تعرضت وزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتيل لاتهامات بضرب المفاهيم الديمقراطية المتبعة في المملكة المتحدة، من خلال دعوتها إلى قمع الاحتجاجات التي يمكن أن تشكل مصدر "إزعاجٍ خطير أو مضايقات"، باعتبارها جريمة.
ووسط أجواء مشحونة، سببها استخدام الشرطة البريطانية القوة المفرطة خلال وقفة احتجاج قام بها معتصمون نهاية الأسبوع الماضي، لتأبين الشابة سارة إيفرارد التي قضت ضحية جريمة قتل، تعرضت وزيرة الداخلية لانتقادات في مجلس العموم بسبب تشريعٍ مقترح، يتيح بحسب حزب "العمال" المعارض، إصدار حكم بالسجن على شخص مُدان بتخريب نصب تذكاري ما، لمدة أطول من عقوبة فرد آخر ارتكب فعل اغتصاب.
وقد أعرب بعض أعضاء البرلمان عن مخاوفهم من هذا التشريع المقترح، ومنهم رئيسة الوزراء ووزيرة الداخلية البريطانية السابقة تيريزا ماي، التي أشارت إلى أن حرية التعبير هي "حق مهم في ديمقراطيتنا"، وحذرت من "العواقب غير المقصودة المحتملة" من أحكام الوزيرة باتيل في ما يتعلق بـ"مشروع قانون الشرطة والجريمة والمقاضاة والمحاكم".
وأثناء اجتماع البرلمان على مدى يومين لمناقشة هذا التشريع المقترح، المثير للجدل، احتشد مئات من المتظاهرين خارج ساحة البرلمان للمطالبة بحرية التعبير، وبتأمين حماية أفضل للنساء.
وزير الداخلية في حكومة الظل، نيك توماس سيموندز، توجه بكلمة إلى النواب قال فيها، إن المشاهد التي طغت على منطقة "كلابهام كومون" Clapham Common، يجب أن تشكل "إشارة تحذير" من المخاطر التي تنطوي عليها الإجراءات الصارمة الواردة في بنود مشروع القانون.
إحدى أعضاء جمعية "سيسترز أنكات" Sisters Uncut (مجموعة عمل نسائية مناهضة لقرارات الحكومة خفض خدمات دعم ضحايا العنف المنزلي)، التي شاركت بشكل مباشر وفاعل في وقفة "كلابهام" الاحتجاجية، اتهمت الشرطة بـ "ممارسة عنف مؤسسي ضد المرأة". واعتبرت أن "منح عناصرها مزيداً من الصلاحيات سيتسبب بوقوع مزيد من أعمال العنف ضد النساء". ودعت إلى "ضرورة العمل على منع إقرار مشروع القانون المطروح".
وفي هذا الإطار، وجهت منظمات تُعنى بقضايا المساواة العرقية والعدالة الجنائية كتاباً إلى رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، تحذره فيه من مفاعيل التشريع التي من شأنها أن تسهم في ترسيخ جذور التمييز ضد مجتمعات السود والأقليات العرقية والإثنية المعروفة بريطانيا (بـ Bame).
وفي رسالة تلقتها وزيرة الداخلية البريطانية بتنسيق من منظمتي "ليبرتي" Liberty (تدافع عن الحرية والمعاملة العادلة لجميع الأفراد والفئات) و"أصدقاء الأرض" Friends of the Earth (تناضل من أجل عالم أكثر صحة وعدالة)، وجهت 245 مؤسسة خيرية ومنظمات مجتمعية وأخرى معروفة بتنظيم حملات، بدءاً من "منظمة العفو الدولية" Amnesty International، مروراً بمنظمة "رامبلرز" Ramblers (تشجع على تعزيز ممارسة المشي تعزيزاً للصحة)، وصولاً إلى "الجمعية الملكية لحماية الطيور" RSPB، تضمنت تحذيراً من أن التشريع "الصارم يشكل تعدياً على بعض الحقوق الأساسية للمواطنين، لا سيما أولئك الذين ينتمون إلى مجتمعات مهمشة".
