعلى سبيل المثال يمكن لغاز الهيليوم الموجود على سطح القمر، أن يحدث ثورة في عالم الانتقالات والحركة على كوكب الأرض.
وبجانب ما تقدم يبقى هناك سبب آخر يدفع لبذل الجهود لاستيطان الفضاء، وهو ذلك المتعلق بالتراكم المعرفي، وسبر أغوار الكون، بحثاً عن السؤال الذي لا يزال يشغل عقول البشر، وهو: هل نحن وحدنا الكائنات العاقلة على هذا الكوكب أم هناك غيرنا؟ مع الأخذ في عين الاعتبار أنه إن كنا وحدنا فهذه إشكالية، وإن كانت هناك كائنات أخرى فتلك معضلة، وفي كل الأحوال يبقى البحث العلمي في الفضاء الخارجي، هدفاً في حد ذاته.
السفر إلى الفضاء عملية معقدة
أول علامة استفهام ستقابل الباحث عن استيطان الإنسان للفضاء الخارجي، هي كيف يمكن للبشر الوصول إلى الكواكب المرشحة لحياة إنسانية؟
مؤخراً، كان الشاب المثير للتفكير العجيب والغريب، إيلون ماسك، يتحدث عن نقل مليون إنسان إلى كوكب المريخ، بعد أن يقوم البشر بتدفئة الكوكب البارد بانفجارات نووية تجري على سطحه.
ولعل طريق الإنسان إلى المريخ، لا بد أن يمر بتطوير البشر لصواريخ عملاقة، قادرة على حمل سفن فضائية، تحمل البشر على سطحها، لنقل الحياة إلى الكوكب الأحمر.
تبدو أفكار ماسك حتى الساعة ضرباً من ضروب الخيال العلمي، وتحتاج إلى تطوير جهود علمية تستغرق ربما عقود من الزمن، لكن يبقى الأمل قائماً، لا سيما أن العقل البشري لا يعجزه شيء، فقد اخترع الصواريخ في القرن الحادي عشر في شكلها البدائي، ووضع قوانين الحركة في القرن السابع عشر، وقد وصف إسحاق نيوتن سنة 1680 العمل المطلوب من الصاروخ، ليرفع جسماً إلى الفضاء، واستغرق الأمر ثلاثة قرون بعد صياغة قانون الحركة الثالث لنيوتن، ليدرك الإنسان أنه باستخدام هذين الأمرين، يمكن أن يجعل الغازات الساخنة تندفع من مؤخرة الصاروخ فتقذفه إلى الأمام.
هل الفضاء صالح لسكنى البشر؟
الثابت أنه مهما يكن من أمر الصواريخ وصعوبة الوصول إلى الفضاء الخارجي، وارتياد الكواكب القريبة، فإن التساؤل الجوهري الذي يقابل الباحث: هل الأجواء خارج كوكب الأرض صالحة لحياة الإنسان؟
المؤكد أنه إن كان السفر في حد ذاته عملية محفوفة بالمخاطر، فإن البقاء خارج الأرض، يبدو خيالياً، على صعيد الملايين التي يحلم بها إيلون ماسك، ذلك أن كل ما قدر للبشرية حتى الساعة فعله، هو بناء المحطة الفضائية المدارية، والتي تبعد عن الأرض 360 كيلومتراً فقط، وتحتاج إلى إعادة إمدادها بالموارد بين الحين والآخر.
في هذا السياق، تطفو التساؤلات العلمية المرتبطة بالتكوين الفسيولوجي لجسم الإنسان، فمنذ ولادته يتعاطى مع الجاذبية الأرضية، تلك غير الموجودة في الفضاء الخارجي، أي حالة انعدام الجاذبية.
هنا يقول العلماء إن تلك الحالة تتسبب في تقلص حجم العضلات، بل وحتى قد يصل الأمر إلى أن يفقد رواد الفضاء 22 في المئة من نسبة الدم لديهم، بسبب تقلص إنتاج كرات الدم الحمراء، ما يتسبب في إضعاف عضلة القلب، ويؤثر أيضاً على العظام بشكل كبير، ويتسبب في الخسارة لكثافة العظام.
على أن السؤال الأكثر عمقاً، هل يمكن أن ينجح التزاوج البشري على سطح خارج الكرة الأرضية؟
الجواب يبقى محل بحث طويل، وقد حاول السوفيات في ثمانينيات القرن الماضي، إقناع رائدة فضاء، تم إطلاعها وهي خارج الأرض على هذا الغرض، أي التزاوج مع زميل لها، لكنها رفضت الفكرة، الأمر الذي عرضها لتعسف شديد.
لكن في كل الأحوال هناك من علماء "ناسا" من يخبرنا بأنه لو ولد طفل في الفضاء الخارجي، لجاءت عظام قدميه مقوسة، ومشوهة، بسبب انعدام الجاذبية، التي تسهم في انتصاب عظام القدمين بشكلهما المعروف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المريخ وأنسب مكان للبشرية
تستمر التساؤلات الحائرة في كل الأحوال، على الرغم من صعوبات الحلم، ومنها ما هو أقرب وأنسب كوكب لسكنى بني البشر خارج الأرض؟
عند البروفسور ماتيو سيريوتي، المحاضر في هندسة الأنظمة الفضائية في جامعة غلاسكو، فإن المريخ هو الكوكب الأمثل للعيش في مجرتنا الشمسية.
