وقعت بكين وطهران اتفاقية للتعاون الاقتصادي والاستراتيجي بين البلدين لمدة 25 عاماً في أواخر مارس (آذار) الماضي، تعد تتويجاً لتنامي العلاقات الاقتصادية والتجارية والعسكرية بين البلدين منذ عقود. وعلى الرغم من عدم الكشف عن محتويات الاتفاقية بالكامل، فإنها تشمل استثمارات صينية ضخمة في قطاعات البنية التحتية والصناعة والاقتصاد والبتروكيماويات، وتربط إيران بشكل كبير بالمشروع الصيني الأضخم "مبادرة الحزام والطريق" كأداة للتأثير العالمي، كما تنطوي الاتفاقية على تعزيز التعاون العسكري والاستخباراتي ومكافحة الإرهاب، وفق وسائل إعلام أميركية.
وينظر المراقبون الغربيون إلى الاتفاقية التي تبلغ قيمتها 400 مليار دولار باعتبارها إعلاناً رسمياً عن محور ثلاثي مناوئ للولايات المتحدة، وربما أوروبا، إذ يرون أن التحدي الأكبر الذي يواجه النظام الدولي في فترة ما بعد الحرب الباردة يتمثل في القوة المتنامية للدول الطموحة المعارضة للغرب. وبدورها استغلت إيران وروسيا والصين الانسحاب الأميركي من المسرح العالمي، الذي بدأ منذ قرار الرئيس الأميركي الأسبق بارك أوباما في 2014 بالانسحاب من أفغانستان، وزاده سياسات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب.
ورحبت موسكو بالاتفاق الصيني - الإيراني، بحسب ما جاء في الإعلام الروسي، فنقلت وكالة "نوفوستي" الروسية عن مصدر في وزارة الخارجية الروسية الأسبوع الماضي قوله، إن المبادرة الصينية للأمن والاستقرار في الشرق الأوسط منسجمة مع المواقف الروسية، مشيراً إلى أن "بكين تعرض خطة بناءة للعمل، تقضي بالتخلي عن النظر إلى هذه المنطقة من ناحية التنافس الجيوسياسي".
تنافس أم تعاون؟
ومع ذلك، تطرح الاتفاقية بين إيران والصين تساؤلاً عما إذا كانت هناك نقطة جديدة للتنافس أم التعاون بين موسكو وبكين. ويعتقد المراقبون أن روسيا والصين تتحدان في رغبة مشتركة في تحدي مبادئ النظام الدولي الذي يهيمن عليه الغرب، وأن الشراكة الاستراتيجية الصينية الروسية أصبحت أكثر واقعية منذ انهيار علاقة روسيا مع الغرب في شأن أوكرانيا في 2014، ومع ذلك تبقى العلاقة بين البلدين معقدة، في ظل توازن المنافسة والتعاون بشكل واضح في عدد من مناطق النفوذ، وتحديداً آسيا الوسطى والقطب الشمالي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي تعليق لـ "اندبندنت عربية"، قال إيميل أفدالياني، الأكاديمي بالجامعة الأوروبية ومدير دراسات الشرق الأوسط في مؤسسة "جيوكيس" للأبحاث السياسية في جورجيا، "إن العلاقات الروسية الصينية تدخل حقبة جديدة من التعاون في جميع المجالات تقريباً. ومن المؤكد أن الصين أقوى بكثير من الناحية الاقتصادية البحتة، لكن كلا الجانبين حريصان على إبراز تكافؤ شراكتهما، ويقودنا هذا إلى السؤال عما إذا كان للجانبين مناطق تنافس بالفعل".
وأضاف، "يمكنني القول إن آسيا الوسطى على المدى الطويل منطقة تتعارض فيها المصالح الروسية والصينية، ولن يكون على شكل صراع عسكري، بل سيكون منافسة شديدة في المجال الاقتصادي. وثاني أكثر المناطق احتمالاً يمكن أن تكون منطقة القطب الشمالي حيث تلعب الصين دوراً رئيساً، في حين أن روسيا أكثر تمسكاً بفكرة مشاركة القطب الشمالي بين الجيران المباشرين".
