للشهر الثالث على التوالي، تسعى "سعادة" إلى الحصول على إذن دخول (تصريح) إلى إسرائيل لتلقي العلاج في مستشفيات الضفة الغربية، إلا أن كل محاولاتها فشلت، فهي لا تحمل بطاقة هوية لتتمكن الجهات المختصة من خلالها تنسيق سفرها من قطاع غزة لتلقي العلاج.
وتقول "سعادة"، الفلسطينية الأم والأب، المولودة في الجزائر، وعادت إلى غزة في عام 2008، "بسبب ولادتي خارج الأراضي الفلسطيني لم يتم تسجيلي في الدوائر الحكومية، لذلك لم أحصل على بطاقة هوية ورقم وطني، وفور وصولي إلى القطاع تقدمت أمام الجهات المختصة للحصول عليها، لكن ذلك باء بالفشل، فالأمر بيد السلطات الإسرائيلية".
ترفض إسرائيل تسجيلهم
عدم حصول سعادة على وثيقة هوية، حرمها من حقها في التنقل بين الأراضي الفلسطينية، وحتى من العودة إلى الجزائر، وكذلك من العلاج في الخارج أو داخل إسرائيل، وإكمال دراستها، ومثلها نحو خمسة آلاف فلسطيني في قطاع غزة ممَن فقدوا حقهم في الحصول على هوية (بطاقة قومية) ولا يستطيعون إصدار جواز سفر رسمي ومعتمد، لأن إسرائيل تعتقد أنهم دخلوا القطاع بطريقة غير قانونية.
بدأت قصة فاقدي الهوية في غزة عام 1967، عندما أجرت السلطات العسكرية الإسرائيلية تعداداً سكانياً في القطاع، ولم يسجَل سوى مَن كان موجوداً فيه حينها، مع استثناء الذين كانوا خارجه، ويقدَّر عددهم بنحو 390 ألف شخص، بحسب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان (منظمة دولية).
ومنذ ذلك الحين، ترفض إسرائيل تسجيل العائدين إلى القطاع (تمكنوا من دخوله في فترات مختلفة وبطرق متعددة) في الدوائر الرسمية الحكومية، وترفض السماح للسلطة الفلسطينية بإجراء ذلك، ما فاقم المشكلة. ويقول مدير مكتب المرصد الأورومتوسطي في الأراضي الفلسطينية أنس الجرجاوي "نحن لا نتحدث عن جيل واحد، بل أجيال توارثت المشكلة، بمعنى الجد الذي حُرم من الحصول على بطاقة هوية ورّث المشكلة لحفيده أيضاً".
كيف تصدر السلطة الهويات؟
وتمكن عدد من هؤلاء أو أحفادهم من دخول غزة، عبر تصاريح زيارة مؤقتة منحتها السلطات الإسرائيلية لهم أثناء سيطرتها على القطاع (قبل عام 2005)، وجزء منهم وصل إبان فترة سيطرة السلطة (حتى عام 2007)، والبعض الآخر دخل في فترات تفجير الجدار الحدودي مع مصر (عام 2008)، وآخرون اجتازوا الأنفاق التي كانت منتشرة على طرفَي حدود غزة مع مصر (أُقفِلت عام 2015).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الواقع، قبل إنشاء السلطة الفلسطينية، كانت إسرائيل هي التي تصدر بطاقات الهوية، وما زالت كذلك، لكن من خلال تفويض وزارات السلطة بالأمر مع الحفاظ على السجل السكاني وفق الشكل والمعلومات الذي تسلمته من إسرائيل، وتعمل على إدارته من ناحية التسجيل والتوثيق وإصدار الوثائق والشهادات العالقة، مع ضرورة إبلاغ الجانب الإسرائيلي بكل المستجدات.
وتقتصر مهمة السلطة الفلسطينية على إجراء تعديلات وإضافة الأسماء المسجَلة مسبقاً من الجانب الإسرائيلي (الذين جرى حصرهم عام 1967)، أما الأسماء الجديدة (خارج الحصر) فلا تملك السلطة حق تسجيلها ومنحها الهوية إلا بعد أخذ موافقة إسرائيلية.
