حين تتحول الجنة إلى مكان معلق يحكم على ساكنيه بالجمود، يصبح السعي إلى الخروج منها أمراً مبرراً. هذا ما نخرج به من رواية "الجنة أجمل من بعيد" للروائية اللبنانية كاتيا الطويل، الصادرة حديثاً عن دار نوفل- أنطوان. وهي الثانية بعد أولى صدرت في عام 2015 بعنوان "السماء تهرب كل يوم". وغني عن البيان ما بين العنوانين من تشابه، فالجنة البعيدة لا تبعد عن السماء الهاربة.
لعنة الكتابة هي الموضوع الذي تتمحور حوله الرواية، فالمدمن على الكتابة لا شفاء له. وهو محكوم بمزاولتها ما دام على قيد الحياة. إنها عقوبة أبدية أنزلتها الآلهة القديمة بأولئك الذين تجرأوا على وسرقة النار المقدسة. وإذا بيننا آلاف النسخ من بروميثيوس، وآلاف الأفاعي والنسور. وإذا كان الموضوع سبق أن عولج في أعمال سردية عدة، روائية وقصصية، بشكل أو بآخر، فإن كاتيا الطويل، في معالجتها إياه، تتفرد عن الآخرين في تخصيص رواية كاملة له. تتناول فيها العلاقات بين الكاتب والشخصية الروائية والقارئ، طيلة مئتين وثمانين صفحة. وترصد تمظهراتها المختلفة وتبادل الأدوار بين أطرافها الثلاثة، لا سيما الأولين منها، فيتحول الكاتب إلى شخصية روائية، وتتحول الشخصية الروائية إلى كاتب، ويكون على الطرف الثالث أن يخضع للتجاذب بينهما.
الكاتب والشخصية
منذ الصفحات الأولى في الرواية، تطرح الكاتبة إشكالية العلاقة بين الكاتب والشخصية الروائية، فتسند إلى الأخيرة قولها: "أنا الغريب الذي لا يعرف لماذا خلق سأبدأ هذه الرواية من دون انتظار الكاتبة. سأكتب روايتي، وستساعدونني في ذلك. أطالب بحقي في أن أكتب روايتي بنفسي" (ص 12). وتضعنا إزاء شخصية روائية متمردة على كاتبها تطالب بحقها في كتابة روايتها بنفسها. غير أنها في الوقت نفسه تطلب مساعدة القراء لتنفيذ هذا الحق. وعليه، إزاء تخلف الكاتبة عن القيام بدورها، وخضوعها لمزاج متقلب، وعدم كتابتها رواية الشخصية بنفسها، تشعر الأخيرة أنها أسيرة الصفحات البيض، لا تستطيع البقاء حيث هي خشية إعراض القراء عنها، فتبقى مجرد كائن ورقي على الرف. ولا الكاتبة تكتبها، فتتحرر من جنتها البيضاء، وتدرك حريتها أو موتها، فترتاح.
وفي مواجهة هذه الحالة الغريبة، تتخذ الشخصية قرار الكتابة بنفسها، بمعزل عن الكاتبة المتلكئة عن القيام بواجبها، لكنها في الوقت نفسه، تلجأ إلى استعطاف القراء وإثارة اهتمامهم كي يقرأوها، فيسهمون في تحريرها. وهكذا، تجعل الطويل من الشخصية الروائية كاتباً، ومن الكاتبة والقراء شخصيتين روائيتين، في انقلاب واضح للأدوار بين أطراف العلاقة الثلاثية. ويكون لكل طرف دوره الجديد الذي يكسر دوره النمطي في الرواية التقليدية.
الشخصية الروائية
الشخصية، بما هي كاتب، تقوم بممارسة فعل الكتابة كي تخرج من ورطتها. تتوجه إلى القراء مستخدمة آليات الإغواء والإغراء والترغيب والترهيب كي تضمن قراءتهم الرواية حتى نهايتها، فلا تبقى أسيرة الصفحات البيض والرف. تنخرط في حوار طويل مع الكاتبة بهدف حثها على متابعة الكتابة، وتعديل مسار الشخصية، وتحديد مصيرها. تعقد اجتماعاً سرياً لشخصيات من روايات عالمية لتستعين بها في اجتراح الحلول لمأزقها. ويترتب على هذا الدور المركب نتائج معينة. تتمظهر في فشل الشخصية في كتابة روايتها بعد سبع محاولات تمخضت عن بدايات غير مكتملة. فشلها في إقناع الكاتبة باستئناف الكتابة قبل أوانها. انقلاب السحر على الساحر في الاجتماع السري، فقيام الشخصية بسرقة قلم الكاتبة، وفقاً للتوصية الصادرة عن الاجتماع، يؤدي إلى إنزال عقوبة أبدية بالشخصية، تقضي بأن تكتب روايتها في النهار، وبأن يقوم الليل بمحوها. عدم التأكد من نجاحها في استقطاب القراء، على الرغم كل الوسائل المستخدمة لذلك، ما يدفع إلى الاستنتاج أن تمرد الشخصية قد فشل، وأن للكاتب دوره، وللشخصية دورها، ولا مجال للخلط بين الدورين.
