أعادت أوامر إلقاء القبض على محللين سياسيين وباحثين وصحافيين الجدل مرة أخرى في القوانين التي ترعى حرية التعبير في العراق، فضلاً عن التساؤلات عن مصير حرية التعبير مع استمرار المنظومة القانونية في الاستعانة بنصوص تعود إلى النظام السابق.
وعلى الرغم من تجريم حقبة "حزب البعث" في العراق بعد عام 2003، والحديث المتكرر من الأطراف السياسية الفاعلة عن أن النظام السابق كان يقوّض حرية التعبير عن الرأي، إلا أن النظام الحالي لم يلغِ القواعد القانونية المسنة في حينه، ولا يزال العمل بها جارياً.
ولعل ما أثار الجدل بشكل واسع في الأوساط المهتمة بحرية التعبير في البلاد، يتعلق بالمادة 226 من قانون العقوبات لعام 1969، التي استُخدمت لاعتقال المحلل السياسي إبراهيم الصميدعي.
وتنص المادة 226، التي تعود إلى النظام السابق، على العقوبة بالسجن "مدة لا تزيد على سبع سنوات" أو الحبس أو الغرامة، لمن "أهان بإحدى طرق العلانية مجلس الأمة أو الحكومة أو المحاكم أو القوات المسلحة أو غير ذلك من الهيئات النظامية أو السلطات العامة أو المصالح أو الدوائر الرسمية أو شبه الرسمية".
فيما تنص المادة 225 من القانون ذاته على العقوبة بالسجن المؤبد ومصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة لكل "من أهان بإحدى طرق العلانية رئيس الجمهورية أو من يقوم مقامه أو مجلس قيادة الثورة أو حزب البعث العربي الاشتراكي أو المجلس الوطني أو الحكومة".
ومنذ سقوط النظام السابق عام 2003 وحتى الآن، لم تُصدر قاعدة تشريعات جديدة تلغي هاتين المادتين أو تعدّلهما.
مخالفة للدستور وتعريفات غير متوافرة
وتثير مسألة عدم وجود تعريفات أو حدود واضحة في القانون لعبارات مثل "الإهانة" في نصوصه، مخاوف الصحافيين والناشطين من إمكانية تأويلها لصالح النظام السياسي.
وتتناقض مواد قانونية عدة متعلقة بجرائم النشر مع المادة 38 من الدستور العراقي التي تكفل حرية التعبير، وهو الأمر الذي يجيب عنه متخصصون في القانون بالقول إن "تلك القوانين كان يجب أن تتغير بأخرى جديدة".
ولم تتغير تلك التشريعات طوال 18 عاماً من سقوط نظام صدام حسين، وهو ما يعزوه مراقبون إلى عدم رغبة الفاعلين السياسيين في تعديلها لأنها "توفّر منافذ لقمع الحريات في الوقت المناسب".
اعتماد على غياب القاعدة التشريعية
ويعترض صحافيون وحقوقيون على استمرار اعتماد القضاء العراقي على قانون المطبوعات لعام 1967 ومواد جرائم النشر ضمن قانون العقوبات لعام 1969 وقانون الأفلام والمصنفات السينمائية لعام 1973، فضلاً عن قانون وزارة الإعلام المنحلة لعام 2000 وغيرها من القوانين.
وأصدر البرلمان العراقي عام 2011 تشريعاً يحمل اسم "قانون حماية الصحافيين"، كقانون جديد يحمي الحريات الصحافية، إلا أن رؤساء منظمات معنية بحرية الصحافة ونقابيين أبدوا تحفظهم عليه، مشيرين إلى أنه لا يلغِ قوانين النظام السابق بل يعيد تفعيلها.
ولعل الاعتراض الأبرز ينطلق من مساحة أن ما شُرّع من قوانين بعد عام 2003 من بينها "قانون حماية الصحافيين"، جاءت لتفعيل قوانين النظام السابق.
في السياق، يقول رئيس جمعية الدفاع عن حرية الصحافة مصطفى ناصر إن "القضية لا تتعلق فقط بترك قوانين النظام السابق فاعلة فحسب، بل ذهب الفاعل السياسي إلى إنتاج قوانين جديدة تعيد العمل بها، كما حصل مع ما يسمّى بقانون حماية الصحافيين"، لافتاً إلى أن "واحدة من مواد هذا القانون تنص على عدم جواز التعدي على معدات الصحافي وأدواته إلا بحدود القانون، ما يعني تفعيلاً للتشريعات التي تعود إلى الحقبة الديكتاتورية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف "النظام السياسي الحالي يعتمد على غياب القاعدة التشريعية بعد عام 2003 لتفعيل تلك القوانين".