في مقابل ذلك، رأى عدد من أعضاء البرلمان في حزب "المحافظين" أن حزب "العمال" سيظهر وكأنه يتسم بنوع من "الليونة" في موقفه من الجريمة، في حال عمد إلى التصويت يوم الثلاثاء ضد الوثيقة المؤلفة من 300 صفحة، التي نُشرت قبل ستة أيام فقط، وتتضمن مجموعة واسعة من إجراءات ليست مترابطة، بما فيها أحكام لمضاعفة أقصى العقوبات ضد الاعتداءات على عمال الطوارئ، وأخرى لمنع الإفراج عن مرتكبي الجرائم الجنسية الخطيرة بعد قضاء نصف مدة عقوبتهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الوزيرة باتيل قالت لمجلس العموم، إن الحق في الاحتجاج السلمي كان "حجر الزاوية للديمقراطية وستواصل الحكومة الدفاع عنه". لكنها أشارت إلى أن الأعوام الأخيرة شهدت "منحى انحرافياً في التكتيكات المعتمدة للاحتجاج"، ما استدعى منح الشرطة صلاحيات إضافية في اتباع "نهج أكثر استباقية" في التعامل مع تلك الأساليب الاحتجاجية.
وفي معرض تطرق وزيرة الداخلية إلى ما قام به محتجون من حركة "تمرد ضد الانقراض" Extinction Rebellion (حركة بيئية عالمية تمارس العصيان المدني السلمي لإرغام الحكومات على اتخاذ إجراءات لتجنب الانهيار البيئي والاجتماعي) الذين عمدوا إلى عرقلة سيارات الإسعاف وهي في طريقها إلى تلبية حالات طارئة، وإلصاق أنفسهم بالقطارات العاملة خلال ساعات الذروة، قالت باتيل للنواب: "يتعين تحقيق نوع من التوازن السليم بين حقوق المتظاهرين وحقوق أفراد المجتمع، الذين يريدون المضي في تلبية متطلبات حياتهم اليومية".
أما نيك توماس سيموندز، وزير الداخلية في حكومة الظل، فدعا مجلس العموم إلى "ضرورة أخذ العبرة من تلك الدروس بالغة العمق التي استنتجناها من المشاهد المؤلمة في كلابام، حيث أُجبرت نساء مشاركات في وقفة الاحتجاج التأبينية، على الرغم من مناشدات الحكومة الناس على التزام منازلهم بسبب جائحة كورونا، على التمدد أرضاً من قِبل عناصر الشرطة، الذين قاموا بتقييدهن".
وأضاف، "يجب أن تكون مشاهد يوم السبت بمثابة إشارة تحذير للمجلس، من أن فرض قيود سيئة الحكم وغير مدروسة بشأن الحق في الاحتجاج، سيشكل خطأ فادحاً ذا عواقب طويلة الأمد، وسيلحق ضرراً كبيراً بديمقراطيتنا".
واعتبر وزير الداخلية في حكومة الظل، أن "الحق في الاحتجاج هو أحد تقاليدنا الديمقراطية التي نفتخر بها. إلا أن مساعي هذه الحكومة للانقضاض عليه، إنما تلحق بها عاراً شديدا". وأشار إلى أن "قوانيننا الراهنة الخاصة بالاحتجاج، تحقق توازناً دقيقاً بين الحقوق المشروعة وضرورة الحفاظ على النظام. لكن ما لا تشمله قوانيننا بشأن الاحتجاج، وما ينبغي في الواقع ألا تشمله على الإطلاق، هو السعي إلى حماية من هم في السلطة من انتقاد الشعب واحتجاجه".
إلى ذلك، سلط النائب المعارض الضوء على الأحكام التي من شأنها أن تسمح للشرطة بفرض قيود على الاحتجاجات إذا ما صدر عنها صخب وضوضاء قد تسبب "إزعاجاً خطيراً واضطراباً" لأشخاص أو مؤسسات في مناطق مجاورة.
وانتقد أخيراً الأحكام التي تسمح بالسجن لمدة 10 سنوات حداً أقصى نتيجة إلحاق ضرر بتمثال أو نصب تذكاري، أي ضعف مدة السجن التي تلقاها بعض المحكوم عليهم بجريمة اغتصاب. وقال، "لا يجوز بتاتاً لأي حكومة أن تشير في أي من خطاباتها إلى أن سلامة أحد التماثيل تفوق في قوانيننا سلامة النساء".