المحاولات السبع
على أنّ لا بد من الإشارة إلى أن المحاولات السبع الفاشلة لكتابة رواية، تتمحور حول سبعة ذكور يتحدرون من خلفيات اجتماعية مختلفة، ولكل منهم عطبه الذي يؤدي به إلى نهاية معينة؛ فالأخ الأكبر في المحاولة الأولى معطوب بالدلال المفرط واللامبالاة ما يجعله يعيش على هامش الحياة. والأخ الأصغر في المحاولة الثانية معطوب بالتهميش الأسري على الرغم من نجاحاته التي لا يراها أحد، ما يدفعه إلى الابتعاد عن الأسرة واجتراح حياته الخاصة. والشاب المدلل في المحاولة الثالثة معطوب بالكذب والعلاقات العابرة ما يؤدي إلى الهرب الدائم والتخفي عن الأنظار. والشاب الروسي في المحاولة الرابعة معطوب بالسرقة فينتهي به المطاف في السجن. وناقل الحقائب الخطيرة في المحاولة الخامسة معطوب بالتهريب فيتحول إلى مطارد من مجهولين. وبائع الجرائد في المحاولة السادسة معطوب بالتعاون مع أجهزة الأمن ما يسقطه قتيلاً أمام كشكه. والرجل الفقير في المحاولة السابعة الذي يشكل مرآة للشخصية الراوية معطوب بالاعتداء على نبع جاره، فيكون مصيره أن يحكم عليه بملازمة النبع إلى الأبد، لا يمكنه البقاء، ولا يستطيع المغادرة، كما هي حال الشخصية الروائية المتمردة على كاتبها، وكما هي أحوال المحكومين بالكتابة.
الكاتبة، بما هي شخصية روائية، ترسمها الطويل من منظور تلك الشخصية، فتبدو مزاجية، مستبدة، بسيطة، مضطربة، غريبة الأطوار، وغير متزنة. وترسمها من منظور القارئ، فتبدو متريثة، متحفظة، ترفض التنازل عن صلاحياتها، تتحكم بمقاليد أمورها، لا تضعف أمام طلبات الشخصية، ولا ترضخ لابتزازها، بل تنصحها، وتحذرها من عواقب طموحها، وتحاول استيعاب تمردها. وإذا كان المنظور الأول يتم التعبير عنه بلسان الشخصية مباشرةً، فإن المنظور الثاني مستوحى من الحوار الطويل بين الكاتبة والشخصية. وبمعزل عن مصدر المنظورين، فهما يتكاملان في رسم صورة نموذجية للكاتبة، تنطبق على كتاب كثيرين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
القراء، بما هم شخصية روائية، هم زاوية في مثلث الأطراف الثلاثة آنفة الذكر، وهم لا يحضرون في النص بشكل مباشر، بل بشكل غير مباشر، من خلال منظور الراوي/ الشخصية الروائية، ويشكلون عنصراً مهماً في تحديد مسارها ومصيرها، فإذا ما أعرضوا عن القراءة، تبقى الشخصية عالقة في جنتها المعلقة، مركونة على الرف. وإذا ما تابعوا القراءة، تمضي الأمور قدماً، وتنمو الشخصية، وتتقدم حتى تبلغ نهاية الرواية، فتخرج منها وتنزل من على الرف، أو تموت. وفي الحالتين تتحرر من إقامتها الجبرية في صفحات بيضاء. وانطلاقاً من هذا المنظور، تشغل علاقات الشخصية بهم صفحات كثيرة في الرواية، وتتخذ تمظهرات كثيرة، تختلف فيما بينها؛ فهي موضع استرضاء واستعطاف حيناً، وموضع ترغيب وترهيب حيناً ثانياً، وهي موضع لوم وتقريع حيناً ثالثاً. وهذا الرسم الذي تقوم به الكاتبة لشخصية القراء الروائية يجعل المتلقي شريكاً في نجاح العمل الأدبي، ولا يقصره على الكاتب وصنائعه من الشخوص.
الخطاب الروائي
هذه الأدوار تعبر عنها كاتيا الطويل في خطاب روائي يقوم على: وحدة الراوي الشريك، وتعدد صيغ الكلام، وتعدد الأنماط، ورشاقة السرد، وطلاوة الحوار، وسهولة الانتقال بين هذه المقومات؛ فالراوي هو الشخصية الروائية المتمردة على كاتبها، الباحثة عن آلية للخروج من جنة الرواية. وصيغ الكلام تتراوح بين صيغة المتكلم حين يتحدث الراوي عن نفسه، وصيغة المخاطب حين يتوجه إلى القراء، وصيغة الغائب حين يتناول الكاتبة. وأنماط الكلام تتراوح بين النمط السردي، خلال رواية حكايته وحكايات الآخرين، ويشغل المساحة الأكبر في النص، والنمط الحواري، خلال حواره الطويل مع الكاتبة، ويلي الأول في المساحة، والنمط الوصفي، خلال وصف المكان الروائي ومحتوياته، ويشغل المساحة الأصغر في النص. والسرد يتم التعبير عنه بلغة رشيقة، تلقائية، هي في منزلة وسطى بين منزلتي التسطيح والتقعير.
والحوار يتم في جمل قصيرة غالباً، تسمي الأشياء بأسمائها، وتتجنب الوعظ والإرشاد. والروائية عرفت كيف تستخدم هذه المكونات بمقادير مناسبة كطباخة ماهرة، واستطاعت التحرك بينها بسهولة ويسر، فتمخض عن ذلك الاستخدام وهذه الحركة نص روائي مختلف. ينجح في الإمساك بتلابيب القارئ منذ البداية، ولا يفلته حتى يأتي على نهايتها. بتلك الحكايات الغرائبية الطريفة، وبهذا الخطاب الروائي المركب، استطاعت كاتيا الطويل الكاتبة أن تنجح حيث تفشل الشخصية الروائية، فخرجت من جنة الرواية إلى جحيم البحث عن رواية جديدة.