رفعت القيادة المركزية الأميركية في أوروبا تأهبها العسكري إلى أعلى مستوى له بعد استئناف القتال بين الانفصاليين الموالين لروسيا والجنود الأوكرانيين الحكوميين في شرق البلاد، بينما عززت روسيا حشودها العسكرية على الحدود مع أوكرانيا، وتزامن هذا التوتر مع اعتراض طائرات حلف "الناتو" طائرات حربية روسية اقتربت من المجال الجوي لدول الحلف مرات عدة خلال الأيام الأخيرة، في وقت شقت ثلاث غواصات نووية روسية طريقها عبر الجليد في المحيط المتجمد الشمالي الذي لم تصل إليه القوات الأميركية من قبل، في استعراض واضح للقوة، فما رسائل روسيا من هذا التصعيد، وكيف ستتصرف معها الولايات المتحدة التي تشعر بأن موسكو تختبر سياسة الرئيس جو بايدن الجديدة تجاه الكرملين؟
تساؤلات مربكة
قدم رفع القيادة العسكرية الأميركية في أوروبا حالة التأهب إلى أعلى مستوى لها خلال الأيام القليلة الماضية دليلاً آخر على أن توتر العلاقات بين واشنطن وموسكو سوف يعرض الطرفين لاختبارات صعبة خلال الأشهر، وربما السنوات المقبلة، فقد أثار استئناف القتال بين الانفصاليين المدعومين من روسيا والجنود الأوكرانيين في شرق أوكرانيا، وحشد القوات الروسية مزيداً من المعدات العسكرية على طول الحدود مع أوكرانيا، بالتزامن مع اعتراض طائرات حلف "الناتو" عدداً كبيراً من المقاتلات والقاذفات الروسية في بحار ومحيطات عدة مختلفة، وتوغل ثلاث غواصات نووية روسية داخل المحيط المتجمد الشمالي، علامات استفهام كبيرة عن أهداف روسيا من هذه التحركات المتتالية، وما إذا كانت تستهدف فقط تحدي سياسة بايدن الخارجية أم تتجاوزها إلى مسافة أبعد بكثير؟
وفي حين لم تدخل الطائرات الروسية المجال الجوي لأي من دول "الناتو" في أوروبا، إلا أن بياناً صادراً عن الحلف، كشف تحركات هذه الطائرات وكيف اعترضت طائرات "الناتو" ست مجموعات مختلفة من الطائرات الروسية بالقرب من المجال الجوي للتحالف في أقل من ست ساعات، وفي اليوم نفسه الذي قالت فيه قيادة الدفاع الجوي في أميركا الشمالية، إنها تعقبت طائرات روسية قبالة سواحل ألاسكا، الأمر الذي فسره مراقبون بأنه استفزاز غير مبرر يستهدف استعراض القوة العسكرية الروسية وإثارة القلق بشأن تأثير ذلك على سلامة حركة الطيران العالمية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من أن طائرات "الناتو" اعتادت هذا السلوك من الطائرات الروسية بعد اعتراضها أكثر من 400 مرة طوال عام 2020، فإن "الناتو" يعتبر رحلات المقاتلات والقاذفات الجوية الروسية تشكل خطراً على الحركة الجوية المدنية فوق أوروبا، لأن الروس غالباً ما يطيرون من دون إرسال رمز يشير إلى موقعهم وارتفاعهم ولا يقدمون خطة طيران أو يتواصلون مع مراقبي الحركة الجوية.
وبالتزامن مع هذا التصعيد، شقت قبل أيام ثلاث غواصات صواريخ روسية تحمل ما يصل إلى 200 سلاح نووي في المحيط المتجمد الشمالي طريقها عبر جليد يبلغ سمكه أقداماً عدة، ما يدل على قدرتها على إجراء مهمتها النووية في حالات الطوارئ، والاختباء تحت الجليد من قوات "الناتو" المضادة للغواصات.
روسيا لاعب رئيس
المسؤولون الأميركيون ومنهم الجنرال جلين فانهيرك قائد القيادة الشمالية الأميركية، اعتبروا أن التصعيد الأخير بمثابة عدوان يشير إلى جهود موسكو لإعادة تأكيد نفوذها على المسرح العالمي، فعلى سبيل المثال أصبح اعتراض الطائرات الروسية الآن أكثر تعقيداً مما كانت عليه في الماضي، إذ تشمل عمليات الاعتراض نقاطاً عدة لأكثر من طائرة تبقى في المنطقة فترات أطول.
وفي حين أظهرت لقطات فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي أن روسيا تنقل أعداداً كبيرة من الدبابات وناقلات الجند المدرعة ومعدات أخرى إلى المناطق المتاخمة لأوكرانيا وشبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو من أوكرانيا في عام 2014، اعتبر محللون في واشنطن أن روسيا تستخدم تكتيكات معتادة لتحريك الصراع صعوداً وهبوطاً بهدف خلق حالة من عدم الاستقرار وإظهار أن روسيا لاعب رئيس، ولا يمكن استبعاد أن رئاسة بايدن جزء من الحسابات الروسية، وأن موسكو ترى أن الوقت قد حان لإظهار القليل من القوة في مواجهة إدارة بايدن.
أجراس الخطر
بعد سنوات من الجمود غير المستقر، دق المسؤولون الأميركيون والأوروبيون والأوكرانيون أجراس الخطر بشأن حشد قوات روسية يصل عددها إلى 4000 جندي بالقرب من الحدود مع أوكرانيا، بعد أيام من انتهاء مناورات عسكرية روسية في المنطقة وإعلان موسكو الأسبوع الماضي أنها ستنقل بشكل دائم فوجاً جوياً محمولاً إلى شبه جزيرة القرم.
