هل حان الوقت كي نمنح فرصة لمايكل باي؟ فالمخرج الأميركي في عين منتقديه الكُثر يمثل مصدراً لنمط أفلام بغيضة تطفح بالذكورية والضجيج الفارغ وصاخبة على قدر ما هي غير مفهومة. بيد أن النقاد نادراً ما منحوا هذا المخرج فرصة عادلة لتناول أعماله بطريقة مختلفة.
قبل عشرين عاماً، عندما انطلقت عروض فيلم مايكل باي الذي، على مدى ساعات ثلاث، يدور حول واقعة "بيرل هاربور" الملحمية خلال الحرب العالمية الثانية ("بيرل هاربور" 2001)، توافق كثيرون من النقاد على أن الفيلم المذكور يمثل أحد أسوأ الأفلام التي شاهدوها في حياتهم. وقد وصف الناقد الأميركي البارز، روجر إيبيرت، أحد مقاطع الفيلم قائلًا "أربعون دقيقة من المؤثرات الخاصة المتكررة، محاطة بقصّة حبّ صادمة بتفاهتها... جرى إخراجها من دون حُلم أو رؤية أو إبداع". كما كتبت "نيويورك دايلي نيوز" بموازاة ذلك "قنبلة، لا أكثر ولا أقل"، وتابعت واصفة الفيلم: "متحجّر الأفكار وأجوف القلب. مشاهدته أشبه بـ "تلقّي حجر كبير ذي طرف حادّ على رأسك".
وعمل مايكل باي المتهور هذا، الذي دعمته ديزني Disney، كلّف ميزانية بلغت 145 مليون دولار أميركي، أي أقل من تكلفة فيلم تايتانيك Titanic لجايمس كاميرون التي بلغت 200 مليون دولار أميركي مصدرها "فوكس" Fox و"باراماونت" Paramount. بيد أن "بيرل هاربور" في هذا السياق بقي أكثر فيلم يُنفق عليه استديو إنتاج واحد. والعمل لم يكن عمل رسوم متحركة لاستديو "بيكسار" Pixar (استديوهات أميركية لإنتاج أفلام التحريك الواسعة الانتشار ذات النجاح التجاري العريض)، أو جزءاً من إنتاج متعدد الأطراف، بل فيلم حركة ودراما مبنية على شخصيات تُصوّر حادثة تاريخية حقيقية كان وقعها كارثيّاً على الولايات المتحدة الأميركية. كما أن الممثلين الشباب في الفيلم، بن أفليك، وجوش هارتنيت، وكايت بيكينسايل، لم يكونوا من الأسماء المعروفة والبارزة في هوليوود.
في هذا الإطار، حين شرع باي بصناعة فيلمه "بيرل هاربور" كانت هوليوود تشهد تغييرات. إذ ظهر في تلك السنة الفيلم الأول من سلسلة أفلام "هاري بوتر". كما أُطلق، في الصيف الذي سبق، الفيلم الأول من "الرجال إكس" X-Men. و كيفين فايج، مؤسس استديوهات "مارفيل سينماتيك يونيفيرس" Marvel Cinematic Universe، الشخصية التي ستسيطر على صناعة الأفلام الرائجة على مدى العقدين اللاحقين، كان بدأ لتوّه بمسيرته في إنتاج الأفلام. وبعد ذلك بفترة قصيرة انضم منتج أفلام مايكل باي، جيري بركهايمر، إلى شركة الإنتاج الأغلى، لكن التي حققت نجاحات ضارية، "بايريتس أوف ذا كاريبيان" Pirates of the Caribbean.
