يقدم الروائي والقاص الإماراتي سلطان العميمي لقارئه مجموعته القصصية الخامسة بعنوان "كائن أزرق، أو... ربما" (دار الساقي، 2021)، بعد مجموعته السابقة "إشارة لا تلفت الانتباه" الصادرة عام 2018. ولا ينفك سلطان العميمي الباحث أيضاً في شؤون الشعر الفصيح والنبطي، يعود إلى القصة القصيرة ليكتبها بأفضل حللها من بعد أن كتب الرواية والبحث في مؤلفاته السابقة.
وقد عرف العرب القصة القصيرة التي يعتبر البعض أنها شهدت عصرها الذهبي في الغرب مع "إدغار ألن بو، وغوغول، وتشيخوف، وموباسان وزولا"، وسواهم، ولاحقاً مع الأميركي ريموند كارفر، فكتب القصة القصيرة من الأدباء الرواد العرب كل من "يوسف إدريس، ويوسف الشاروني، وزكريا تامر، ومارون عبود، وفؤاد كنعان، ومحمد زفزاف، ومحمود شقير"، وغيرهم.
يحترم العميمي في مجموعته هذه أصول كتابة القصة القصيرة، أو الأقصوصة، بحسبما وضعه النقاد العالميون، فيقدم إحدى وعشرين أقصوصة تشترك في كون كل منها تطرح موضوعاً واحداً في فضاء سردي متماسك وبقالب لغوي مقتضب وموجز، تطابقاً لما وضعه الكاتب الأميركي إدغار ألن بو (1809- 1849) في أصول هذا الفن، إذ اعتبر هذا الأخير أن القصة القصيرة تقدم شخصيات قليلة وأحداثاً مشدودة إلى عنصر مركزي واحد في إطار من الإيجاز والتماسك.
وعلى الرغم من الإيجاز والاقتضاب اللذين يسيطران على فضاء المجموعة، فإن العميمي ينجح في تحميل عنوان مجموعته آفاقاً واسعة من المعاني، فمن الكائن الأزرق؟ ما صفاته؟ هل هو إنسان؟ هل هو مخلوق أسطوري؟ واللون الأزرق، هل هو لون السماء أم لون البحر أم لون اللالون؟ وهل السماء فعلاً لونها أزرق؟ هل نعيش في عالم سماؤه زرقاء أم أن السماء لا لون لها؟ وكلمة "ربما" نفسها التي تترك العنوان معلقاً في فضاء من الحيرة والتردد، ما معناها؟ ما دلالتها؟ "أو .. ربما"، أو ربما ماذا؟ جو من الغموض والحيرة واللاإجابات، جو من الشاعرية المبهمة التي تجعل القارئ يشرع في قراءة هذه المجموعة من دون أن يكون لديه أدنى توقع لما قد تحمله الصفحات القليلة الآتية.
تقنية الترجيع الأدبي
يعتمد العميمي في كتابته تقنية الترجيع الأدبي (mise en abîme) وهي أكثر ما يلفت القارئ ويشده إلى هذه القصص القصيرة. والترجيع الأدبي هو تقنية كتابة، تنص على أن يخبر الكاتب في قصته كيف يخبر قصته، أي أن هناك قصة داخل القصة والشخصيات الموجودة نفسها موظفة لتجسد مصغراً للقصة المجملة العامة. وبحسب "معجم مصطلحات نقد الرواية" للناقد اللبناني لطيف زيتوني فالترجيع هو أن "يتضمن النص جزءاً يرجع، أي يكرر، مضمون الكل،... والغالب في الترجيع الأدبي أن يكون حكاية ثانوية أو مشهداً أو حلماً ترويه إحدى الشخصيات ويختصر مضمون الرواية". (ص: 51) فتتخذ القصة من نفسها موضوعاً لها، وهو أمر يقع عليه القارئ في قصص متعددة، منها القصة الثالثة "ماذا لو" التي يقول فيها الحفيد لجده في حديث يختزل جو المجموعة القصصية كلها "ماذا لو اكتشفت في لحظة أنك مجرد شخصية مسيرة في قصة قصيرة من مجموعة قصصية عنوانها: "كائن أزرق، أو... ربما" " (ص: 13.)
