تحاول إثيوبيا استغلال الأوضاع المتأزمة في السودان لفرض أجندتها في أهم قضيتين مشتركتين بينهما، وهما سد النهضة والنزاع على الحدود. ولعل في اتهام الحكومة الانتقالية لإثيوبيا بدعمها قوات جوزيف توكا، وهي من فصائل قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي تقاتل حكومة الأخيرة في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، هناك أكثر من مسوغ لا يخدشه سوى حالة الانسجام بين تحالف قوى الحرية والتغيير وأديس أبابا، على عكس القوات المسلحة التي دانت الأخيرة رسمياً. وقد بدأت إثيوبيا هذا الأمر باتهام آبي أحمد السودان بإيواء مقاتلين يتلقّون التدريب في ولاية النيل الأزرق لتأجيج الصراع في إقليم بني شنقول وقطع الطريق المؤدية إلى سد النهضة، فضلاً عن أن المفاوضات لم تسفر عن حل للأزمة، فقد انعكس الوضع أيضاً في جنوح أديس أبابا نحو توزيع انتباه الخرطوم وجهودها لكسب الوقت في ما يتعلق بقضية سد النهضة وتمييع قضية النزاع على الحدود.
فشل التسوية
قبلت قوى الحرية والتغيير مشاركة المجلس العسكري الانتقالي على مضض في حكومة الثورة بعد إطاحة النظام السابق عقب اندلاع ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، وكانت ترى أن الاستحقاق العسكري من المفترض أن يكون من نصيب الحركات المسلحة المتمردة بحكم أنها هي التي حاربت النظام السابق. وبعد توقيع اتفاق تقاسم السلطة بينهما في 17 يوليو (تموز) 2019، اتجه التحالف إلى جوبا، عاصمة دولة جنوب السودان لعقد لقاءات مع الحركات المسلحة التي أُطلق عليها بعد التوقيع على اتفاق السلام اسم "حركات الكفاح المسلح". لم يعكّر صفو العلاقة بين التحالف والحركات سوى الاختلاف حول شكل التفاوض، إذ إن الأخيرة طالبت بأن يجري وفق مسارات جغرافية وجهوية، بينما رأى الأول أن يكون التفاوض على أساس القضايا. وعلى الرغم من ذلك، تحولت عمليات التفاوض إلى مزايدات علنية، أوصلت الاتفاق النهائي إلى عملية محاصصة سياسية لتقاسم السلطة والثروة، وخلقت بلبلة واضطرابات في إقليم شرق السودان الذي رأت الجبهة الثورية ضمه إليها وسمّته "مسار الشرق".
فرضت هذه المرحلة تداعيات عدة على الوضع في جنوب السودان المكون من جبال النوبة ومنطقة النيل الأزرق، لا سيما أنها لم تقتصر فقط على دفع قوى الحرية والتغيير إلى الرضوخ للحركات المسلحة التي نجحت في تحقيق انتصارات نوعية لمطالبها واقتلاعها، بينما ترمق المجلس العسكري بإمكانية تصعيد التوتر في أي منطقة من المناطق التي تقع تحت سيطرتها. وعند وصول هذه القوات المكوِّنة لتحالف الجبهة الثورية إلى اتفاق السلام في أكتوبر (تشرين الثاني) الماضي، تحرّكت على إثرها إلى الخرطوم. ظلت قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان "جناح عبد العزيز الحلو" رافضة للتفاوض، وبقيت في مكانها من دون إجراء أي تغيير في سياساتها، نسبة لفشل الطرفين في الوصول إلى تسوية شاملة، بسبب طرح الحلو بأن يكون السودان دولة علمانية أو إعطاء حق تقرير المصير لمنطقتَي جنوب كردفان والنيل الأزرق.