وتشير سعادة إلى أنها تقدمت برفقة عدد ممَن يعانون من ذات المشكلة، أكثر من مرة للحصول على الهوية، لكنها لم تنجح في ذلك، إذ تقدمت بطلب من السلطات الإسرائيلية، وآخر من دائرة الشؤون المدنية (تتبع للسلطة الفلسطينية)، ثم لوزارة الداخلية في غزة.
تجاوز قانوني
وأكد المدير الإقليمي للمرصد الأورومتوسطي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أنس الجرجاوي أن "إسرائيل هي المسؤولة الأولى عن هذه المشكلة، وبالتالي هي الجهة المطالَبة بشكل أساسي بحلها من خلال تسجيلهم في السجلات المدنية والسماح بإصدار بطاقات قومية لهم".
من جهته، قال رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني، صلاح عبد العاطي، إن "تل أبيب تعتقد أن عملية تسجيلهم ومنحهم هويات يأتي من باب السماح لهم بالعودة إلى فلسطين، وهي لا ترغب بضمان تحقيق الفلسطينيين هذا الحق".
ومن الناحية القانونية، يشير عبد العاطي إلى أن ذلك "يُعدّ مخالفةً وانتهاكاً جسيماً لكل الاتفاقيات الدولية، بما فيها قواعد القانون الدولي الإنساني، واتفاقية جنيف الرابعة، ومخالفة لكل قواعد القانون الدولي الخاص بحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية".
ويشير الجرجاوي في هذا الصدد إلى أن "آثاراً وخيمة ترتبت على عدم حصول فاقدي الهوية على بطاقة قومية، إذ فقدوا، نتيجة ذلك، حقهم بالتنقل والسفر، وفرص التعلّم في الخارج، والالتقاء بعائلاتهم والعمل الرسمي، وحق العلاج في الخارج، والقيود على الإجراءات المصرفية ونقل الأموال وتسلم الحوالات الواردة".
هويات وجوازات سفر مؤقتة
إلا أنه بعد سيطرة حركة "حماس" على الحكم في غزة عام 2007، أصدرت السلطة الحاكمة في القطاع هويات مؤقتة لهذه الفئة، في إطار توفير البدائل، التي تسهل حياتهم ومعاملاتهم داخلياً، كالزواج والتعليم والعمل وتلقي الخدمات المختلفة. وأكد الجرجاوي أن "هؤلاء يتمتعون بحقوق المواطنة داخل القطاع فقط، لكنهم لا يستطيعون ممارسة أي حق لهم خارج حدود غزة".
ولاحقاً، أصدرت السلطة الفلسطينية جواز سفر لفاقدي الهوية، يُطلق عليه اسم الجواز "المصفّر"، لكنه يفتقد إلى رقم حقيقي، إذ يوضع في خانة الهوية رقماً وهمياً يبدأ بصفرين، لا تعترف به إسرائيل، الأمر الذي يجعله من دون قيمة.
وسط هذه الأجواء، أعلن مدير الدائرة الإعلامية في الشؤون المدنية في السلطة الفلسطينية، وليد وهدان، أنهم يبذلون جهداً كبيراً لتسجيل هؤلاء ومنحهم بطاقة هوية، لكن إسرائيل ترفض الأمر، وتجمد العمل في هذا الملف منذ عام 2008، الأمر الذي يترتب عليه ضياع حقوق كثيرة لـ "فاقدي الهوية".
الموقف الإسرائيلي
في المقابل، ترى إسرائيل أنها تقدم تسهيلات لفاقدي الهويات، إذ يقول منسق عمليات الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية كميل أبو ركن، إنها كانت "تقبل ألف طلب سنوياً من الأشخاص الذين يصلون إلى الأراضي الفلسطينية وهم غير مسجلين في التعداد السكاني، ثمّ ارتفعت النسبة إلى ثلاثة آلاف طلب سنوياً، وبعدها إلى أربعة آلاف طلب، وهذا تساهل مع جمع الشمل ويسهّل عملية التسجيل".
وترى إسرائيل أنها أنهت ملف الأشخاص فاقدي الهوية في الضفة الغربية تدريجاً، لكنها علقت ملفات أولئك الذين يعيشون في القطاع بعد سيطرة "حركة حماس" على الحكم فيها.