ويذكّر ناصر بمفاوضات دامت من عام 2011 وحتى عام 2019، بين صحافيين وبرلمانيين خلال دورات عدة، للتوصل إلى صيغة تحمي حرية الصحافة، "إلا أن تلك المساعي لم تنجح لأنها تصطدم بالإرادة السياسية المتحكمة بالبرلمان"، معتبراً أن "الإرادة الدولية هي الوحيدة القادرة على التصارع مع تلك السياسية".
ويعتقد ناصر بأن "الإرادة السياسية تريد الإبقاء على القوانين الموروثة للتلويح بالسجن تحت عناوين مختلفة، لتخويف صناع الرأي العام والصحافيين، فضلاً عن تقديرهم بأن تلك القوانين ستمكّنهم من وأد أي انتفاضة ضدهم".
قوانين فعّلت تشريعات نظام صدام حسين
وعلى الرغم من الحديث الدائم للكتل السياسية عن عزمها تشريع قوانين، تبدو من حيث العنوان مراعية لحرية التعبير، كـ"قانون جرائم المعلوماتية" وقانون "حرية التعبير والتظاهر السلمي"، إلا أن صحافيين يرون فيها محاولة لترسيخ القوانين التي كان معمولاً بها في حقبة حكم "حزب البعث"، والتي تقوّض حرية التعبير عن الرأي.
ويكشف رئيس النقابة الوطنية للصحافيين العراقيين ياسر السالم عن "مساعٍ حثيثة قادتها النقابة وصحافيين ومنظمات حقوقية لتعديل القوانين المتعلقة بحرية التعبير لأكثر من سنتين"، لافتاً إلى أن "عقبات عدة وضعها البرلمان أمام تلك المحاولات".
ويضيف "شخصيات سياسية رفيعة كشفت عن أن الغاية من عدم تعديل تلك القوانين تتعلق بحماية الفاعلين السياسيين لأنفسهم من الانتقاد".
ويتابع "منظمات عدة قدمت مقترحات لنصوص قانونية بديلة لتلك المواد تتلاءم مع المادة 38 من الدستور، لكن الإرادة السياسية منعت حصول أي تعديلات".
ويعلن السالم أن "اعتقال المحلل السياسي إبراهيم الصميدعي كان وفق مادة تنص إحدى فقراتها على السجن المؤبد لمن ينتقد رئيس الجمهورية"، مبيّناً أن هذا الأمر "يؤكد المخاوف على مستقبل حرية التعبير في البلاد".
ولعل الدليل على الرغبة السياسية في "تقويض حرية التعبير بالنسبة إلى الفعاليات الاجتماعية والصحافية المعارضة"، بحسب السالم، يرتبط بعدم مناقشة "الجيوش الإلكترونية في مقترح قانون جرائم المعلوماتية، لأنه يضرّ بمصالح القوى السياسية التي تعتبر المحرك لتلك الجيوش".
ويختم أن "الطبقة السياسية وجدت من تشريعات نظام صدام حسين بيئة مناسبة لقمع منتقديها من صحافيين وناشطين، وباتت تحمي نفسها بتلك القوانين، على الرغم من حديثها المتكرر عن معارضة سياسات النظام السابق".
إخفاق في صياغة شكل الدولة بعد 2003
ويشير خبراء في القانون إلى أن الدولة العراقية تعتمد على المادة 130 من الدستور في التمسك بالقوانين التي تقوّض حرية التعبير عن الرأي، والتي تنص على أن "بقاء التشريعات النافذة معمول بها، ما لم تُلغَ أو تعدّل، وفقاً لأحكام هذا الدستور"، إلا أنها تتعارض مع المادة 13 ثانياً من الدستور، التي تقضي بعدم جواز سن قانون يتعارض مع هذا الدستور، بالتالي تعدّ هذه القوانين باطلة.
ويشير الخبير القانوني جمال الأسدي إلى أن "الحكومات المتعاقبة تمسكت بالمادة 130، وقالت إن قوانين النظام السابق ستبقى فاعلة في حال لم يتم تشريع قانون جديد"، موضحاً أن "الميزان الفقهي الدستوري يعطي الأولوية للمادة 13 لأنها سبقت المادة 130، وكل ما يأتي بعدها ويتناقض معها يجب تعديله".
