في روايته "جرما الترجمان" (دار تشكيل – الرياض، مكتبة تنمية – القاهرة)، يواصل الكاتب السعودي محمد حسن علوان صنع معادل روائي للتاريخ، وهو ما بدأه في روايته "موت صغير" (دار الساقي) والتي حاز عنها جائزة البوكر العربية لعام 2017، علماً أنها تقدم سيرة روائية متخيلة لحياة محيي الدين بن عربي منذ ولادته في الأندلس في منتصف القرن السادس الهجري وحتى وفاته في دمشق.
في "جرما الترجمان"، يصنع علوان سيرة لشخصين هامشيين، ارتبطت حياة أحدهما بحياة الآخر، مصادفة، الأول شاب مسيحي من حلب يدعى "جرمانوس"، بات باجتهاد شخصي ملماً بعدد من اللغات، والثاني هو الأمير جم الذي كان يرى أنه الأحق من أخيه بايزيد في حكم السلطنة العثمانية بعد وفاة والدهما السلطان محمد الفاتح. تجري أحداث الرواية في حلب وقبرص وفرنسا وإيطاليا في القرن الخامس عشر الميلادي، عقب نجاح الدولة العثمانية في الاستيلاء على القسطنطينية، وعشية سقوط آخر معاقل المسلمين في الأندلس من ناحية، وأفول دولة المماليك في مصر، من ناحية أخرى، ما شكل بداية لحقبة استعمارية غربية لا تزال تلقي بظلال ثقيلة على المشرق حتى اليوم.
وبحسب التاريخ فإن بايزيد الثاني واجه عصيان أخيه جم الذي ادعى أحقيته في خلافة والدهما محمد الفاتح في الحكم، ثم عرض اقتسام الدولة بينهما، ليختص هو بالبلاد الآسيوية وتكون بالبلاد الأوروبية لبايزيد. لم يقبل بايزيد، وحارب أخاه وقهره حتى أجبره إلى الالتجاء للدولة المملوكية. وقد عاد جم في ما بعد إلى الأناضول وحاول مجدداً التربع على العرش فهزم مرة أخرى، واضطر إلى الهروب من جديد وعاش بقية حياته منفياً (أسيراً بحسب رواية علوان) في أوروبا الغربية. حين وصل إلى مصر، عرفه الناس بـ"جمْجُمة"، وكان المؤرخ ابن إياس قد رحب به ببيتين من الشعر قال فيهما: "يا أيُّها الملكُ الهمَّام ومن لهُ/ أُسدُ الفلا تأتي إليه مُلجَمَة/ قد فاق قدرُك في المُلُوكِ تعاظُماً/ مُذ صحَّ بين يديك نُطق الجَمجُمة".
وبعد أن أمضى في القاهرة نحو أربعة أشهر، عقد جم العزم على الحج، فخرج في ذي القعدة 886هـ مع موكب الحج تصحبه أمه وعياله وعاد في محرم 887هـ، فكان أول من حج من آل عثمان الذكور. ولم يلبث جم أن تقلق من إقامته في مصر، وطلب التوجه إلى بلاده ليحارب أخاه، فجمع السلطان قايتباي الأمراء واستشارهم في ذلك، فحاول الجميع الحيلولة دون سفر "الشاهزاده العثماني"، لكنهم فشلوا في إقناعه، فأذن له السلطان بالسفر حينما يرغب، على رغم أنه كان كارهاً لذلك.
من السريانية إلى الفرنسية والإيطالية
"جرما"، لغته الأم هي السريانية، وبحكم نشأته في حلب تمكن من إجادة العربية، وعلمته أمه التركية سراً، فقد كانت تركية مسلمة وفرض عليها أن تتحول إلى المسيحية، وفق تعاليم الكنيسة الشرقية، إلا أن السرد الذي يتولاه "جرما" نفسه في شكل كتابة سيرية، يبين أنها كانت تمارس طقوس الدين الإسلامي سراً حتى موتها.
تعلم "جرما" كذلك الفرنسية والإيطالية، ومن هنا وجد فيها جم ترجماناً مثالياً، واختاره خلال زيارة خاطفة إلى حلب ليكون ضمن حاشيته، فاصطحبه معه أولاً إلى رودس في حراسة "فرسان الهيكل"، ظاناً أنهم سيساعدوه على خلع بايزيد ليتولى هو حكم السلطنة الذي يجعل منه أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين، ولم ينتبه إلى أنه كان في نظر بابا الفاتيكان وحكام أوروبا وحتى السلطان قايتباي، مجرد ورقة لمساومة شقيقه وابتزازه وإضعافه تمهيداً للقضاء تماماً على الإمبراطورية العثمانية، في أوروبا أولاً ثم في آسيا وأفريقيا تالياً.
السرد في الرواية التي تتألف من 359 صفحة ، يتبع صيغة الفلاش باك، وفي نهايته يكشف السارد أن ما احتوته الرواية هو كتاب قرر، بناء على نصيحة راهب إيطالي أن يحكي فيه سيرته وسيرة الأمير جم منذ أول لقاء جمعهما وحتى تركه يواجه مصيراً قاتماً في "ضيافة" بابا الفاتيكان، ليعود مفلساً بائساً إلى مسقط رأسه حلب.