عوامل الدعم
لم يمرّ اتهام الجيش السوداني للحكومة الإثيوبية بتزويد حركة جوزيف توكا بالأسلحة والذخيرة لاحتلال مدينة الكرمك في ولاية النيل الأزرق جنوب شرقي البلاد، بإسناد مدفعي إثيوبي، من دون تكهنات تستحضر طبيعة المدينة ودوافع الحركة والحكومة الإثيوبية.
هناك عدد من العوامل تجعل هذا الأمر صحيحاً على الرغم من نفي أديس أبابا والقوات معاً، أو تجعله الأقرب لأن يتحقّق قريباً.
أولاً: طبيعة الحركة الشعبية لتحرير السودان (جناح الحلو) الرافضة للجلوس إلى المفاوضات مع الحكومة الانتقالية، وقائد الفصيل توكا الذي لم يُعرف عنه ولاء لقادته، إذ عمل مع الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال (جناح مالك عقار) وانشق عنها وانضم إلى جناح الحلو، كما أن قواته تعاني نقصاً لوجستياً بما لا يمكّنه من تحقيق أي نصر من دون إسناد خارجي، إضافة إلى طموحه في أن يكون حركة منفصلة عن الحلو، تفاوض الخرطوم على السلطة منفردة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثانياً: إن المنطقة التي أُشير إلى احتلالها من قبل قوات توكا هي مدينة الكرمك الواقعة على تخوم الحدود السودانية الإثيوبية في منطقة جبلية جنوب شرقي ولاية النيل الأزرق، وهي مهد التمرد القديم بين الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق، التي سيطرت عليها عام 1986 واستعادها الجيش السوداني في عهد الديمقراطية الثالثة. ثم احتلتها الحركة مرة أخرى عام 1997، واستعادها الجيش السوداني في عهد النظام السابق.
ثالثاً: إن إثيوبيا تحتاج إلى تفعيل آلية تشتيت جهود السودان ممثلاً بالقوات المسلحة بفتحها جبهات الحدود في الفشقة ثم امتدادها جنوباً إلى الكرمك، وتتداخل قضية الحدود بصراعها مع جبهة تحرير تيغراي، وتتزامن مع الخلاف مع السودان ومصر بشأن الملء الثاني لخزان سد النهضة معاً، إذ لا يستبعد لجوء أديس أبابا إلى هذه الوسيلة وهي التي ظلت تعلن أنه لن يقف حائلاً بينها وبين إكمال بناء السد. هذه الآلية تعطي الجيش السوداني دافعاً للتقدم، وتجرّه إلى أبعد من منطقة الفشقة، ويكون بذلك مطوِّقاً للمجال الحيوي لسد النهضة، مما يعزز رغبة الجيش الإثيوبي في الانتشار بغية الدفاع عن السد، وتتحول المعركة من حرب بالوكالة التي أسندتها إلى عصابات الشفتة وقوات توكا إلى مواجهة بين جيشَي الدولتين.
سيناريوهات المواجهة
تكافح إثيوبيا من أجل جعل الحدود السودانية منطقة سيادة مشتركة، وفقاً لسيناريوهات عدة. الأول، أن تنتهج إثيوبيا إجراءً مؤقتاً نتيجة للدخول في مفاوضات أو تحكيم دولي أو نتيجة تشكيل لجنة خبراء لتقديم تصور لتقسيم المنطقة الحدودية إلى قسمين، ليظل السودان بعدها يطالب بحقه في الاستغلال المتكافئ للموارد الطبيعية لمئات الآلاف من الأفدنة الزراعية التي استردّها من عصابات الشفتة، وجبر ضرر مزراعي الفشقة، من دون الوصول إلى حل في ما يتعلق بتطبيق الاتفاقيات الحدودية السابقة بين البلدين وأعمال لجان الحدود.