ولم يحصل أبداً بعد فيلم "بيرل هاربور" أن يقوم استديو إنتاج كبير واحد بإنفاق ذاك المقدار من المال على مشروع خائب من هذا النوع. لكن الأمر بالنسبة لمايكل باي مثل مشروعاً نابعاً من قلبه. إذ إن المخرج كان سمع مرويات رهيبة على لسان ناجين من الواقعة (بيرل هاربور) وقرر تكريم ذكرى من سقطوا في المعركة. وقد تحدّث باي عن تلك الأحاسيس التي دفعته لتحقيق العمل. فقد كان مخرج "الأولاد السيئون" Bad Boys و"الصخرة" The Rock و"نهاية العالم" Armageddon يسعى إلى منح الجمهور صورة عامة "عن جوهر هجوم بيرل هاربور". بموازاة ذلك، كان المنتج بروكهايمر يأخذ المشروع على القدر نفسه من الجديّة. وعن ذلك قال الممثل بن أفليك "أكثر من أي شخص آخر فهم جيري (بروكهايمر) مقدار ما نحن مدينون تجاه الذين كانوا في بيرل هاربور. أعتقد أن اهتمامه كان يتركّز بالدرجة الأولى على أمر صناعة فيلم بطريقة صحيحة، وليس مجرد فيلم للاستهلاك السريع. فقد أراده عملاً وازناً تتردد فيه أصداء الحادثة ومتميزاً".
من هنا، كما تشير الملاحظات السابقة، جاء "بيرل هاربور" بمثابة محاولة غريبة، أو فيلماً صيفيّاً رائجاً يسعى إلى إرضاء الناجين من المعركة وهواة المشاهد الحربية والمؤرخين، وعلى قدر اهتمامه أيضاً بتوفير متعة للجمهور وتسليته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في هذا الإطار، وبالنسبة لأكثرية رواد صالات السينما من الجيل الشاب، فإن ما حصل في هاواي صبيحة يوم الأحد من ديسمبر (كانون الأول) 1941، طواه النسيان ولم يعد حاضراً. لكن بفضل الجهود التي بذلها كل من مايكل باي وجيري بروكهايمر، فقد تسنت لهم من جديد فرصة عيش تلك الوقائع من خلال الفيلم. على أن الهجوم الياباني على الأسطول الأميركي في بيرل هاربور دام لأقل من ساعتين، أي أنّه، بكلام آخر، استغرق وقتاً أقل من مدّة فيلم مايكل باي.
وقد قام باي وكاتب سيناريو الفيلم، راندال والاس، بابتكار شخصيات تستند إلى نماذج شخصيات حقيقية. إضافة إلى هذا، جاء والاس بالحكاية المتخيلة لصديقَي طفولة من ريف تينيسي انضمّا إلى القوات الجوية في الجيش الاميركي. رايف (بن أفليك) وداني (جوش هارتنيت)، الصديقان المقرّبان، اللذان يبذل كل منهما ما بوسعه من أجل الآخر، فيشكلان نموذجاً مثاليّاً لصورة البطل في أذهان الأميركيين.
واليوم بعد مرور عقدين لا تزال القصة حيّة. ندرك من بداية الفيلم أنّ اليابانيين قادمون. وبهدف توسعة إطار تركيزنا على ما هو أبعد من السفن الحربية الأميركية التي تغرق، والجنود الأميركيين الذين يقتلون، أضاف صُنّاع الفيلم إلى مجرياته قصة حبّ عبثيّة تُحاكي قصص المسلسلات الشعبية. إذ إن رايف وداني كلاهما، يقعان في حبّ الممرضة الحسناء إيفيلين (كايت بيكينسايل).
ويشرع رايف بعلاقة غرامية مع إيفيلين، بيد أنّه لا يلبث أن ينضم إلى "سرب النسر" Eagle Squadron، القوة الجوية الأميركية التي تقاتل إلى جانب "سلاح الجوّ الملكي البريطاني" ضمن "معركة بريطانيا" (بمواجهة ألمانيا النازية). وحين تسقط طائرته يظن أنّه لاقى حتفه. وذاك مثّل إشارة لداني كي يتقرّب من إيفيلين. لكن رايف سرعان ما يظهر حياً يرزق، وحين يعود إلى قاعدة بيرل هاربور يتفاجأ بإقدام صديقه الأقرب على أخذ عشيقته. وهكذا يختلف الصديقان ويتخاصمان لفترة قصيرة، ويبقى كلاهما، على نحو ظاهر، مأخوذاً بتلك الممرضة ذات الشعر اللامع.
