الجدل والتكفير والشماتة والمطالبة بعدم الترحم والإعلان عن الحصول على "صك النار" والتأكيد أن الجنة ونعميها أبعد ما يكونا عن الطبيبة والكاتبة والناشطة النسوية نوال السعداوي، لم تكن أموراً متوقعة، بل مؤكدة ويقينية.
يقين الموت الذي يدركه الجميع بات ينافسه يقين الشماتة في الموت وصب الغضب على من رحل وتصنيفه كافراً ومن ثم إصدار الحكم عليه بأنه ذاهب إلى جهنم لا محالة!
تجاهل الطوفان
ويستحيل تجاهل ما يموج في العديد من المجتمعات العربية، ومنها المجتمع المصري، من طوفان فيه ميل واضح لدى قطاعات عريضة من الأفراد العاديين إلى إصدار أحكام دينية على بعضهم البعض. ويمكن القول إن هذا الميل نابع من انصياع وراء آراء وفتاوى ذاعت وانتشرت واشتهرت واكتسبت أرضية حولتها على مدار نصف قرن إلى دستور وأسلوب حياة، وأغلبها يندرج تحت بند التشدد والمغالاة والتطرف وكراهية الآخر.
واللافت أن الآخر لم يعد الغرب أو المنتمين لديانات أخرى غير الإسلام أو طائفة مختلفة في الإسلام أو ملحداً، بل يبدو أنه أصبح تجاه كل من يفكر أو يتكلم أو يبدو مختلفاً عن الصورة المثالية التي تم فرضها خلال النصف قرن الماضي لما ينبغي أن يكون عليه المسلم المتدين.
أسباب التكفير
أسباب التكفير التي غزت العديد من المجتمعات، والتي تظهر بشكل واضح في المجتمع المصري، كثيرة. ويلخصها الباحث في المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات عادل كريمي في بحث عنوانه "خطاب التكفير: سلاح الجماعات الإسلامية في العصر الحديث" (2019) في: الاختلافات السياسية والدينية بين الفرق والجماعات الإسلامية وهو ما يفضي إلى تناقض مصالحها واضمحلال أفكارها الأيديولوجية؛ فهم الأمور الواقعية والسياسية والدينية فهماً ساذجاً سطحياً من دون تعمق؛ سوء فهم للدين الإسلامي والجهل بمقاصده البعيدة والقريبة والتوقف عند ظاهر النص من دون استنطاق دلالاته العميقة؛ عدم القبول بفكرة التعايش مع الآخر المختلف في اللغة والدين والعادات والتقاليد؛ الإسراف في التحريم وهو ما أدى إلى التباس المفاهيم والتداخل في ما بينها؛ والانشغال بالقضايا الجانبية بدلاً من الاهتمام بالقضايا الكبرى كالبطالة والفقر والجهل والتخلّف؛ التسرّع في الأحكام الدينية والفقهية من دون التثبّت منها ومدى مشروعيتها، وذلك عائد بالأساس إلى جهل بالدين والنزوع وراء الرغبة في الابتداع واتباع الهوى والتظاهر بفهم مقاصد الشريعة.
ويشير كريمي إلى أن الفكر التكفيري بدرجاته وجد كل أنواع الدعم من مال وسلاح، إضافة إلى الدعم الداخلي في المجتمعات ممثلاً في الحاضنة الشعبية المرحبة، وهو ما أسهم في نموّ ظاهرة التكفير وتزايدها بشكل لا تخطئه عين.
عيون على السعداوي
عيون جيوش جرارة من معتنقي نظرية تكفير الآخرين كانت على الراحلة نوال السعداوي، وهي ضمن الأكثر إثارة للجدل الفكري والديني والاجتماعي عربياً في العصر الحديث، ناهيك عن كونها امرأة وهي قيمة مضافة في عوالم التكفير الشعبي.
شعبياً، تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى حديث عن الراحلة. وحرفياً تحولت إلى ساحات قتال وتكفير افتراضية، استخدمت فيها كل الأسلحة المعروفة في هذا النوع من الحروب، لتضم قائمة طويلة من النعوت المتراوحة بين "الملحدة والكافرة والعلمانية وعدوة الله وعدوة الإسلام والفاسقة والفاجرة" والقائمة طويلة جداً. وانطلاقاً من هذا التوصيف الجاهز والمعلب والمعد مسبقاً، تطايرت أحكام الكفر والتأكيد أنه لا يجوز بأي حال من الأحوال تذييل اسمها بـ"المرحومة" أو اقتران سيرتها بـ"الرحمة"، ومنه إلى التأكيد الجازم بأن قوائم الجنة لا تحوي اسمها وأن اسمها محفور على قوائم جهنم.
