كيف يمكن تفسير صدور ست ترجمات عربية جديدة لرواية "مزرعة الحيوانات" للكاتب البريطاني جورج أورويل خلال عامي 2019 و2020؟ وبعض هذه الترجمات وُزعت هذا العام جراء تداعيات وباء كورونا على عالم النشر العربي (والعالمي طبعاً) وتأثيره السلبي على التوزيع. هذه الظاهرة لم يشهدها عمل روائي في حقل الترجمة المتنافسة على اصطياد الروايات الرائجة، ونادراً (جداً) ما عرفها بلد يملك أعداداً كبيرة من القراء الذين يمكنهم أن يتسابقوا على شراء الروايات المترجمة، مثلما تم السباق مثلاً على روايات هاري بوتر أو روايات ستيفن كينغ وسواهما من الكتاب الأكثر مبيعاً. حتى رواية "مئة عام من العزلة" للروائي الشهير غبريال غارثيا ماركيز لم تبلغ هذا الرقم من الترجمات العربية، على الرغم من إقبال الدور على ترجمتها وقرصنة حقوقها وإقبال القراء على اقتنائها.
غير أن هذه الظاهرة في الترجمة المتلاحقة أو المتسارعة والنشر السريع، لا تبدو في العالم العربي طبيعية ولا صحيحة ولا حتى "صحية"، ولا تدل بالتالي على ازدهار الترجمة والنشر أو القراءة. هل يُفسر هذا السباق، على ضوء سقوط حقوق الكاتب البريطاني ووارثيه مع مرور الزمن، ما يخفف من عبء كلفة ترجمة الرواية ونشرها بلا تسديد الحقوق؟ من المعروف أن دور نشر عربية كثيرة لا تبالي بحقوق الكتاب العالمي والترجمة، فتقرصن وتسطو على الحقوق وتتجاهل أصحابها، عطفاً على أنها اعتادت أن تصور الكتب المطبوعة من غير أن تضطر إلى تنضيدها وإخراجها لتتخفف من كلفة النشر. هذه القرصنة ما زالت رائجة جداً، لا سيما في الدول العربية التي لا تخضع لنظام حقوق الكاتب والترجمة، وحتى في بعض البلدان الخاضعة للنظام وفيها يتدبر "القراصنة" والمزورون أمورهم بالسر وفي الخفاء.
ترجمات لا تتحاور
اما الطريف في أمر هذه الترجمات الست الجديدة وقليلها جيد، فهو رفعها عدد ترجمات رواية "مزرعة الحيوانات" إلى ست عشرة ترجمة في المجموع، وقد توزعت بين عواصم عربية عدة، منذ العام 1951، عام صدور أولى الترجمات هذه، في القاهرة عن دار المعارف وقد وقعها عباس حافظ. ثم توالت الترجمات الأخرى في القاهرة نفسها وفي دمشق وبيروت وعمان وبغداد والدار البيضاء وسواها، حتى بلغت مع الترجمات الجديدة رقماً لم تبلغه رواية أخرى. وبدت بعض الترجمات مسروقة أو منحولة من أخرى، أو ملخصة ومقتبسة، وثمة ترجمة لم تحمل اسم المترجم، لئلا يُفضح مرجع سرقتها.
يقول الشاعر "تي سي إليوت" إن ترجمة كتاب ما تحتاج إلى إعادة ترجمة كل عشر سنوات. قد تكون هذه المقولة صائبة وقد تكون عرضة للنقاش، ففي رأيه أن الترجمة تشيخ وتحتاج إلى مقاربة جديدة توافق تطور العصر. وإذا تم الأخذ بمقولة إليوت هذه، فهي لا تنطبق بتاتاً على ظاهرة ترجمة "مزرعة الحيوانات" إلى العربية. فمن الواضح أن المترجمين المتوالين على تعريب الرواية البريطانية لم يستفيدوا من الجهود التي بذلها قبلهم زملاؤهم في ترجمة النص، بل هم في معظمهم لم يعودوا إليها ليناقشوها ويقيموها ويكشفوا مكامن قوتها أو ركاكتها والمشاكل التي اعترضتها. هذا ما يبدو ظاهراً، ولكن قد يكون بعض المترجمين اتكأوا على ترجمات سواهم، ليعيدوا ترجمة النص انطلاقاً من الجهود السابقة والجاهزة. فكثر من المترجمين العرب "يسرقون" ترجمات سواهم ويُدخلون عليها مقداراً من التغيير أو "التعديل" ويوقعونها بأسمائهم.
