للكتّاب، روائيين وشعراء، عادة حميدة هي كتابة المقالات وضمّها أحيانًا في كتاب. وغالبًا ما يكون ذلك على هامش صنيعهم الأساس. وإذا بدا في أحايين كثيرة أن تلك المقالات تفقد وهجها مع مرور الزمن نظرًا الى ارتباطها بسياق وحدث محددين، فإنها، في حال كان الكاتب "ملتزمًا" بمعنى التفاني في تكريس حياته للكتابة، تستمر بالتوهج وتستعاد لمرات كثيرة، وتنجو بذلك من السياق التاريخي الذي فرض كتابتها.
للمرء أن يعد طائفة من الكتّاب الذين ينطبق عليهم مثل هذا الكلام. وفي الأجواء السياسية المعيشة اليوم شرقًا وغربًا، بما فيها من صراعات و"ثورات" تتناول حيز عالم الواقع كما عالم الافتراض، تبدو مقالات الكاتب البريطاني جورج أورويل (1903-1950) صاحب "1948" و "مزرعة الحيوان"، في كتابه الصغير "الأسد وأحادي القرن: الاشتراكية والعبقرية الإنكليزية" (يشير عنوانه إلى الرمزين الظاهرين على شعار المملكة المتحدة حيث يمثل الأسد إنكلترا وأحادي القرن اسكتلندا) خصوصًا في الفصل الأول المعنون بـ England your England أي "أرض الإنكليز أرضك" أو"إنكلترا أرضك"، وكأنها لم تفقد شيئًا من وهجها، بل ويمكن اليوم قراءتها كما لو أنها بنت لحظتها، رغم أن لحظتها التي انصرمت لم تكن عادية، فقد كانت القنابل النازية تتساقط فوق أرض الإنكليز، فوق لندن في ما سمّي The Blitz.
مقالات خمسة تؤلف هذا الفصل، وتدور كلّها في فلك تمييز الهوية البريطانية، وبلورة تفردها في سياق تاريخي محدد : "أحلك الساعات" أي عام 1941 وتحديدًا بداياته، في خضم الحرب العالمية الثانية، حيث كان لا يبدو في الأفق غير المد النازي الألماني المجتاح لأوروبا.
تستعاد تلك المقالات اليوم عشية اتفاق - أو لا اتفاق - خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، البريكست، فهي تتكئ على أمرين مترابطين: تمييز الهوية البريطانية عن الأوروبية وتوطيد الشعور الوطني، ولكن من دون "بروباغندا" فجة ظاهرة، - تلك التي سادت لاحقًا عند الترويج للبريكست - فأورويل في النهاية هو الكاره الأكبر لكل شمولية وحكم يقومان على مراقبة "الأخ الأكبر" الكلية، وهو نصير الفقراء المهمشين المحرومين من أي صوت، وربما المتجاهل الأول لإرث الإمبراطورية الجلّي السافر.
ومن أجل الابتعاد عن "البروباغندا" وصعودها بالطبع في العصر الحديث، شدّ أورويل خيوط الوصف حول سمات الإنكليزي العادي البسيط الذي يحب حديقته ويأنف من الفلسفة، وهو قليل الموهبة الفنية، وكثير الولع بتزجية الوقت في هوايات سائدة، من أشهرها ربما ولعه بالميسر. ملامح وسمات نجدها إلى اليوم ظاهرة واضحة في بلاد الإنكليز: "لم يسبق لفن الرسم والنحت أن ازدهرا في إنكلترا كما ازدهرا في فرنسا. أمر آخر، وكما يقول الأوروبيون، فإن الإنكليز لديهم رعب من التفكير المجرد، إذ يشعرون أن لا حاجة لأي فلسفة أو نظرة منهجية إلى العالم. وليس هذا بسبب أنهم "عمليون" مثلما يحبون إدعاء ذلك لأنفسهم. على المرء أن ينظر فحسب إلى أساليبهم في التخطيط المديني وإمدادات المياه، تشبثهم العنيد بكل ما هو قديم ومزعج، طريقتهم في اللفظ المتحدية لأي تحليل، ونظامهم في الوزن والقياس المفهوم فقط لمكدّسي الكتب الحسابية، كي يدرك قلة اهتمامهم بالعملانية".