ولم يقف الوضع التكفيري والموزع صكوك الجنة والنار والرحمة والعذاب عند هذا الحد، بل تطور إلى درجة ترهيب الفريق الناعي للراحلة أو المحترم لحياتها وسيرتها الفكرية والإبداعية ونعتهم بالنعوت نفسها.
وعلى الرغم من أن موجات التكفير التي طاولت وعبثت بالتركيبة الفكرية والاجتماعية للعديد من المجتمعات طاولت عشرات الرموز الفكرية والأدبية والسياسية على مدار عقود مضت، إلا أن الموجة الحالية مع رحيل السعداوي هادرة وكاشفة.
اكتشافات وانكشافات
وضمن ما كشفت عنه هو أن قطاعاً من المتحفظين على الترحم ولكن بهدوء ينتمون إلى مكانات ثقافية وفكرية كان يُفتَرض إنها متنورة ومنفتحة وأكثر قبولاً للخلاف والاختلاف. تعليقات مثل "الله أعلم بمصيرها لكن مواقفها كانت حادة وغير مقبولة"، "رحم الله الجميع لكن السعداوي أفرطت في قلب موازين الدين والعادات"، وغيرها من عبارات ألقت الضوء على ما جرى في المجتمع من تغيرات ثقافية وفكرية مع تضاؤل شديد في هوامش قبول الاختلاف.
الاختلافات في داخل جبهة المناهضين للسعداوي وأفكارها بدت واضحة وصريحة. فبين الترحم بتحفظ ورفض الترحم بصفة شخصية، ورفض الترحم مع تحذير الآخرين وترهيبهم وتهديدهم بعدم الترحم تعددت درجات التشدد على سلم التكفير والتهديد والوعيد.
مضحكات مبكيات
ومن المضحكات المبكيات أن فضاء الترحم والمغفرة ذا الطابع الديني تحول إلى ساحة صراع بين جبهة رافضي فكر السعداوي بدرجاتهم من جهة، وجبهة محبيها ومعجبيها من جهة أخرى. وتحول جانب من الصراع التكفيري إلى ادعاء ملكية فكرية لمنظومة الأدعية الدينية، وذلك بين رافض لاستخدامها لأنها تخصه ومن معه فقط، وبين مصر على أنها ملك للجميع.
وعكس المثل الشائع بأن "العناد يولد الكفر" فإن ما جرى هو أن "التكفير ولد العناد". فقد أمعن وأسرف واستغرق أعضاء جبهة محبي السعداوي وغير محبيها في رثاء الراحلة على سبيل إثبات موقف.
لهذا يمكن الإشارة إلى أن موقف قطاعات عدة في المجتمعات العربية والإسلامية في إصدار أحكام دينية على شخصيات عامة سياسية وثقافية وفكرية في حياتها ومماتها بات ظاهرة.
فكر شعبي
فبدءاً بـ"أكثر شخص يحزنني أنه غير مسلم وأنه سيموت كافراً ولا تطأ قدماه الجنة هو طبيب القلوب مجدي يعقوب" ومروراً بـ"الكافر فرج فودة الذي سمح لنفسه بنقد الإسلام السياسى المعاصر والتاريخي وطالب بحتمية الاجتهاد وإعمال العقل والعياذ بالله ولم يتورع عن الدفاع عن الدولة العلمانية"، و"الكاتب الذي استهوته شياطين الإنس والجن وتقيأ ما في جوفه من إلحاد وفجور في رواياته نجيب محفوظ" و"الملحد نصر حامد أبو زيد الذي تجرأ على البحث والدراسة في التحرر من سلطة النص الديني والتفسيرات الثابتة للقرآن الكريم فهلك بعد ما فعلت مصر خيراً بالتفريق بينه وبين زوجته لأنه لم يعد مسلماً"... والقوس مفتوح، تتواتر منظومة التكفير الشعبي لرموز وشخصيات عامة لأن فكرها لا يتطابق والمعمول به منذ قرون.