وقد عبرت مجموعات تدافع عن حقوق الإنسان، عن مخاوفها من أن تتيح صياغة القانون لوزيرة الداخلية البريطانية توسيع نطاق سلطات الشرطة، على نحو يصبح في استطاعتها تقييد الاحتجاجات، إضافةً إلى السماح لها باستخدام تشريع ثانوي لتحديد نوع "التعطيل الخطير لحياة المجتمع" أو "الإزعاج الخطير لأنشطة مؤسسة ما"، الأمر الذي قد يشكل انتهاكاً للقانون.
ويمكن للنسخة الراهنة من مشروع القانون أن تسمح أيضاً للشرطة بحظر التجمعات ووقفات الاحتجاج الساكنة، بدلاً من التظاهرات المتحركة، إضافةً إلى الاحتجاجات "التي قد يقوم بها شخص واحد في مكان عام".
وبموجب هذا التشريع المحتمل، سيتاح للشرطة القبض على المتظاهرين ومحاكمتهم إذا خرقوا القيود المطبقة التي يُفترض أنهم "كانوا على علم بها، أو كان يجب أن يكونوا على اطلاع عليها"، الأمر الذي يُعد تكثيفاً كبيراً لمفاعيل القانون الراهن الذي ينص على ارتكابهم فعلاً جرمياً، إذا رفضوا الامتثال "عمدا".
وقد يسمح ذلك بمحاكمة الأفراد الذين لم يكونوا على دراية بالقيود التي تفرضها الشرطة، على الرغم من إعلان عناصرها في كثير من الأحيان عن مثل هذه الإجراءات من خلال المناداة بها عبر مكبرات الصوت خلال التظاهرات الصاخبة.
ورأت السيدة ماي أنه يُفترض بالقانون أن يكون "متناسباً"، ونبهت إلى أن بعض التعريفات الواردة في مشروع القانون، بما في ذلك "الضوضاء والإزعاج"، تبدو مطاطةً للغاية. ونبهت في المقابل الوزيرة باتيل، إلى خطورة توسيع نطاق الصلاحيات التي يتمتع بها منصبها، قائلة، "قد لا يكون وزراء الداخلية في المستقبل يتسمون بالعقلانية الكافية".
وأضافت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، "أرغب في دعوة الحكومة إلى النظر بإمعان في الحاجة إلى التمييز بدقة بين ما هو شعبي وما هو شعبوي، لأن حرياتنا تعتمد على ذلك".
إيفيت كوبر العضوة في مجلس العموم عن حزب "العمال" ورئيسة لجنة الشؤون الداخلية، نددت بكثير من الإصلاحات التي تستهدف الاحتجاجات، ودعت الحكومة إلى معاودة التفكير في قراراتها، لافتةً إلى أن "هذه الصلاحيات واسعة للغاية".
أما المديرة الموقتة لمنظمة "ليبرتي" غرايسي برادلي، فرأت أن مشروع القانون سيمنح قوى الشرطة السلطة في تقرير متى وكيف يمكن للناس الاحتجاج، وفي تجريم طريقة حياة مجتمعات الغجر والمتنقلين، وفي إرساء صلاحيات جديدة للتوقيف والتفتيش، من شأنها أن تفاقم التمييز ضد الأشخاص الملونين. وقالت إن "الاحتجاج ليس بهبة تمن علينا بها الدولة، بل هو حق أساسي لنا، ويتعين على الدول أن تلتزم بموجب قانون حقوق الإنسان تسهيل الاحتجاج وليس قمعه".
واستدركت برادلي، "إلا أن ما يسعى إليه مشروع القانون هذا هو أن الحكومة، التي لا تكتفي بحظر الاحتجاجات خلال فترة الوباء، تستخدم الآن أزمة الصحة العامة كغطاء لجعل إجراءات الطوارئ تدابير دائمة. إن مشروع القانون الجديد الذي تطرحه إنما يُعد تعدياً شاملاً على الحريات المدنية الأساسية".
تبقى الإشارة أخيراً إلى أن اللجنة البرلمانية المشتركة لحقوق الإنسان التي تمثل مختلف الأحزاب في البرلمان، أعلنت عن فتح تحقيق في التشريع، معربةً عن قلقها من أن عدداً من بنوده قد يتعارض مع حقوق الأفراد في ممارسة حريتهم، وحرية التعبير والتجمع الحر، وجميعها حقوق ينص عليها "قانون حقوق الإنسان".
© The Independent