فقد الجهاز الهضمي في رمضان 2021 مكانته المتفردة، ووجد كل ما هب ودب من قرينه التنفسي، مزاحِماً لهمينته ومزحزِحاً لتفرده. وبعد قرون من السطوة والسلطة غير القابلتين للمراجعة أو المهادنة في شهر رمضان، وجدت المعدة والفم والأمعاء نفسها في منافسة حامية مع الأنف والرئتين والقصبة الهوائية. ووجد الصائم نفسه مشتتاً حائراً بين جهازَيه.
شاشات التلفزيون وأثير الإذاعة وحتى خيوط "تويتر" و"فيسبوك" و"إنستغرام" العنكبوتية يتنازعها أطباء الجهازَين. لم تعد برامج الطهي وأسئلة الفقه وتوك شو رمضان تستعين بأستاذ الجهاز الهضمي ليحذر جموع المشاهدين من الإفراط والتخمة وكثرة تناول الحلويات، بل أصبح لأساتذة الجهاز التنفسي فقرات ثابتة في كل ما سبق ويزيد.
قبضة كورونا في رمضان
رمضان الذي يأتي هذه المرة في عام إحكام كورونا قبضتها على رقاب الجميع ومصائرهم وحيواتهم، يبدو مختلفاً في ظل جهود شعبية عارمة للحفاظ على عادات هذا الشهر، على رغم أنف الوباء. إلا أن مخاوف البعض من ممارسة طقوس رمضان الاجتماعية المستوجبة التلاصق لدرجة التلاحم، واتكال البعض الآخر على وسائل الوقاية والحماية ورفع شعار "ربنا هو الحامي لا سيما في الأيام المفترجة"، يجعلان مشهد رمضان في الشارع المصري قوامه التناقض وإطاره "التباعد المتلاصق".
تلاصق الأجساد المتجمهِرة على كل ما يمكن التجمهر عليه تتحدث عن نفسها. مصارف ذات ساعات عمل متقلصة وجماهير متكدسة، محلات سوبرماركت ممتلئة عن آخرها، مواصلات نقل عام تنضح بركاب بين قعود ووقوف، مساجد مكتظة على آخرها بمصلين يقاومون بكل ما أوتوا من قوة إجراءات الاحتراز أملاً في اكتناز المزيد من الثواب.
رمضان بلا كمامات
الكمامات في نهار رمضان تكاد تكون غائبة تماماً، لا سيما في الأحياء والأسواق الشعبية. قليلون يرتدونها، وإن فعلوا فهي إما أسفل الأنوف أو تحت الذقون. عبوات المطهرات التي كان يتزاحم عليها المواطنون في مثل هذه الأيام قبل عام بالتمام والكمال أصبحت متاحة وبوفرة في كل مكان. العرض أكثر من الطلب، والطلب بات يقتصر على فئات بعينها من دون غيرها. وبعد أشهر كان المصريون يبالغون خلالها في رش المطهرات على كل ما يمكن وما لا يمكن رشه، خرج بند التطهير والتعقيم من مشتريات رمضان ليفسح المجال أمام كميات هائلة من التمور والقطايف والكنافة.
وتظهر هذا العام المنتجات السورية بوفرة واضحة في الأسواق. تين مجفف، مشمشية، قمر الدين، وقائمة طويلة من المنتجات المتاحة في كل ركن من أركان البلاد وبأسعار في متناول كثيرين، وذلك عكس السنوات الماضية. ومع المنتجات السورية التي تملأ الأسواق الرمضانية، تنشط المطاعم السورية الكثيرة في تقديم وجبات الإفطار التي تجد إقبالاً كبيراً، لا سيما أن العديد من المطاعم لم يعد يقدم وجبات السحور في محاولة للتحايل على الوباء.
تحايل الوباء على الجميع
الوباء الذي تحايل على الجميع وقرر أن يمد فترة إقامته ليمضي رمضان الثاني على التوالي مع المصريين لم يكتف بالإقامة، بل قرر أن يزيد من حالات الإصابة التي يصر قطاع عريض من المصريين على عدم نعتها بـ"الموجة الثالثة".