فكأن الشخصيات تعلم أنها شخصيات في مجموعة العميمي، وكأنها تخبر القارئ أنه هو الآخر جزء من هذه الحيلة الأدبية، وأن العميمي لا يكتب القصص بمفرده، وإنما يجب أن يستمع لها. ولا يوقف العميمي لعبته السردية عند هذا الحد، ففي القصة الأخيرة من مجموعته يختار أن ينهي مجموعته بغمزة ماهرة للقارئ قائلاً على لسان شخصيته "حلم بأنه يؤدي دور شخصية مصابة بحالة نفسية في قصة قصيرة، وأن قارئاً يقرأ قصته الآن، وينتظر نهاية مفاجئة أو غريبة له، قبل أن ينتقل هذا القارئ إلى قصة أخرى". يحول العميمي قارئه إلى شريك في جريمة الكتابة، ليصبح هذا القارئ نفسه، الذي لا يعرف ماذا ينتظر، شخصية تعلم بوجودها الشخصيات الأخرى وتترك لها موضعاً من السرد.
ويضاعف العميمي مراوغته الأدبية في قصة رائعة الحبك هي القصة الثانية من المجموعة، فيتوقف فيها عند لعبة شد الحبال بين الكاتب وشخصيته. فتظهر هذه القصة كواليس عملية التأليف وكيف تتم المساومات بين الكاتب وشخصياته ليخرج النص بحلته النهائية التي ترضي الكاتب والشخصيات على حد سواء.
أما أوج تقنية الترجيع هذه، فهو أن يدخل العميمي نفسه وأعماله السابقة في قصصه وعلى لسان شخصياته لتكون قصة "الممشى" ذروة سرد السرد أو ذروة تقنية إدخال شخص الكاتب ضمن النص، فتقول الشخصية إنها تريد الانتقام من العميمي الذي لم يمنحها دوراً في مجموعته القصصية "تفاحة الدخول إلى الجنة" وهي المجموعة القصصية الثانية للعميمي الصادرة عام 2012. الإهداء نفسه في هذه المجموعة هو لفتة هادئة إلى رواية سابقة للعميمي، لتتجلى أعمال العميمي كلها ضمن إطار مشروع كتابي متماسك يذكر كل عمل منه بالأعمال السابقة ويحرك حساسية القارئ وحنكته ليكتشف الألغاز والعودات إلى نصوص أخرى.
مشاهد من المجتمع
ولا يمكن ألا يلتفت القارئ إلى القصة الرابعة عشرة ضمن هذه المجموعة وعنوانها "سامسا"، وهو اسم شخصية كافكا في رائعته الأدبية "التحول" التي يتحول فيها البطل إلى صرصار. يختار العميمي في هذه القصة أن يعتمد الفكاهة والهزل ليقدم غريغوري سامسا إنساناً من جديد من بعد أن أمضى قرناً من الزمن على هيأة صرصار. وقد يكون في الأمر شيء من المبالغة، إن قلنا إنه يليق بهذه القصة القصيرة أن تتحول إلى رواية ممتعة تكمل عمل كافكا، تماماً كما فعل الجزائري كمال داود عندما أكمل أو رد على قصة "الغريب" لألبير كامو بعد مرور سنوات عليها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلى جانب تقنيات الكتابة البارعة التي يوظفها العميمي، نراه يقدم لقارئه موضوعات ومشاهد من المجتمع كمثل تجاور المآسي والأفراح في هذه الحياة، وذلك في القصة السادسة بعنوان "مقعد شاغر"، كما يصور نفاق المجتمع وأهله، عندما تدعي إحدى الشخصيات أن الموسيقى حرام، بينما هي تستمع إليها سراً وطيلة الوقت. وتبقى القصة الخامسة عشرة ذروة الرمزية حين يلمح العميمي إلى أن الجثة المحمولة ما هي إلا العادات والتقاليد التي تثقل أحياناً على جيل الشباب المبدع والخلاق من دون أن تأتي إليه بالمفيد.
"كائن أزرق، أو... ربما" مجموعة سلطان العميمي الخامسة، مجموعة موجزة مقتضبة تحمل في ثناياها تقنية كتابة ممتعة إضافة إلى وجود عامل المفاجأة الذي يترك القارئ مقطوع الأنفاس طيلة مدة القراءة. فيحصر العميمي انتباه قارئه في موضع واحد ويلبس شخصياته ما يريده من موضوعات وتقنيات ويتمكن في نهاية الأمر من تطويع اللغة بحيث يجد القارئ أنه لا كلمة واحدة تقع في غير مكانها وأنه لا جملة يمكن حذفها.