ثقافة التكفير
ما سبق من قرون في كفة، وما تدور رحاه من شيوع ثقافة التكفير في قلب المجتمعات العربية في كفة أخرى. الملاحظ أن موت نوال السعداوي سلط الضوء بشكل غير مسبوق على خفايا الفكر والأفكار في المجتمعات العربية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويمكن القول إنه قد يعود ذلك إلى أربعة أسباب: الأول هو توسع استخدام منصات التواصل الاجتماعي بشكل كبير في السنوات القليلة الماضية مع ما منحته هذه المنصات من "شجاعة" للمستخدم على المجاهرة بأفكاره وسهولة العثور على جبهة دفاع ممن يشاركونه الأفكار نفسها. والثاني هو أن احترازات كورونا ومتطلبات الوقاية من الوباء دفعت بأعداد متزايدة إلى هذه المنصات لتكون الملجأ والسكن والملاذ، وفتح أبواب التعبير والتصريح على مصاريعها. والسبب الثالث يكمن في الآثار الناجمة عن أحداث ما يسمى بـ"الربيع العربي" والتي أدت إلى كشف الستار عن أثر جماعات الإسلام السياسي التي تُرِكت تكبر وتنمو وتنتشر وتهيمن على أفكار الملايين وتصبح دولاً في داخل الدول. والسبب الرابع هو بزوغ أصحاب الفكر الرافض لخلط الدين بالسياسة واعتبار "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" سلطة شعبية في يد البعض وذريعة للتدخل في أدق تفاصيل حياة البعض الآخر.
تأجيج الصراع
إن كل ما سبق أسهم في تأجيج الصراع الدائرة رحاه هذه الآونة في شأن الراحلة نوال السعداوي. ووصل الأمر إلى درجة أن المئات من مدشني قنوات على "يوتيوب" يخصصون "برامجهم" منذ وفاة السعداوي لصب نيران التكفير عليها. ومنهم من يسهر الليالي لتجميع مقاطع مجتزأة من أحاديثها مع تشويه صورتها، إضافة إلى مقاطع من دفاع إعلاميين "فاسقين" وشخصيات عامة "فاجرة" تثني على شجاعة السعداوي طيلة حياتها ومجاهرتها بأفكارها السابحة عكس التيار.
وتتوالى تعليقات المريدين المؤيدة للتوجه التكفيري، ومنها الكثير مما يحمل أقبح الشتائم للراحلة ومن يؤيدها أو يعتنق أفكارها. أحد هذه البرامج يذيل صاحبه الفقرة التكفيرية بقوله: "هل تأكدت عزيزي المشاهد أنها ماتت ملحدة؟ نعم. ونحن نبشرها بالنار التي كانت تنكرها والعذاب الذي كانت ترفضه. جزاكم الله خيراً وقبل أن نقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته لا تنسى أخي العزيز "لايك" و"شير" وجزاك الله خيراً".
صكوك الإيمان والكفر
يشار إلى أن أحد أبرز من كفر الأديب الراحل صاحب جائزة نوبل نجيب محفوظ كان الشيخ الراحل محمد الغزالي الذي كان يؤكد دوماً أنه من المناهضين للتشدد والغلو في الدين. وكان الغزالي سكرتيراً للجنة "الدفاع عن الإسلام" في وزارة الأوقاف المصرية وكان ضمن أبرز المسؤولين عن إدارة المساجد والدعوة والدعاة حين قدم ورقتين بحثيتين تحملان إدانة واضحة وصريحة لرواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، وهما اللتان فتحتا باب اتهامات التكفير والإلحاد اللتين بقيتا شائعتين حتى اليوم.
ويشار كذلك إلى أنه في عام 2003 أصدر مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر قراراً يدعو فيه إلى منع كتاب المفكر نصر حامد أبو زيد "الخطاب والتأويل" والذي يحوي مقارنة متعمقة بين الخطاب السلفي بدءاً بأبي حامد الغزالي وانتهاء بالخطاب التنويري لابن رشد. كما صدر حكم قضائي من محكمة مصرية بالتفريق بينه وبين زوجته في منتصف التسعينيات. وجدير بالذكر أن هيئة المحكمة طلبت من أبو زيد أن يردد الشهادتين أمامها لتختبر إيمانه، ولم يمتثل أبو زيد لأنه "رفض التفتيش في النوايا".
التفتيش في النوايا عبر تحليل الأفكار وتفنيد الكتابات أمر معروف في التاريخ الحديث. فهناك على سبيل المثال لا الحصر، صاحب برنامج "العلم والإيمان" التلفزيوني الشهير الراحل مصطفى محمود، والذي يحمل ميدان في الجيزة اسمه، ويضم المسجد الكبير بخدماته الصحية الواسعة، تم تقديمه للمحاكمة بأوامر عليا من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وذلك بناءً على طلب الأزهر الذي اتهمه بالكفر والإلحاد بعد صدور كتابه "الله والإنسان".