السيناريو الثاني، أن تُبقي إثيوبيا على هذه المنطقة منطقة نزاع مستمر، لا تصل فيها الدولتان إلى أي حل. وهو انتهاج لعقيدة الدفاع الاستراتيجي، الذي برعت فيه وظلت تستخدمه القوات الإثيوبية في صراعها مع تيغراي، إذ إنها عندما تشعر بالحاجة إلى تحسين قدرتها العسكرية وتكثيف الهجوم، تلجأ إلى خلق مسارح أخرى للمعركة أو إدخال أطراف أخرى مستفيدة مثلما أدخلت القوات الإريترية في حربها مع تيغراي. وبهذا توزّع ثقل الإدانة الدولية بينها وهذه القوات، كما تكون فرصة لالتقاط أنفاسها لتتحول إلى وضع الدفاع بتمكين القوات المناوئة من الهجوم أو الانتشار في أكثر من نقطة، مما يظهرها وكأن الطرف الآخر مهدِّد لوجودها، تحتفظ إزاءه بحق الردع.
أما السيناريو الثالث، فهو أن يحتل جوزيف توكا منطقة الكرمك، وتعترف به كحاكم لها عوضاً عن اعترافها بالحاكم الرسمي الموجود حالياً لاستخدامه وقواته كوكيل لها فيها. ومعروف عن هذا القائد انشقاقه الأول عن مالك عقار وانضمامه لعبد العزيز الحلو وعدم تمتعه بإمكانات عسكرية، لذا سيكون في أمسّ الحاجة للدعم في العتاد والمال، ومن ناحية أخرى سيقوّي هذا موقفه التفاوضي وحركته مع الخرطوم.
فتح الجبهات
ومع نسف إثيوبيا أي اتجاه نحو التهدئة أو تجميد النزاع، فإن هذه النقطة تعدّ بمثابة خطوة واسعة نحو التصعيد، وحتى لو تراجعت، فإنها ستكون قد حققت بعض المكاسب. ولكن في المقابل، يعتبر استخدام الحكومة الانتقالية لآلية عسكرية وهي تعزيز وجود الجيش السوداني في الفشقة، مع عدم إغفال آلية سياسية وهي إقامة اجتماعات اللجنة السياسية العليا لترسيم الحدود في 18 مايو (أيار) 2020 في أديس أبابا، مكسباً أيضاً. ولكن السودان لم يذهب إلى أبعد من ذلك، إذ كان بوسعه ترقية هذه التحركات إلى آلية دبلوماسية تتيح له عرض قضية الحدود للتحكيم الدولي. أو على أقل تقدير التنبّؤ بقيام إثيوبيا بهذه الخطوة، خصوصاً أنها سابقة تاريخية، إذ ظل النزاع الحدودي بينهما يطفو إلى السطح تبعاً للخلافات السياسية، فقد افتُعلت قضية الحدود في عهود سابقة نتيجة لخلافات بين البلدين، وعادت إلى هدوئها. أما هذه المرة، فأديس أبابا تبدو أكثر تشدداً واستعداداً لفتح عدد من جبهات المواجهة مع السودان من أجل التشويش على إيجاد حل لقضية سد النهضة التي تتعلق بمسألة التنافس الإقليمي وأمنها الاقتصادي، والابتعاد عن احتمال الرضوخ لمطالب الخرطوم والقاهرة معاً، مستغلة الجوار والاحتكاك الطبيعي مع السودان.
سيكون على الجيش السوداني العمل في جبهتين، هما الدفاع عن حدود الدولة وحمايتها من القوات الإثيوبية، وإدارة النزاع في مدينة الكرمك إن نفّذت قوات جوزيف توكا مخطط أديس أبابا، مع الأخذ في الاعتبار اختلاف العقيدة العسكرية بين الطرفين، إذ إن الأول نشأ على تكيّف المجتمع معه، بينما نجد أن عقيدة الحركات المسلحة، بما فيها قوات الحركة الشعبية، قائمة على التكيف مع المجتمعات العشائرية في تلك المناطق بما يشبه عقيدة القوات الإثيوبية، متأثرةً بنمط التنقلات القبلية والتداخلات الإثنية وتنفيذ سياسة فرِّق تسُد.