هنا يدرك المرء السبب وراء الاهتمام الفائق بالمريخ، وإرسال العلماء أكثر من مسبار جهته، منها ما يدور حوله، ومنها ما نجح في الهبوط على سطحه كالمسبار الأميركي "بيرسفيرانس".
يحدثنا كريس ماكاي، عالم الكواكب بوكالة ناسا الفضائية، عن أنه قد سئم من كوكب المريخ، ولم يعد ذلك الكوكب الأحمر المغطى بالأتربة يستهويه، كما كان في السابق، ويقول "كنت مغرما بهذا الكوكب إلى أقصى درجة، والآن قررت أن أصرف نظري عنه وأطارد حلما آخر، يحمل كل المقومات التي طالما كنت أبحث عنها".
هل وجد ماكاي بديلاً عن المريخ لإقامة مستوطنات بشرية؟
يبدو أن ذلك كذلك بالفعل، ويأمل الآن في أن يكون "إنسيلادوس"، هو البديل الملائم بالفعل، وهو قمر مغطى بقشرة جليدية يدور حول كوكب زحل.
كوكبان مرشحان لسكنى البشر
بجانب ما تقدم، فإن قائمة نشرها موقع الفضاء الأميركي، حوت أسماء وبيانات لكواكب قريبة من الأرض، قد تكون مناسبة في المستقبل لأن تتحول إلى بيئة سكنية ملائمة للبشر، ومنها:
ـ "جليسي 832 سي"، ويصنف بأنه ضمن مجموعة "الأرض العملاقة"، التي تقع خارج المجموعة الشمسية، وتفوق كتلتها كتلة الأرض بفارق كبير، وقد يكون لهذا الكوكب درجات حرارة تشبه الأرض مع تحولات موسمية كبيرة، ويعتقد أنه يمكن أن يصبح صالحاً للحياة، لكن إذا كان يتمتع بجو حار للغاية مثل كوكب الزهرة، لن ينجح الأمر بالنسبة للبشر.
ـ "ترابيست 1 جي"، وهو كوكب يبعد نحو 40 سنة ضوئية في كوكبة الدلو، وهذا الكوكب هو نحو 10 في المئة أكبر من كوكب الأرض، وخارج المجموعة الشمسية، ويمكن أن يكون صالحاً للحياة كما صنفه العلماء.
حلم الفضاء والمسيرة الطويلة
ويبقى التساؤل: هل حلم سكنى الفضاء قابل للتحقق؟
بحسب ماتيو سيريوتي، يحتاج الخيال لكي يبقى واقعاً، إلى المضي في مسيرة طويلة، من أجل البحث عن فكرة إقامة المسكن الملائم للبشر، ومن ثم البيئة المناسبة التي تستطيع الحفاظ على الضغط الجوي، وتحافظ على كمية الأكسجين في الهواء، وعلى الحرارة، وتحمي السكان من الإشعاعات، وكل هذا يعني أنه لا بد من نقل هياكل كبيرة وثقيلة من الأرض إلى الفضاء، وهو أمر يبدو شبه مستحيل حتى الساعة.
ما البديل إذن؟
يستخدم الباحثون في شؤون الفضاء تعبيرا مثيراً، وهو حمل "صندوق العدة" إلى الفضاء، من أجل تصنيع مسكن باستخدام الموارد المتوفرة والمكتسبة.
هنا تلعب فكرة الطابعات ثلاثية الأبعاد دوراً متقدماً في إمكانية تحويل المعادن الموجودة في التربة إلى هياكل فيزيائية، ومن الواضح أن وكالة ناسا للفضاء، تسعى في طريق تحويل الفكرة إلى واقع، فقد أرسلت بالفعل طابعة ثلاثية الأبعاد إلى محطة الفضاء العالمية، لتثبت أنها تعمل في مناطق انعدام الجاذبية، كما قامت شركة خاصة باستخدام الطابعة ثلاثية الأبعاد لمواد خام متوفرة في عينة مادة "الإسترويد"، الغنية بالمعادن والموجودة على الأرض.
ستحتاج البشرية هناك إلى المياه الصالحة للشرب، الأمر الذي يستدعي أول الأمر، وأهمه أن يكون في الكوكب المرشح للسكنى به مصادر مياه، ويمكن استخراجها.
أما الأمر الأسهل خارج الأرض، والذي قد ييسر من مهمة البشر، فهو وجود الطاقة بوفرة، من خلال الألواح الضوئية التي تعمل على الطاقة الشمسية.
لا تنقطع التساؤلات، ومنها هل استيطان الفضاء عمل فردي لدولة واحدة بعينها، أم أنه يتوجب أن يكون مشروعاً أممياً تشارك فيه كل دول العالم المتقدم بخبراتها؟
حتى الساعة، تبدو المحاولات فردية، بل إن المخاوف تتعاظم يوماً تلو الآخر، من أن يكون الحديث عن الفضاء بهدف عسكرته، أي جعله آلية من ضمن آليات المواجهة العسكرية المسلحة على الأرض.