ما أشبه جائحة اليوم، فيروس كورونا، بوباء الإنفلونزا الإسبانية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى! وهذا الشبه لم يخفَ على جيس قطن، المحاضرة في الأدب الإنجليزي والفلسفة في جامعة كارديف. فهي لاحظت في مقالة نُشرت في "ذي كونفيرسايشن" بعنوان " فيرجينيا وولف: عن الموت والمرض في قلب السردية البريطانية" أن المرض يُسقَط خارج الذاكرة الثقافية والتاريخية على خلاف الحرب. وهذه مدار بطولات وانتصارات، بينما المرض والوفيات الناجمة عنه يُلفظان خارج تاريخ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، ويُسلّط الضوء فحسب على مواطن القوة والمجد في الحرب، على ما كتبت الأستاذة الجامعية البريطانية والكاتبة إليزابيث أوتكا في كتابها "الحداثة الوبائية" [أو الحداثة المتفشية] (2019).
فحين يصيبنا المرض، على ما لاحظت الكاتبة الحداثوية فيرجينيا وولف "لا نعود جنوداً في الصفوف الأمامية بل نُعدّ فارّين". فوولف لم يخفَ عليها بعيد الحرب العالمية الأولى، أن الإنفلونزا الإسبانية في 1919 تتهدد سردية الانتصار الوطني في وقت تسري على نحو خفي وغير متوقع و"خبط عشواء" والناس أمامها ضعفاء وسواسية.
وليست دواعي تناول وولف المسألة أدبية ووطنية فحسب، فالإنفلونزا أصابتها أكثر من مرة بين 1916 و1925، وكانت طريحة الفراش واضطرت إلى العزلة الذاتية لردح من الزمن في "غرفتها". وهي صاحبة ما هو أقرب إلى "مانيفستو" نسوي عنوانه "غرفة تخص المرء نفسه" تتناول فيه تهميش النساء في الدوائر العامة والأكاديمية وتخلص إلى أن حيازة حجرة خاصة بالواحدة منهن ومردوداً مالياً من شأنهما إفساح المجال أمام إنجازات الإناث وحفظ مكانة لهن في العالم.
وكتبت وولف في مذكراتها عن الإنفلونزا الإسبانية، قائلة "نحن نكابد وباء لا نظير له منذ الطاعون الأسود- أو الموت الأسود على ما يُعرف بالإنجلزية- وفق صحيفة ذي تايمز. وتعود ملكية الصحيفة هذه إلى اللورد نوثكليف". فالكاتبة لاحظت ساخرة أن هذه الصحيفة تخشى أن تصيب الإنفلونزا الإسبانية اللورد نورثكليف، مالك الصحيفة و"ديلي ميرور" وغيرهما من الصحف، وتودي ببريطانيا إلى السلام. فهو كان من أشد مناصري الحرب ومنتقدي تخاذل السياسيين في بلاده "ومؤجج المشاعر القومية عن طريق إمبراطوريته من الصحف الشعبية". وهي بعد إصابتها، أقرّت بخطورة الإنفلونزا، وأملت في أن يسهم الوباء في طي الحرب.
وتنبّه جيس قطن إلى أن استعادة أعمال وولف، تحديداً رواية "مسز دالاواي"، في ذكرى وفاة الكاتبة الثمانين وأثناء جائحة تعصف بالمعمورة، مربكة ومفيدة في وقت المجتمع البريطاني يعيش حال طوارئ صحية. ففي الرواية التي تحمل اسمها، كانت "مسز دالاواي" شخصية ناجية من الإنفلونزا الإسبانية في 1919، والحياة تسري في "شرايين" النص، إذ تكتشف البطلة متع العيش وجمال الطبيعة ذات صباح لندني في يونيو (حزيران).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وترى قطن أن شراء "مسز دالاواي" في مطلع الرواية أزهاراً أهدتها لنفسها احتفالاً بالخروج من المنزل، يكتسي معنى آخر هذا العام مع انكماش رقعة عالمنا وحياتنا اليومية على وقع الجائحة. فمعانقة كلاريسا دالاواي الحياة بعد عزل ذاتي مطوّل تحمل على التفاؤل على الرغم من الموت. فإذ تحتفي كلاريسا بالحياة، يبلغها خبر انتحار سيبتيوموس سميث، شاب من قدامى المحاربين. وكانت وولف حين باشرت الرواية تحسب أن المطاف سينتهي بـ"مسز دالاواي" إلى الانتحار خلال حفلة. ولكنها ابتكرت شخصية سيبتيوموس سميث، وهو في مثابة قرين كلاريسا، وصار في وسعها مقاربة الموت وتجاوزه في هذه الرواية التي حملت القارئ معها إلى سبر أغوار حياة البطلة الداخلية. وأدركت وولف أن حياة عامة الناس تهمّش إلى خارج المروية الوطنية المتخيلة على ما حصل في بريطانيا حين أفردت السردية مكانة تسمو إلى البطولة وكللت بها محاربين وسياسيين وغيرهم ولكنها لم تتناول الإنفلونزا الإسبانية و"أبطالها". فمكابدة المرض لا تستقيم في ميزان البطولة.
واستطاعت وولف أن تنقل لنا عُسر إدراك الموت، فالحياة تعصى علينا في حضوره. فأمام الوحدة في الفقدان في وقت تتداعى أشكال الحداد الجماعية، تخلص جيس قطن إلى أن صاحبة "مسز دالاواي" تمنحنا كلمات الحداد الفردي خارج الإطار الجماعي الرسمي.