الموجة الثالثة من وباء "كوفيد-19" أو كورونا باتت واضحة المعالم والملامح في مصر. وأكد المتحدث باسم وزارة الصحة والسكان خالد مجاهد واختصاصيون في مكافحة العدوى، أن مصر دخلت الموجة الثالثة بالفعل، وأنه يُتوقَع أن تكون الذروة خلال رمضان وعيد الفطر، إلا أن ذلك لا يلقى آذاناً صاغية من ملايين المصريين.
اعتياد وضجر واحتراز
بين اعتياد الوباء وحدوث إصابات بل ووفيات، وضجر وضيق من الإجراءات الاحترازية والتضييق والإغلاق، وميل فطري إلى اعتبار كل ما يصيب الشخص "إرادة الله" من دون النظر إلى الحرص والوقاية والتعقل، يمضي المصريون قدماً في رمضان. ويسري ذلك بشكل واضح ومفهوم على ملايين العاملين في قطاعات العمل غير الرسمية. ويشير أحدث تعداد اقتصادي للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إلى أن عدد منشآت الاقتصاد غير الرسمي في مصر بلغ مليونَي منشأة، وهو ما يمثل نحو 53 في المئة من إجمالي المنشآت الاقتصادية في مصر. أما عدد العاملين في هذه القطاع غير الرسمي فقد بلغ "رسمياً" أربعة ملايين شخص أغلبهم يعمل في مجال تجارة الجملة والتجزئة والصناعات التحويلية والزراعة والصيد وخدمات الغذاء، أي أن نحو أربعة ملايين أسرة مصرية تعتمد حياتها على العمل اليومي.
وكان هؤلاء أكثر المتضررين في موجة الإغلاق الأولى المصاحبة للفيروس. وهؤلاء هم الممسكون بتلابيب استمرار الحياة العادية، لا سيما في المواسم مثل رمضان، إذ يتضاعف الرزق ويتواتر الخير.
"إللي ما تتسمى"
محمد عامل الدليفري في السوبرماركت، وحسين بائع الخضروات، وهناء بائعة النعناع على الناصية، وفتحي النادل في المقهى، سمية عاملة التعليب في مصنع التمور، وإبراهيم صبي القصاب، وغيرهم ملايين، سعداء ممتنون لقدوم شهر رمضان من دون إغلاق أو تضييق يُذكر. جميعهم لا يود تذكر رمضان الماضي الذي خربت فيه بيوت وقُطعت خلاله أرزاق بسبب "إللي ما تتسمى" (كورونا). وعلى الرغم من ذلك، فإن غالبية هؤلاء المطلقة لا تعتد بإجراءات احترازية أو تلتزم بقواعد وقائية.
فإضافة إلى "الحامي هو الله" و"قل لن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا"، أجمعت الآراء على أن الغالبية لا تتبع هذه الإجراءات، لذا فإن الشخص الوحيد الذي يتبعها لن يكون في مأمن بالضرورة. وجهة النظر التي تميل إلى العشوائية وأسلوب الحياة الذي يعمد إلى القدرية في رمضان، تقابلهما محاولات حثيثة تبذلها الدولة لضبط عداد العدوى الآخذ في الارتفاع وفي الوقت نفسه عدم التضييق على الناس في الشهر المحبب إليهم.
ضجر وقرارات
قدْر بالغ من التذمر والتبرم قوبلت به قرارات "اللجنة العليا لإدارة أزمة فيروس كورونا" في مناسبة رمضان. عدم السماح بإقامة موائد رمضانية، منع الاعتكاف في المساجد وكذلك صلاة التهجد، حظر إقامة تجمعات كبيرة في داخل الأماكن المغلقة مثل سرادقات العزاء أو الاحتفالات في دور المناسبات الملحقة بالمساجد، واتباع إجراءات التباعد والاحتراز في صلاة التراويح وحدها الأقصى نصف ساعة وقائمة من الممنوعات الأخرى التي اعتبرها قطاع من المصريين تعكيراً لا داعي له لروح رمضان وفرحته المنتظرة من عام لعام.