ويثير التحرك الروسي كثيراً من التساؤلات في حلف "الناتو" حول النوايا الحقيقية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ذلك أن نشر القوات الروسية بأعداد كبيرة نسبياً يجري بطريقة يُقصد بها أن تكون مرئية، بينما لا يبدو أن حجم هذه القوة العسكرية يكفي لغزو الأراضي الأوكرانية المقابلة لشبه جزيرة القرم.
بايدن في مأزق
منذ أن تولى الرئيس بايدن منصبه في البيت الأبيض، لم يتصل بعد بنظيره الأوكراني على الرغم من عمليات التصعيد الروسية الأخيرة، ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن أوكرانيا أصبحت قضية ساخنة في واشنطن بعد جهود الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في استخدام أوكرانيا للتغلب على منافسه بايدن واتهام نجله هانتر بالفساد، وهو ما قد يدفع بايدن إلى عدم الانخراط بشكل شخصي في هذا الصراع وترك الأمر لوزرائه في الإدارة الأميركية على الأقل في الوقت الراهن.
وتمثل الزيادة الأخيرة في النشاط العسكري الروسي، تحدياً جديداً لسياسة بايدن الخارجية بعد تعهده باتخاذ موقف أكثر صرامة مع روسيا من الرئيس السابق ترمب الذي أدت علاقته بالرئيس الروسي بوتين إلى تصاعد الاتهامات ضده بأنه كان لطيفاً وليناً مع موسكو بدرجة غير مقبولة ولا تعبر عن حقيقة الخطر الذي تمثله سياسات بوتين ضد الولايات المتحدة.
فقد رسم بايدن الخط السياسي الذي سيسلكه مع بوتين منذ توليه السلطة في البيت الأبيض وحدده بأنه سيكون الأكثر صرامة، ووصف الرئيس الروسي بأنه قاتل، كما تعهد بمحاسبة روسيا على عمليات القرصنة الأخيرة على شركة "سولارويندز" الأميركية، ومن خلالها تمكنت موسكو من اختراق نظم الكمبيوتر في تسع وزارات ووكالات فيدرالية أميركية وأكثر من 100 شركة أميركية كبرى.
تحرك البنتاغون
انخرط مسؤولو وزارتي الدفاع والخارجية بشكل قوي لاحتواء بوادر الصراع الحالي، فلم يخفِ قادة البنتاغون مخاوفهم من تعزيز القوات الروسية على حدود أوكرانيا بعد تجدد القتال في شرق البلاد، والذي أسفر عن مقتل أربعة جنود أوكرانيين وإصابة اثنين آخرين في 26 مارس (آذار)، فقد أكد جون كيربي المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) رفضه مزيداً من الانتهاكات الروسية للأراضي الأوكرانية، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة تأخذ هذه الانتهاكات على محمل الجد.
واتخذ البنتاغون خطوة رمزية أخرى عبر تواصل الجنرال مارك ميلي رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة عبر الهاتف مع نظيريه الروسي والأوكراني بشكل منفصل، الأربعاء الماضي، لبحث الوضع الأمني في وقت بحث فيه وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا تعزيز التعاون الأمني مع نظيره الأميركي أنتوني بلينكن بعد نحو أسبوع واحد من تأكيد جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي، دعم الولايات المتحدة الثابت لسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها.
موقف صلب
ويتسق هذا التحرك مع موقف بايدن الصلب من أوكرانيا نظراً لتاريخه الطويل في الدفاع عن دعم هذا البلد، بخاصة بعد غزو روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، فبصفته كان نائب الرئيس أوباما في ذلك الوقت والمبعوث الرئيسي للإدارة الأميركية إلى كييف، زار بايدن البلاد ست مرات وتناقش مع قادة البلاد على الهاتف لساعات طويلة، كما قاد جهود إرسال قوات أميركية لتدريب المقاتلين الأوكرانيين وحض كبار المسؤولين على استئصال الفساد.
وفي محاولته عكس السياسات التي انتهجتها إدارة الرئيس ترمب، وافق بايدن، أخيراً، على تقديم مساعدات عسكرية وأمنية إضافية لأوكرانيا بقيمة 125 مليون دولار بما يعزز قدراتها في الدفاع عن حدودها مع روسيا، وشملت هذه المساعدات زورقي دورية بحرية وراداراً، ليصل بذلك إجمالي المساعدات الأمنية التي خصصتها الولايات المتحدة لأوكرانيا أكثر من ملياري دولار منذ عام 2014، بما في ذلك صواريخ "جافلين" المضادة للدبابات.
دور مقيد
غير أن إحدى أكبر المشكلات التي ربما تواجه الولايات المتحدة هي عدم وجود دور مباشر لحلف "الناتو" في صراع أوكرانيا بخلاف تقديم الدعم السياسي إلى كييف، بينما توفر الدول الحليفة التدريب والمعدات والأسلحة، وهو ما دفع مسؤولين سابقين في وزارة الدفاع إلى تقديم النصح بضرورة أن يكون حلف "الناتو" جاهزاً للاستجابة للأزمات، لأن الآثار غير المباشرة للقتال المتجدد بين أوكرانيا والانفصاليين الموالين لموسكو يمكن أن تتطور بسرعة.
وعلى الرغم من أن معظم المحللين يستبعدون اندلاع نزاع شامل بين روسيا وأعضاء "الناتو"، فإنه إذا تجدد شبح القتال في أوكرانيا، فإن ذلك سيكون سبباً كافياً للتذكير بخطأ توقيت سحب واشنطن القوات الأميركية من الشرق الأوسط، لتعزيز تواجدها العسكري في شرق آسيا حتى في الوقت الذي تكون فيه أوروبا على حافة الهاوية.