لم يعمد ظاهراً أو علانية، أحد من مترجمي "مزرعة الحيوانات" إلى مراجعة الترجمات الأخرى أو الإشارة إليها أو مناقشتها. وربما هم راجعوها بالسر وأخذوا منها من غير أن يشيروا إليها. وهنا يمكن استثناء مترجم واحد هو الكاتب المغربي محمود عبد الغني الذي صدرت ترجمته عن المركز الثقافي العربي عام 2014. ففي مقدمته انتقد بعض الترجمات لا سيما ترجمة الكاتب العماني محمد عيد العريمي وأخذ عليها هنات كثيرة ومعيبة. ومما يقول عبد الغني في مقدمته، "إن إعادة ترجمة "مزرعة الحيوانات" ضرورة أدبية قصوى، فالنص لم ينتقل إلى العربية كما ينبغي لنص تبقى حاجتنا إليه ملحة". ويضيف، "الترجمات السابقة، مهما بلغ تقديرنا لها، لم تف بالغرض الترجمي المطلوب، لذلك نعتبرها تجريبا ترجمياً". في مثل هذا الحكم يلغي عبد الغني (قصداً أو من غير قصد) كل الترجمات التي سبقته والتي تمت حتى العام 2014، عام صدور ترجمته. هذا رأي جريء طبعاً وإن لم يقم على الإثبات والتعيين. لكن مشكلة ترجمة عبد الغني تكمن في اعتماده الترجمة الفرنسية في تعريبه الرواية، وهو إشار في المقدمة إلى بعض الترجمات الفرنسية وطبيعتها، ولم يتطرق إلى النص الإنجليزي الأصلي.
بل إن الدار لم تنشر اسم الطبعة بالإنجليزية التي تعد مرجع الترجمة، في مطلع الكتاب كما اعتادت أن تفعل مثلها مثل الدور الأخرى. وهذ يعني فعلاً أن الترجمة تمت عن لغة وسيطة هي الفرنسية، وهذا ما يفقد عمل محمود عبد الغني شرعيته، مهما اعتنى بالترجمة العربية. ولئن وصف عبد الغني الترجمات السابقة التي انتقدها بـ"التجريب الترجمي" فإن ترجمته توصف بالخيانة التي قد تكون جميلة. ولكن هل يمكن الكلام في حقل الترجمة عن "التجريب"؟ هذا خطأ فادح، فالترجمة إما أن تكون ترجمة أو لا تكون.
مترجمون كثر
مترجمون عرب كثر إذاً تصدوا لرواية "مزرعة الحيوانات" بدءاً من العام 1951 حتى العام 2020، وانطلاقاً من القاهرة التي كانت تتهيأ لحركة الضباط الأحرار أو حركة 23 يوليو 1952. مترجمون عرب يخضع تعداد أسمائهم لمقدار من الفوضى الزمنية أو التاريخية جراء الفوضى نفسها التي تعانيها حركة النشر العربي، فلا إحصاءات دقيقة لدى اتحادات الناشرين، ولا مرجعية ثابتة ولا دليل شاملاً، بل تخبطاً يزيد من فداحته عدم الاستخدام الصحيح لمواقع النشر على الإنترنت، وقد تحولت فعلاً إلى مواقع غير صادقة، تعتمد التزوير في الأرقام والتواريخ والعناوين. علاوة على النشر الحر، الفوضوي وغير الخاضع لنظام اتحادات الناشرين.
بعد الترجمة المصرية الأولى لـ"مزرعة الحيوانات" التي قام بها عباس حافظ وصدرت عن دار المعارف، تحضر أسماء هؤلاء المترجمين: شامل أباظة، صبري الفضل، أسعد الحسين، عبد الحميد عبد الغني، نبيل راغب، محمد عيد العريمي، عبد الكريم ناصف، رنا اسكندر، محمود عبد الغني. أما الترجمات الجديدة التي صدرت بين العامين 2019 و 2020 فهي تعود إلى، عبدالله عدوان (دار فاروس)، محمد حسين علاوي (دار الرافدين)، عبد الرزاق بلهاشمي (دار كلمات)، هبة فتحي (دار أم كيه)، مالك سلمان (دار الساقي)، إضافة إلى طبعة جديدة من ترجمة شامل أباظة وعنوانها "عالم تسكنه الحيوانات" (مكتبة الأسرة – القاهرة).