يمنح مايكل باي أبطاله الشبان في الفيلم حضوراً بارزاً براقاً، وذاك يبدو واضحاً سواء في مشهد تقوم به إيفيلين بحقن إبرة في مؤخرة رايف، أم في مشهد احتساء الطيارين الكحول معاً. فممثلو "بيرل هاربور" على الدوام يظهرون بمظهر برّاق لامع، كأنهم عارضو أزياء في كاتالوغ متجر ثياب. وقد تحدث أفليك من جهته عن الفيلم مع مجلة "جي كيو" GQ، قائلًا "افترضت الفكرة صناعة فيلم كان يمكن أن يظهر في الأربعينيات – ويكون جاداً وساذجاً بعض الشيء – لكن بتقنيات جديدة". من هنا، وبمحاولته التقاط عالم البراءة الضائع ذاك، جازف فيلم "بيرل هاربور" في الظهور بمظهر السطحية، بدل استثارة العواطف. علماً أن أفليك وهارتنيت قدّما صورة مثالية عبثية للرجولة الأميركية، فظهرا بهذا الإطار بمظهر متباه ومن دون شوائب.
وكان كثيرون من النقاد، وعلى نحو غير مؤات، قارنوا "بيرل هاربور" بفيلم "من هنا إلى الأبد" (1953) From Here to Eternity لفريد زينيمان، الذي استقاه من رواية للكاتب الأميركي جايمس جون، وهو فيلم تدور أحداثه أيضاً قبيل هجوم بيرل هاربور. لكن مقابل قيام مايكل باي بإظهار هاواي كأنها معسكر إجازات ينعم بالشمس، جاء فيلم زينيمان ذاك ليختار متعمّداً التصوير بالأسود والأبيض، في مقاربة قاتمة وبالغة التشاؤم. وصوّر فيلم زينيمان الحياة العسكرية قاسية رتيبة، يسودها الشوق المرضي للديار، والشرب العنيف للكحول، والخيانات والابتزاز. ويتماثل الجنود الذين يعانون الوحدة والانزواء في فيلم زينيمان بشخصية "روبيرت إي لي بريويت" التي أداها مونتغومري كليفت بالفيلم المذكور، فيبقون بعيدين كل البُعد من مزاج الثقة بالنفس للشخصيتين الرجوليتين اللتين أداهما أفليك وهارتنيت بفيلم "بيرل هاربور".
من جهة أخرى فقد كاد "بيرل هاربور" أن يفوز بجائزة أوسكار لأفضل مونتاج صوتي، إلا أن استخدامه العشوائي لأنواع مختلفة من الموسيقى، من النمط الحزين العاطفي إلى النمط الصاخب والمنمّق، حال دون ذلك. إلى هذا، وبالمستوى المتقادم للموسيقى، يأتي نموذج الشخصيّة المتعالية لـ"كوبا غودينغ جونيور"، الطاهي الأفريقي الأميركي، دوري ميلير، الذي يلتحق أخيراً بإحدى السفن الحربية الأميركية ويستعرض شجاعته خلال الهجوم الياباني.
لكن ما فشِل النقاد الذين جرّدوا حملاتهم على فيلم "بيرل هاربور" في الإشارة إليه وملاحظته، هو تلك البراعة الأولية التي تحلّى بها مايكل باي في صناعته الفيلم، والمستوى الباهر الذي وسم معظم نواحي عمله. وعن باي في هذا الصدد قال ستيفن سبيلبيرغ "لديه أفضل عين لإثارة مستويات عديدة ومختلفة من الأدرينالين بفعل صفاء الصورة".
والمخرج يُظهر قدرته الاستثنائية في تصوير الحركة وتصميم إيقاعاتها ومشاهدها ما أن تبدأ مطالع الغارات اليابانية بالظهور. ويستعرض الفيلم جانباً مشهدياً إبداعيّاً لافتاً، سواء تمثل ذلك بالمشاهد المتتالية (المبالغ فيها على نحو صارخ)، على نسق فيلم "توب غان" Top Gun (إنتاج بروكهايمر أيضاً وبطولة توم كروز)، تلك المشاهد التي ينطلق فيها أفليك وهارتنيت كلّ بطائرته إلى السماء لمواجهة الطائرات اليابانية، أو تلك اللقطات التي يبدو فيها الممرضات والممرضون وهم يحاولون إنقاذ المصابين وسط الدمار الحاصل، ومشاهد ذعر المدنيين المصورة تصويراً بطيئاً، أو تلك اللقطة الاستثنائية لسقوط قذيفة يابانية من ارتفاع شاهق جداً على سفينة أميركية. وثمة في هذا المجال عدد هائل من التفاصيل التي تظهر للمشاهد وتدوم ثانية أو ثانيتين.