ويؤكد أن "من واجب المحكمة الاتحادية أن تذهب إلى تعليق كل القوانين والقرارات التي تخالف الدستور، أو أن تشكّل الحكومة لجنة تجمّد العمل بتلك التي تخالفه، لحين إلغائها أو تعديلها من قبل البرلمان العراقي"، مبيّناً أن تلك الجهات "تنصّلت من واجبها القانوني".
ولعل إحدى المشكلات الرئيسة التي تواجه حرية التعبير في البلاد ترتبط بـ"التعريفات للنصوص القانونية"، بحسب الأسدي، الذي يشير إلى أن "الإهانة مثلاً، لا تعريفات واضحة لها في القانون المدني وقانون العقوبات وحتى التوصيفات القانونية، وتحتمل التأويل"، لافتاً إلى أن "ما كان يُعتبر في ظل النظام السابق إهانة، بات يُعدّ انتقاداً سياسياً".
ويتابع أن تلك الإشكالية في القوانين المتعلقة بحرية التعبير "تحفّز حالة من عدم فهم الجمهور لحقوقه"، مردفاً "كثر ينتقدون الدولة وأجهزتها، لكن الإجراء القانوني يُتّخذ على الأشخاص المعروفين، وهذا يعطي انطباعاً واضحاً بأن الغاية غير متعلقة بتطبيق القانون بقدر ارتباطها بالتأثير في الرأي العام".
ويختم أن "الاعتماد على قوانين النظام السابق الذي يصنف على أنه ديكتاتوري، يعني أن هناك إخفاقاً كبيراً في صياغة شكل الدولة ما بعد 2003 من حيث حمايتها للحريات، تحديداً حرية التعبير".
البرلمان وتحركات لإقرار قانون "جرائم المعلوماتية"
تعذر على "اندبندنت عربية"، الحصول على رد من الناطق الرسمي باسم الحكومة وزير الثقافة حسن ناظم، في ما يتعلق بإمكانية دفع مجلس الوزراء باتجاه تشريع قوانين تكفل حرية التعبير في البلاد، والخروج من مأزق الاعتماد على قوانين تعود إلى النظام السابق.
في المقابل، يقول النائب في البرلمان العراقي علي الغانمي، إن "الادعاءات التي تقول إن هناك رغبة لدى مجلس النواب والفاعلين السياسيين في الإبقاء على قوانين النظام السابق لتقويض حرية التعبير عن الرأي، غير صحيحة ومخالفة لما نعمل عليه"، مبيناً أن "البرلمان العراقي يعمل منذ عام 2011 على تشريع قانون جرائم المعلوماتية".
ويضيف لـ"اندبندنت عربية"، "في الدورة البرلمانية الحالية بدأ تحريك قانون جرائم المعلوماتية بشكل جدي، كبديل للقوانين التي تعود إلى النظام السابق".
وينفي الغانمي أن يكون هذا القانون منافياً لحرية التعبير عن الرأي، لافتاً إلى أنها "مكفولة دستورياً ولا يمكن لقانون أن يناقض هذا الحق الدستوري".
ويشير الغانمي إلى أن "ما حال دون إقرار القانون في الدورات الماضية، هو أنه لم يكن ناضجاً، ولم تشترك فيه منظمات المجتمع المدني والنقابات والاتحادات الصحافية ووسائل الإعلام والشخصيات الاجتماعية والحقوقية، أما في الدورة الحالية فالأمر مختلف"، مرجح أن يتم إقرار القانون فيها.
ويختم أن "حركة دؤوبة في البرلمان لإنضاج القانون والتصويت عليه"، مبيناً أنه "لا قانون يمضي من دون أن يضمن حرية التعبير والنشر والإعلام، ويعزز النهج الديمقراطي".
وكانت مواد جرائم النشر في قانون العقوبات لعام 1969، تحديداً المادتين 225 و226، عُلّق العمل بهما في فترة الحاكم المدني الأميركي للعراق بعد عام 2003، إلا أنهما فُعّلتا مرة أخرى بعد عام 2007.
وتبقى المخاوف مستمرة حول مصير حرية التعبير في العراق، خصوصاً مع عدم تحرّك الفاعلين السياسيين لتغيير القوانين بطريقة تكفلها، والاكتفاء بتلك التي تعود إلى النظام السابق، على الرغم من الاستهدافات المتكررة لناشطين وصحافيين بسبب آرائهم.