ويبدأ السرد برسالة يتلقاها "جرما" بعدما تحول من مزارع بالسخرة إلى راهب في أحد الأديرة، يدعوه فيها إلى العودة من قبرص، إلى حلب من دون أن يوضح سبب ذلك الطلب، علماً أنه كان قد خرج من المدينة التي شهدت ولادته وسني صباه، بعد أن باعه أبوه لمزارع إيطالي، ليعمل في مزرعته لخمس سنوات مقابل طعامه ومسكنه، بحجة إبعاده عن أجواء الحرب التي قد تسفر عن تجنيده في أحد جيوشها وتجعله عرضة للقتل في معركة لا ناقة له فيها ولا جمل.
صك الحرية
عندما تلقى جرما رسالة والده، كان قد أنهى سنوات العبودية الخمس وحصل على صك الحرية، ورفض عرض مالك المزرعة بأن يواصل العمل فيها، مفضلاً الانخراط في سلك الرهبنة الذي لم يستمر فيه سوى لشهور قليلة، عاد بعدها إلى حلب الموبوءة آنذاك بالجراد فوق الحروب بالوكالة، ليجد والده الذي يعمل خادماً في كنيسة، على بؤسه القديم بعدما نفد المال الذي كان تقاضاه مقابل بيع ابنه الوحيد. وهنا تلوح مجدداً فرصة للأب ليجني قليلاً من المال، مقابل أن يعمل ابنه ترجماناً لدى الأمير جم بوساطة من جار الأسرة "طونيوس الصبان". يوافق جرما على هذا العرض، بما أنه لم يجد عملاً آخر، وبما أن خطر ضمه عنوة إلى أحد الجيوش المتحاربة في المنطقة لا يزال قائماً. وهكذا يصطحبه جم إلى قلعة في رودس الخاضعة وقتذاك لـ "فرسان الهيكل"، متصوراً أنهم سيساعدونه على خلع أخيه مقابل التعهد بألا يواصل الاستيلاء على مزيد من الممالك الأوروبية التي كانت تعيش في رعب على وقع ما حققه والده محمد الفاتح من انتصارات وسعت من رقعة الدولة العثمانية على حساب أوروبا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعد فترة وجيزة لجأ "فرسان الهيكل" إلى جرما وأجبروه على العمل من أجل إقناع جم الذي لم يتجاوز عمره حينها 25 سنة، بترك رودس والتوجه إلى فرنسا بدعوى أنه سيكون هناك آمناً أكثر على حياته ريثما تسنح فرصة عودته إلى الأناضول ليزيح أخاه من الحكم. جم الذي يعتبر نفسه السلطان الشرعي، أي خليفة المسلمين، سرعان ما انتبه إلى أنه بات مجرد "سلطان مسلم واقع في أسر فرسان مسيحيين"، بحسب راوي العمل.
من باليرمو إلى الفاتيكان
أما "جرما"، فكان يفخر بأنه من السريان الذين هم "المسيحيون الأوائل الذين تكلم الرب مثل كلامهم وكان منهم" (ص183). واقترب "جرما" من أن يتبنى معتقد الدير الذي عاش فيه لأشهر معدودة في قبرص، عندما حاول القسيس أن يقنعه بأن الإيمان الحق يقتضي الاقتناع بأنه "لا يمكن لشخص أن يتخيل أن يكون الإله هو نفسه الإنسان، والإنسان هو نفسه الإله" (ص189). وكثيراً ما كان "جرما" يتذكر أن أمه كانت تقف بين المسيحية والإسلام وتتمسح بثياب يسوع ومحمد معاً". وإلى اللغات التي تمكن من إجادتها، قرر "جرما" أخيراً أن يتعلم الإسبانية، بعدما لاحظ هيمنتها على أهل باليرمو التي فر إليها تاركاً الأمير جم بعدما وجد أنه لم يحرك ساكناً إزاء قيام "فرسان الهيكل" بتعذيبه، ليوافق على إقناع الطامح إلى تولي السلطنة بالسفر إلى فرنسا. في باليرمو سيعمل جرما في إحدى محاكم التفتيش، قبل أن يخطفه الفرسان ويعيدوه للعمل في خدمة أسيرهم جم، ومن ثم يضغطون عليه مجدداً ليقنع سيده بالانتقال إلى روما، لأن بابا الفاتيكان يرغب في استضافته وحمايته ممن يخططون لاستخدامه في ابتزاز أخيه السلطان بايزيد. في روما يواصل جرما العمل ترجماناً للأمير جم، خصوصاً في لقاءاته مع البابا الذي سرعان ما سيتوفى ليحل محله آخر، يضع ذلك التركي وحاشيته في سجن حصين ليشهد من نافذته الاحتفالات الصاخبة بسقوط غرناطة.