آسيا الوسطى والقطب الشمالي
ومن الناحية التاريخية، برزت أهمية آسيا الوسطى لأنها نقطة التقاء الشرق والغرب ومنطقة محاطة بالإمبراطوريات ومجاورة لمناطق تعاني النزاعات وانعدام الأمن، مثل أفغانستان وإقليم شينغيانغ الصيني وإيران، ومع أن هذه المنطقة أُهملت إلى حد كبير خلال الحرب الباردة، إلا أنه أُعيد اكتشاف أهميتها الحيوية سريعاً، بحسب مقال سابق على موقع حلف شمال الأطلسي (الناتو) لتامارا مكرينكو الأكاديمي بجامعة دوندي في اسكتلندا، التي تشير إلى أن هناك اعترافاً متزايداً بآسيا الوسطى كطرف مهم في لعبة التنافس على مخزون بحر قزوين من الطاقة، وكأحد روافد أمن الطاقة الصيني، وكمسرح للنفوذ السياسي الروسي وكمنطقة عبور للنشاط "الإجرامي والتطرف الديني"، الذي بلغ ذروته في أفغانستان. ونظراً إلى هذه الحقائق الإقليمية، تمثل آسيا الوسطى جزءاً من صراعات عدة، تشهد بين الحين والآخر، تنافساً شديداً بين الأطراف الدولية الساعية إلى جذب اهتمام المنطقة والوصول إلى مواردها الطبيعية. وفي الغالب، يُشار إلى الاتفاقات الاقتصادية والعسكرية الثنائية والمتعددة الأطراف التي يُسعى إلى إبرامها مع دول آسيا الوسطى، كأدلة واضحة على التنافس من أجل السيطرة على موارد المنطقة.
كما تشير ورقة بحثية صادرة عن مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، في فبراير (شباط) 2018، إلى أن الصين تبرز كواحدة من أكثر اللاعبين نفوذاً، في آسيا الوسطى، بينما ليس هناك كثير مما يمكن لروسيا فعله حيال ذلك. كما تبدو آفاق الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الروسي قاتمة مقابل مبادرة الحزام والطريق الصينية، فالترتيبات مستقرة إلى حد ما في الوقت الحالي، لكن المخاوف من عدم الاستقرار في جنوب ووسط آسيا أجبرت بكين على زيادة وضعها الأمني هناك ببطء.
وتضيف أن روسيا تعتبر التنمية الاقتصادية لمناطقها الشرقية ضرورة استراتيجية، وهو ما يجعل الاستثمار الصيني ضروري لها، ومع ذلك لا يتحقق الاستثمار الصيني على نطاق بالشكل الذي ترغبه المصالح التجارية الروسية، في حين تستخدم بكين غالباً نفوذها الاقتصادي لانتزاع شروط تجارية مؤاتية.
وفي القطب الشمالي، تحتاج روسيا إلى التعاون مع الصين لتحقيق العديد من أهدافها لتطوير البنية التحتية واستخراج الموارد، فالصين حريصة على الوصول إلى الإمكانات الاقتصادية للقطب الشمالي وتعزيز براعتها التكنولوجية من خلال الشراكة مع روسيا في المشاريع الرئيسة. ومع ذلك، فإن هذا يمثل تحديات جديدة لموسكو التي تحرص بشدة على سيادتها في المنطقة، فيما يبدو أن الصين تمتلك اليد العليا في العلاقة مع روسيا، لكن البلدين سيربحان من التعاون أكثر من المنافسة الصريحة، وبالتأكيد ستتعزز هذه العلاقة، باستثناء في حال تغيير موسكو مسار علاقتها مع الغرب، وهو احتمال غير متوقع.
منطقة تعاون
وبالنسبة إلى إيران، يرى أفدالياني أن الشرق الأوسط يمكن أن يكون منطقة تتعاون فيها روسيا والصين، فبالنسبة لموسكو سيساعد النفوذ الصيني في تقليص طموح الغرب الجيوسياسي، وطالما استمر التنافس بين الغرب وروسيا فإن النفوذ الصيني سيكون موضع ترحيب من موسكو، وسيُنظر إليه على أنه عنصر ضروري لروسيا لتحقيق التوازن مع الغرب وفي بعض الحالات حتى للضغط عليه بالكامل.
ويضيف، إن ما نراه في العديد من المناطق عبر أوراسيا (المنطقة الواقعة بين أوروبا وآسيا)، هو أن روسيا تعمل عن كثب مع مختلف الجهات الفاعلة الإقليمية لإبقاء الغرب في مأزق، ومن ثم فإن نمو نفوذ الصين عبر الاتفاق مع إيران بطريقة ما سيكون مفيداً لموسكو، وسيخدم الغرض نفسه المتمثل في تهميش الغرب.
وفي حين يتوقع أفدالياني أن تظهر شراكة ثلاثية ما غير رسمية بين روسيا والصين وإيران، فإنه على المدى الطويل قد تشعر روسيا بالقلق أيضاً من أن جميع الفرص الاستثمارية المربحة في إيران يمكن أن تستغلها الشركات الصينية، ومع ذلك لن يكون هذا مصدر إزعاج خطيراً للعلاقات الصينية - الروسية.