وشهد رمضان هذا العام في يومه الأول، توقيف أحد أبرز الشيوخ المعروفين، لا سيما بين البسطاء، وهو الشيخ عبد الفتاح درويش المعروف باسم "عبد الفتاح الطاروطي"، وغلق مجمع مساجد "الطاروطي" في طاروط في الزقازيق (شرق الدلتا)، وذلك بسبب تزاحم المصلين وقت التراويح وعدم اصطحابهم سجاجيد الصلاة الخاصة بهم وعدم ارتداء الكمامات. كما أن الشيخ تجاهل ما رأى، ومضى قدماً من دون مطالبة المصلين بالالتزام. الطريف أن مساعد الشيخ قال في تصريحات صحافية مبرراً ما حدث بأن "الناس كانت تريد أن تحضر أول صلاة للتراويح، والقلوب متعطشة".
القلوب المتعطشة
القلوب المتعطشة تتجاهل الكمامات وتتناسى سجاجيد الصلاة وتعتبر أن الحامي هو الله، وأن العلاج الوحيد لقبضة الوباء المُحكمة هي الصلاة الجماعية. وذهب البعض إلى القول أن تقييد التراويح بنصف ساعة أمر غير منطقي، وأن العدوى لا تنتظر الدقيقة الـ31، ومن ثم صدرت دعوات لرفع التقييد عن الصلاة.
ويتم استخدام القيود المفروضة على الصلاة سياسياً، كما جرت العادة على مدار عقد مضى. تحديد 30 دقيقة لصلاة التراويح ومنع إقامة موائد الرحمن وغيرها من القرارات، يتم وصمها "عنبكوتياً" من قبل البعض باعتبارها معاداة الدولة للدين وضمن حربها ضد المتدينين! والمتابع لـ "حروب الترند" و"صراعات الهاشتاق" يمكنه أن يسلي صيامه بتقفي أثر التسييس ومتابعة الشد والجذب بين مَن يرى القرارات احترازيةً، من أجل مجابهة الفيروس، ومَن يصر على التعامل معها باعتبارها حرباً على الدين ومعاداة للصائمين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صائمون وتجمعات
ويعرف الصائمون هذا العام أن التجمعات الرمضانية ربما تتعرض بين الحين والآخر ومن دون سابق إنذار إلى حملة تفتيش هنا أو حملة رقابة هناك، وحيث أن البدائل عديدة، فإن التجمعات موجودة وبشدة وبكثرة في النوادي الرياضية على موائد الإفطار وفي الشوارع حيث تتحول سيارات الأهل والأصدقاء إلى موائد ممتدة على رغم أنف الوباء والقرارات.
قرارات الدولة في وادٍ، والمقاهي لا سيما تلك الواقعة في المناطق الشعبية في وادٍ رمضاني آخر. الفنان محمد رمضان المثير للجدل دائماً، سواء لنوعية أدواره أو لأسلوبه في استعراض كونه "نمبر وان" بين شباب المناطق الشعبية، أو لطريقته في الدفاع عن مواقفه ومظهره، نشر صورة على صفحته في أول رمضان لجمهرة شبابية في مقهى شعبي أمام شاشة تلفزيونية تعرض مسلسل "موسى" الذي يقوم ببطولته والذي أكد قبل عرضه أنه "سيكسر الدنيا". وكتب محمد رمضان معلقاً على الصورة "ثقة في الله مقاهي مصر منورة دائماً". ثقة رمضان استفزت آخرين ودعتهم إلى الرد عليه بأن "ثقة في الله التجمهر كانت لمتابعة مباراة باريس سان جيرمان وبايرن ميونيخ".
وسواء كان التجمهر لهذا أو لذاك، تظل الصورة تُظهر العشرات متلاصقين على المقاعد مع ندرة الكمامات، خيراً من ألف كلمة عن الإجراءات الاحترازية.