تكفير من دون قراءة
ومن اللافت أن الذي يكفر آخرين بسبب أفكارهم لا يكون قد قرأ أو اطلع على ما أنتج المُكفر بالضرورة. فمثلاً بعد إلقاء القبض على المتهم بقتل فرج فودة، واسمه أبو العلا محمد عبد ربه، قال في التحقيق إنه قتله لأنه كافر وكان لا بد من القضاء عليه. وذكر المتهم كتاب "الفريضة الغائبة" لفودة، وهو الكتاب الذي ناقش كيفية استخدام "الجماعات المتطرفة" للآيات القرآنية لنشر فكرها المتطرف والداعي إلى القتل باسم الدين. وبسؤال عبد ربه عما إذا كان قد قرأ الكتاب، قال إنه لا يقرأ أو يكتب!
كتب الراحلة نوال السعداوي معروفة لدى فئة محدودة عربياً. ويمكن القول إن كتبها ومؤلفاتها وأفكارها أكثر انتشاراً في دول غربية. ويلاحظ كذلك من الجدل الشديد الدائر على منصات التواصل الاجتماعي حالياً أن أي سؤال يوجهه أحدهم لمن يكفرها حول أسماء الكتب التي قرأها لسعداوي، عادة يكون الرد: "أستغفر الله العظيم يا رب. لم ولن أقرأ أبداً ما يمس عقيدتي".
إصابة في مقتل
أحد مؤسسي "الجماعة الإسلامية" (التي اغتال أعضاؤها الرئيس محمد أنور السادات) والذي تراجع عن الفكر المتشدد ناجح إبراهيم كتب في مقال في عام 2013، أن التكفير قتل معنوى للمسلم بإخراجه عن دينه. ووصف فكر التكفير بأنه "كان شؤماً على الإسلام كله. وأكبر لوثة أصابت العقل المسلم في تاريخه هي لوثة التكفير. ويؤلمني جداً أنها أصابت المجتمع المصري في مقتل".
الإصابة في مقتل تحتاج ما هو أكثر من فتوى عابرة أو دعوة مجاملة لمراجعة الفكر التكفيري. أستاذ الفقه المقارن والشريعة الإسلامية في الأزهر أحمد كريمة قال في برنامج تلفزيوني معلقاً على "الشماتة" في وفاة السعداوي وموجة تكفيرها، أنه غير ملزم بمدح الراحلة أو انتقادها، وأنه لا ينازع الله سبحانه وتعالى في اختصاصه والحكم ما إلا لله عز وجل. وقال عنها "لم تعلن كفرها بالله ولم يخرج قرار علمي في حق عقيدة الطبيبة نوال السعداوي طيلة حياتها من مؤسسة الأزهر. كما لم يصدر ضدها أي حكم قضائي أنها ضد الإسلام".
القضاء والحكم بالكفر
من جهة أخرى، فإن دار الإفتاء المصرية في الآونة الأخيرة دأبت على التحذير من التكفير! كما أسست "مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة" بهدف متابعتها ورصدها وتفنيدها. مفتي الديار المصرية شوقي علام قال إن توسع دائرة التكفير أمر بالغ الخطورة، محذراً من أن الحكم على أي إنسان بأنه كافر لا يتم إلا بعد التحقق الدقيق من الأمر، ولا يكون إلا عن طريق القضاء.
يشار إلى أن القضاء هو من حكم بالتفرقة بين نصر حامد أبو زيد وزوجته التي لحقت به إلى هولندا بعد صدور الحكم. وهو كذلك الذي طلب منه أثناء محاكمته ترديد الشهادتين حتى تتمكن هيئة المحكمة من الحكم على التحقق من إيمانه أو كفره!
وبين الإيمان وإشهاره والكفر وإخفائه، تموج المجتمعات العربية بالكثير من الجدل والصراع. وتبقى أسئلة مثارة حول: هل الإيمان شأن شخصي؟ هل الكفر حرية شخصية؟ هل إشهار الإيمان وترديد الشهادتين دليل قاطع على الإيمان؟ وهل عدم الإشهار دليل دامغ على الكفر؟ وهل واجب الجماهير تقويم إيمان بعضها البعض وتقويض كفر بعضها البعض؟ وتستمر الأسئلة من دون إجابات تذكر لحين وفاة جديدة لشخصية عامة أخرى مثيرة لجدل الإيمان والكفر، ومصير الراحل المعلق بين الجنة والنار بحسب صكوك قرر البعض أن يحتفظ بها لنفسه.