وتعتقد دراسة كارنيغي أن التهديد الأكبر للغرب من الشراكة الصينية الروسية ينبع من جهودهم لتعديل النظام الدولي لمصلحتهم، وبينما تنتهج كل من روسيا والصين سياسات خارجية نشطة بشكل متزايد، تحتاج السياسة الغربية إلى أن تتصالح مع حقيقة أن شراكتهما موجودة لتبقى.
أولويات على حساب الخلافات
ترتبط إيران والصين بعلاقات تحالف مع روسيا، وشاركتا في مناورة بحرية مشتركة معها شمال المحيط الهندي عام 2019. وتحظى روسيا بعلاقة قوية مع إيران، ففي عام 2001، وقعت موسكو وطهران اتفاقية تعاون مدتها 10 سنوات، متخصصة بالمجال النووي، وتم تمديدها إلى 20 عاماً من خلال تمديدين مدة كل منهما خمس سنوات، إذ انطلقت علاقة روسيا بإيران أواخر التسعينيات بمساعدة الكرملين لطهران في تطوير البنية التحتية للموانئ والسكك الحديدية، ومع تصاعد المخاوف الدولية في شأن برنامج طهران النووي، ودخول العقوبات المبكرة حيز التنفيذ، أصبحت روسيا المورد الوحيد للقطاع النووي الإيراني، حيث أخذت الدور القيادي في بناء مفاعل بوشهر النووي.
كما استثمرت روسيا في أنظمة الدفاع الصاروخي الإيرانية. على سبيل المثال، سلمت صواريخ (إس أيه-20 سي) إلى إيران عام 2016، والتي وفقاً لمدير وكالة استخبارات الدفاع الأميركية السابق روبرت أشلي، وفرت لإيران "المرونة التي يتمتع بها صاروخ أرض-جو استراتيجي طويل المدى وعالي الحركة". وفي يوليو (تموز) 2018، عندما أعلن ترمب عزمه الانسحاب من الاتفاق النووي وإعادة العقوبات الاقتصادية على إيران، تفاخر علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية، بأن روسيا "على استعداد لاستثمار 50 مليار دولار في قطاعي النفط والغاز في إيران".
وفي حين فرضت الأوضاع الداخلية جنباً إلى جنب مع المتغيرات الإقليمية وأولويات السياسة الخارجية على روسيا وإيران تقارباً وتعاوناً على صعيد العديد من الجوانب ليس أقلها العسكرية والأمنية، لا يزال هناك العديد من القضايا الخلافية التي تتراجع إيران عن تحدي روسيا بشأنها، نظراً لعدم تكافؤ القوة أولاً، ولأولوية العلاقات الاستراتيجية ثانياً. فإلى جانب قضية تقسيم بحر قزوين، فإن النفوذ الروسي على منطقة آسيا الوسطى جاء على حساب إيران التي تنظر إلى هذه المنطقة من منطلق هويتها الثقافية والإسلامية.
وعلى الرغم من دعم الكرملين لحصول طهران على الطاقة النووية السلمية، لكنه لم يخف قلقه من وجود دولة مسلحة نووياً على الجانب الجنوبي لبلاده، مما يهدد النفوذ والمصالح الروسية في المنطقة، وهو الدافع وراء دعم موسكو لاتفاق نووي دولي يقوّض الرغبات النووية الإيرانية.
كما أنه ليس خفياً أن هناك مواجهة متوقعة بين موسكو وطهران في سوريا، على الرغم من تنسيق البلدين منذ اندلاع الحرب الأهلية عام 2011. فبحسب معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى (مركز أبحاث في واشنطن)، هناك علامات على مواجهة محتملة تلوح في الأفق بين البلدين في سوريا، انعكست في توترات وقعت العام الماضي بين قوات البلدين في محافظة دير الزور؛ ففي أعقاب الانهيار الإقليمي لتنظيم "داعش"، سارعت روسيا إلى السيطرة على بعض أقسام دير الزور غرب الفرات، إضافة إلى عدة قرى في شرق الفرات حيث ينشط فيها الحرس الثوري الإيراني وقوات الميليشيات الشيعية التابعة لإيران، وتمثلت أولويتها الأساسية في تأمين مواقع استراتيجية مثل المطار العسكري، مما يُكمل وجودها في المطارات والقواعد في أجزاء أخرى من سوريا.
ومقابل الخدمات التي قدمتها روسيا كـ "منقذة" لنظام الأسد، يقول معهد واشنطن إن موسكو تنتهج حملة طويلة الأمد لتوسيع نفوذها في سوريا، وغالباً ما تصور وجود إيران وأنشطتها على أنها تندرج ضمن هذه الحملة.