ففي أعقاب هجوم بيرل هاربور مثلاً، يصور المخرج كاهناً تغمره المياه حتى خاصرته وهو يصلي للضحايا حوله الذين يطفون على صفحة الماء. وفي مشهد آخر نرى شباك صيد الأسماك وقد امتلأت بجثث القتلى. كما أعتمد المخرج في هذا الإطار تمهلًا مدروساً، فلم يبدأ بتصوير الأجواء النارية وعنف الهجوم والقصف قبل 80 دقيقة من بداية الفيلم. لكن تلك الأجواء حين تبدأ فإنها لا تعود تتوقف. ومع تكاثف وتعدد الانفجارات واندلاع الحركة وصخبها فإن تأثيرها يتقلص. ويبدو الأمر كأنه رحلة في مدينة ملاه وألعاب، تأخذ وقتاً أطول من المعتاد.
إلّا أن الفيلم في النهاية يتناول لحظة زلزالية في التاريخ الاميركي. "لحظة سيطويها العار" كما يقول الرئيس روزفلت (جون فويت). "لقد درجنا على التفكير بأننا لا نقهر. والآن أعظم سفننا دمرت من قبل عدو اعتبرناه أدنى منا. إننا في وضع حرج أيها السادة"، يقول روزفلت لمستشاريه وضباطه، داعياً إياهم إلى رفع الروح الوطنية والثقة بالنفس. ويأتي الجزء الأخير من الفيلم ليصور الغارات الإنتقامية الأميركية على طوكيو التي قادها الجنرال دوليتل (أليك بالدوين) في ربيع سنة 1942. لكن هذا التأكيد على السطوة الأميركية لا يمكنه محو الذي الذي لحق بها في هاواي.
على الرغم من المراجعات النقدية السلبية حقق فيلم "بيرل هاربور" نتائج جيدة إلى حد ما في شبابيك التذاكر، ثم عاد وسجل أرباحاً وفيرة حين أطلق على أقراص "دي في دي" سنة 2001، بعد فترة وجيزة من أحداث 11 سبتمبر (أيلول) التي مثلت جرحاً مماثلاً آخر في الروح الأميركية. وعن هذا الأمر الأخير قال مايكل باي في ما بعد، ضمن حديث مع مجلة "جي كيو" GQ تناول شعبية الفيلم المتجددة إثر 11 أيلول: "فجأة تسنى للمرء أن يكون وطنياً مرة أخرى".
اليوم بعد مضي عقدين لا أحد سيدّعي أن فيلم "بيرل هاربور" يمثل تحفة سينمائية. إذ إن هفواته وتناقضاته تبقى مشهودة ولا يمكن نكرانها. إلّا أن الفيلم يذكّر بوقت مرّ على هوليوود وبات الآن للأسف بحكم المنقضي منذ زمن. إنه الوقت الذي كانت الأفلام ذات الميزانيات الإنتاجية الكبيرة ممكنة التحقّق من دون أبطال خارقين. كما أن الفيلم، من جهة أخرى، بطريقته العشوائية والفوضوية، راح يعلم الجيل الجديد من جمهور السينما فصلاً من التاريخ الأميركي كانوا سيستمرون في نسيانه. وإن قورن الفيلم ببعض أفلام مايكل باي اللاحقة، فإنه سيشكل نموذجاً للبراعة والاعتدال. لكن المفارقة في هذا الإطار تبقى أن القنابل الأكبر لم تكن تلك التي انفجرت أمامنا على الشاشة. بل تلك التي ألقاها النقاد نحو مايكل باي، حين صمموا أن يلحقوا بفيلمه ما ألحقه اليابانيون بالأسطول الأميركي في بيرل هاربور.
(فيلم "بيرل هاربور" متوفر على منصة البث التدفقي "أمازون برايم")
© The Independent