ترى ما الحافز الذي جعل المترجمين العرب "يتزاحمون" على تعريب "مزرعة الحيوان"، ودفع بالتالي دور النشر إلى التسابق على إصدارها؟ هل تتمثل الرواية واقع العالم العربي المأزوم المتخبط في الصراعات المتعددة الوجوه؟ هل تعبر عن حقيقة المرحلة الراهنة المعقدة التي يجتازها العالم العربي؟ هل القراء العرب هم في حاجة ملحة الآن لقراءة هذه الرواية السياسية التي كتبها جورج أورويل العام 1943 عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية وغداة صعود القبضة الستالينية في الاتحاد السوفياتي الذي كان حليف بريطانيا في الحرب ضد هتلر النازي؟
الحقبة الستالينية
هذه الرواية التي أصبحت من كلاسيكيات النصف الأول من القرن العشرين، رفضتها دور بريطانية عدة ومنها دار "فابر أند فابر" الشهيرة وكان يديرها حينذاك الشاعر الكبير "تي أس إليوت"، وقد وجد الرواية "غير مقنعة" في مضمونها لكنه اعترف بقوة لغتها. ولم تصدر الرواية إلا في 1945 عن دار صغيرة هي "سيكر أند واربرغ" وسرعان ما حققت أرقاماً مرتفعة في المبيع. كان رفض نشر الرواية سياسياً، والسبب تحالف بريطانيا مع الاتحاد السوفياتي، ما يعني أن نقد الحكم الستاليني كان شبه ممنوع. وهذا ما دفع أورويل إلى الكلام حينذاك عن "الجبن الثقافي" في بريطانيا. والرواية التي تنتمي إلى الأدب الرمزي و"الإليغوري" القائم في عالم الحيوانات وعلى ألسنتها، تسخر من ستالين وتشوه صورته وتمسخه في صورة خنزر متسلط وتفضح خفايا حكمه الديكتاتوري. حتى أورويل نفسه، اعترف، هو الاشتراكي الديمقراطي المنتمي إلى حزب العمال المستقلين، أن الرواية تنتقد النظام الشيوعي الستاليني في الاتحاد السوفياتي وتستثني ماركس ولينين وتروتسكي. وعندما ترجمت الرواية إلى الفرنسية طلب أورويل من الناشر أن يضع لها عنواناً مختلفاً هو "اتحاد الجمهوريات الاشتراكية الحيوانية".
وهذا فعلاً ما رمزت إليه شخصيات الخنازير في الرواية. فهي تدور في مزرعة للحيوانات الأليفة، يملكها السيد جونز (يرمز إلى القيصر الروسي نيقولا الثاني)، الرجل القاسي الذي يعامل الحيوانات بصلابة ويحقّرها، فتثور عليه الخنازير بصفتها الأذكى بين جنسها، بقيادة خنزير عجوز يدعى ميجر (يرمز إلى كارل ماركس)، وتطرده من المزرعة مع رجاله وتستولي على "السلطة" وتضع مبادئ عامة منها، من يمشي على قدمين يعد عدواً، والصديق هو من يمشي على أربع أو يملك أجنحة. لكن مؤامرة يحيكها الخنزيران سنوبول (يرمز إلى تروتسكي) ونابوليون (ستالين) ضد الخنزير العجوز، ويطردانه من المزرعة ويشوهان صورته. ولكن سرعان ما ينشأ صراع بين الخنزيرين الثوريين ينتصر فيه نابوليون (ستالين) على سنوبول (تروتسكي) وينفيه خارج المزرعة، ويصبح الحاكم المستبد والديكتاتوري. وفي ظل سيطرته تصبح الخنازير صاحبة امتياز، حتى أنها لا تتورع عن تقليد الإنسان وارتداء الثياب، وتنغمس في الفساد وتستغل الحيوانات الأخرى مثل البقر والحمير والكلاب والهررة والدجاج والبط والخراف وحتى الجرذان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"مزرعة الحيوانات" رواية "أليغورية" بامتياز، فهي كما يعبر الناقد الفرنسي هنري مورييه "حكاية ذات طابع رمزي أو تلميحي" تقدم شخصيات هي كائنات بشرية أو حيوانية، تحمل صفاتها وأزياؤها وأعمالها علامات أو إشارات ذات دلالات، وتتبدى "الأليغوريا" في مظهرين، واحد مباشر وحرفي وآخر رمزي ذو معاني مختلفة. إذاً، رواية جورج أورويل تقرأ وفق هذين المستويين، لئلا تغدو حكاية خرافية (فابل) فقط أو حكاية رمزية وسياسية فقط. وقد قال أورويل إنه حاول في كتابه هذا، بوعي كامل، الدمج بين الهدف السياسي والفن الأدبي. وهذا ما يجعل الأمثولة السياسية القائمة على نقد (ونقض) النظام الستاليني، متدثرة بمظهر أدبي وأسلوبي راق. وهذا أيضاً ما جعل الرواية تحافظ على راهنيتها على الرغم من سقوط الحكم الستاليني والبلشفي. فالأمثولة السياسية يمكن أن تخاطب النظم الديكتاتورية المتسلطة في كافة تجلياتها. ومن المعروف أن الرواية التي استغلتها الاستخبارات الأميركية في حربها الباردة ضد الشيوعية والتي منعت في الدول الاشتراكية، لا تزال ممنوعة في الصين وكوريا الشمالية وكوبا.