وإن بدا في كلامه الآنف، متبرمًا أو منتقدًا، فإن وضع الإنكليز بالمقارنة مع الأوروبيين في مقاطع أخرى، يدلل أكثر على تميّزهم وصفاتهم المخصوصة، ولا سيما على تفوقهم أيضًا. وفي كلام آخر، كلّما عُدّت الفروق بين الإنكليز وغيرهم، ازدادوا تفوقًا، مغذيًا أورويل بذلك "شوفينية مقبولة" لدى العوام لو صح التعبير.
التعبير صحيح مجازًا إذ يربط بالسياق أي الحرب العالمية الثانية، وسيصير مضخمًا بشكل مقيت لو قال به غير أورويل في سياق مختلف، كسياق "البريكست" مثلًا على لسان نايجل فاراج. العبرة كلّها في الابتعاد عن "البروباعندا"، عن التحشيد والتجييش، فالكاتب الأشهر لا يتردد مثلًا من ذكر طبع الإنكليز حيال الجيش والحرب والإمبراطورية، إذ يقول :"في زمن السلم، وحتى لو كان ثمة مليونا عاطل من العمل، فمن الصعب ملء صفوف الجيش المتأهب الصغير .... ليس لدى الشعب معرفة أو تراث عسكريان، وموقفه من الحرب دفاعي بشكل ثابت. ولا يمكن لأي سياسي الوصول إلى السلطة عن طريق الوعد ب "المجد" العسكري، ولم يكن مطلقًا لأي نشيد كراهية جاذبية بالنسبة لهم. ففي الحرب الأخيرة، لم تكن الأغاني التي ألفها الجنود عفويًا وغنوها، انتقاميةً، بل كانت خفيفة الظل، موهومة بالانهزامية، والعدو الوحيد الذي سمّته هو حضرة الرقيب". ويعرج على تجاهلهم برياء لـ وجود الإمبراطورية من دون أن يساوم لحظة على الهدف : التركيز على الهوية من خلال عَصَب الشعور الوطني لدى الإنكليز: "في اللحظة التي بدا فيها احتمال تعرّض إنكلترا للغزو، طلب أنطوني إيدن (وزير الخارجية في وزارة الحرب التي أنشأها ونستون تشرشل وقتذاك) عبر الراديو متطوعين للدفاع المحلي. فحصل على ربع مليون رجل في ألأربع والعشرين ساعة الأولى، وعلى مليون آخر خلال الشهر التالي".
من خلال الإتكاء على سمات الإنكليزي العادي وتصرفاته وطباعه، وحوادث من النوع المذكور سابقا، ينجح أورويل في ما هو سهل ممتنع: شد عصب الشعور الوطني من دون ذرة "بروباغاندا" ولا الاقتراب خطوة من خطاب السلطة، حتى لو كان موقفه تجاه ما يجري مطابقًا لها. فمن المعروف أن الخطاب العقلي لا يصل في ظل "البروباعندا" وعند قرع طبول الحرب، بيد أن الاتكاء على الناس، سماتهم وأحاسيسهم، يؤدي المهمة المستحيلة. مهمة يقوم بها الأدب الرفيع حقًا والملتزم بقيمٍ لا تخبو ولا تتبدل.
ويبقى أن المقطع الأشهر من الكتاب أدبي بالطبع، لكنه مفعم بالالتباس، مليء بضبابية يجلوها أورويل رويدًا رويدًا، كأستاذ في فن الإقناع عند أحلك الساعات :"بينما أكتب، يحلق فوقي بشر متحضرون للغاية، محاولين قتلي. هم لا يشعرون بأي عداوة ضدي كفرد، ولا أنا أشعر بذلك ضدهم. هم فقط "يقومون بواجبهم" كما يقال. غالبهم، لا شك لدي في ذلك، أصحاب قلوب طيبة، يحترمون القانون، ولا يحلمون البتة بارتكاب جريمة في حياتهم الخاصة. من الناحية الأخرى، لو نجح أحدهم في تمزيقي إلى أشلاء بقنبلة موضوعة في مكان مناسب، فلن ينام بشكل أسوأ جراء ذلك. إنه يخدم بلده، بلده الذي لديه سلطة تبرئته من الشر".
للكتّاب فضائلهم ولكلماتهم مملكتان: واحدة للمعرفة وأخرى للإقناع، تستعاد بعفوية عند أحلك الساعات، تحت إيقاع "بروباغاندا" رائجة، ترى مثلًا في الشعور الوطني أمرًا مرذولًا عفا عليه الزمن وتروج لأهدافها "الشريرة". وما زالت قراءة أورويل سواء في ساعة الحرب أم ساعة السلم قادرة على تفكيك عصرٍ معقد كعصرنا، كأفضل ما يكون.