رمضان يحب اللمة
"رمضان يحب اللمة" (أي التجمع) رسالة تحملها عشرات الإعلانات التي تحفل بها عشرات القنوات التلفزيونية في رمضان. وسواء كانت الدعوة إلى "اللمة" مباشرة أو غير مباشرة، فإن فيها نوستالجيا "لمة ما قبل الوباء" أو تعامل معها باعتبارها عادت وكأن لا وباء ولا مَن يحزنون. واتخذت الغالبية المطلقة من إعلانات العقارات والسلع الغذائية والأجهزة المنزلية والعروض الترفيهية والهواتف المحمولة وعروضها الكثيرة، وحتى الأعمال الخيرية من "اللمة" التي تصل إلى حد الجمهرة، سمةً لها. وعلى عكس العام الماضي الذي تحدثت فيه غالبية الإعلانات على اللمة الافتراضية والتواصل المتباعد والعلاقات الأسرية والاجتماعية التي يمكن الإبقاء عليها عبر رنة هاتف أو وجبة يتم إرسالها عبر تطبيق أو مقطع فيديو يتم تصويره باستخدام منتَج إلكتروني موضوع الإعلان، تعاملت الإعلانات مع رمضان وعاداته هذا العام وكأنها بلا كورونا.
كورونا وخير رمضان
كورونا والخير يتكاملان ولا يتناقضان في رمضان هذا العام. صفحات "فيسبوك" و"تويتر" ومجموعات "واتساب" عامرة بأعمال الخير الرمضانية. نداء من مجموعة سكنية لمَن لديه سيارة ويرغب في التبرع بتوزيع وجبات رمضان على عمال الأمن، رغبة من جيران في المساهمة في فك كرب أسرة البواب المريض بكورونا، عرض من الشباب في شرق القاهرة لشراء مستلزمات المسنين أو المرضى أو أصحاب الاحتياجات الخاصة، والأمثلة لا أول لها أو آخر. لكن آخر ما يمكن تخيّله هو رمضان مصري من دون "كرتونة رمضان". هذه الكرتونة التي أصبحت متلازمة من متلازمات الشهر في العصر الحديث أصبحت بنداً رمضانياً تُقدَّر قيمته ببضع مليارات من الجنيهات التي يستحيل حصرها. جمعية خيرية واحدة أعلنت أنها توزع سنوياً نحو ربع مليون كرتونة رمضانية.
متلازمة الكرتونة
"كرتونة رمضان" صارت ركناً رئيسياً في أصغر وأكبر سوبرماركت. والمستحقون باتوا يبحثون عن الكرتونة الأرقى ذات المحتويات الأغلى. فالكرتونة التقليدية التي يشتريها الموظفون والموظفات تحوي سمناً نباتياً ومعكرونة رخيصة وأرزاً درجة ثانية وشاياً بلا سكر وتمر من دون قمر الدين، عكس الكرتونة خمس نجوم التي يشتريها سكان وساكنات المنتجعات المغلقة والأحياء الراقية، حيث لفافات قمر الدين والشاي المصحوب بأكياس السكر وأحياناً عسل النحل والمربى والسمن البلدي غير المخلوط. خلطة رمضان المصرية لم تخلُ عاماً – باستثناء العام الماضي- من زينة رمضان ودوراته الكروية. هذا العام، وعلى الرغم من صدور قرار رسمي بمنع إقامة الدورات الرمضانية سواء في الأماكن المفتوحة أو المغلقة، إلا أن الدورات الرمضانية في القرى والمناطق الشعبية تجري على قدم وساق. ربما لا يسمونها "دورة" لكنها كذلك. مجموعات الشباب والمراهقين تلعب مباريات وتشاهد وتشجع في قطعة أرض خالية أو في وسط شارع خلا من المارة، لكن تعلوه الزينات الورقية المصنعة بأيادي سكان الشارع أنفسهم. الزينات الورقية المصنوعة من بقايا الأوراق وخيوط رخيصة الثمن عادت بقوة في رمضان 2021. صحيح إنها قلما تتسلل من الشارع الجانبي إلى الرئيسي، أو من الحي الشعبي إلى الراقي، لكنها سمة الشوارع الضيقة والحارات ويسهل رصدها والتمتع بأجوائها الرمضانية البسيطة التي تعود بقوة على رغم أنف الوباء، ومن دون تكبد كلفة زينات تستوجب كهرباء أي فاتورة ملتهبة، أو تستلزم تصريحات أي دق على باب الحكومة في رمضان.