قبل أسابيع قليلة عرضت محطة "بي بي سي" البريطانية وثائقياً يتحدّث عن اكتشاف وإزالة بطاقات "واي فاي" كانت مخفية داخل علب كاميرات ذات دائرة مغلقة CCTV، تم نشرها في أحد مشاريع المدن الآمنة في لاهور بباكستان. مصدر الأجهزة كان شركة "هواوي" الصينية، والاستنتاج المباشر هو أن تلك البطاقات كانت ستسمح بوصول خارجي إلى نظام مراقبة المدينة الآمنة، وبتجاوز الشبكة الأساسية نفسها.
هذه الحادثة تمثّل نموذجاً عن طبيعة المخاطر التي أشعلت مخاوف دولية من أعمال شركة "هواوي،" عبّرت عنها الولايات المتحدة الأميركية. فالمتحدث الرسمي الإقليمي باسم وزراة الخارجية الأميركية، ناثان تك، ذهب في حديث مع "اندبندنت عربية" إلى حدّ الاتهام المباشر بقوله "لاحظنا في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أن الصين كانت وراء ما يسمى مجهزي الخدمات المسيطر عليها، بمن فيهم الذين يجهزون خدمات تخزين البيانات العالمية في جميع أنحاء العالم"، وأضاف أن ما فعلته الصين هو استخدام البيانات التي "سرقتها" من بعض أكبر الشركات الدولية من أجل تقديمها إلى شركاتها الخاصة ولمصلحتها الاقتصادية. ورأى أن حكومة بكين تتمتع بالقدرة بموجب قانون الاستخبارات الوطنية على إجبار أي شركة على التصرف بطريقة تخدم مصلحة "الحزب الشيوعي الصيني". وأوضح "علمنا أن هناك استخداماً للبيانات في الصين يتعارض مع حقوق الإنسان. ورأينا البيانات المستخدمة لتحديد درجات الائتمان الاجتماعية لإجراء مراقبة ضد المواطنين، ومن ثم استُخدمت هذه المعلومات لوضع أكثر من مليون مسلم من الأويغور في معسكرات إعادة التوجيه".
وفي ما يتعلق بالقدرات، قال "هناك قانون للاستخبارات الوطنية في الصين وقانون مكافحة الإرهاب وعدد من القوانين الأخرى التي تتضافر لتوفير سيطرة كاملة للحكومة الصينية على القطاع الخاص والشركات المملوكة للدولة".
هذه الاتهامات رفضتها شركة "هواوي"، فقد أكّد جو كيلي، نائب رئيس الشركة للعلاقات العامة والإعلام لـ"اندبندنت عربية"، أن "من الصعب علينا فهم الدوافع الحقيقية وراء الحملة على شركتنا، فالولايات المتحدة ليست لديها تجارب واقعية في مجال استخدام تكنولوجيا (هواوي) حتى يومنا هذا، وعلى الرغم من ذلك أعلنت على الملأ أننا نشكِّل تهديداً أمنياً لها!"، وأوضح أن "معظم دول العالم لديها تجارب ناجحة في العمل معنا والاستفادة من التكنولوجيا التي نقدّمها".
لكن ما يزيد الوضع خطورة بالنسبة إلى الشركة الصينية العملاقة، تساؤلات من حكومات غربية عما إذا كان ينبغي السماح لها ببناء شبكات الهواتف المحمولة في العالم من الجيل الخامس 5G، التي يجزم خبراء التكنولوجيا بأنها ستغيّر حياة الإنسان تغييراً جوهريا، فسرعتها الفائقة تسمح بالسيطرة على سيارات تقود نفسها، وبإجراء جراحات طبية من بعد، وتتسع قدراتها لتشمل جميع أوجه الحياة من مستشفيات وشبكات مواصلات ومنشآت توليد الطاقة. وهي مهيأة لتصبح جزءاً لا يتجزأ من البنية التحتية لجميع الدول. ويحذرون من أنه إذا تعطلت إحدى شبكات 5G أو أسيئ استخدامها، فستكون الآثار خطيرة على جميع مفاصل حياة الناس.
ويؤكد ذلك المتحدث الإقليمي باسم وزراة الخارجية الأميركية الذي يرى أن "الجيل الخامس من التقنية اللاسلكية سيشكل نقلة نوعية من خلال تجهيز المستهلكين والشركات باتصالات تكون أسرع 100 مرة من شبكات الجيل الرابع". وأشار إلى أن بلاده تودّ الاحتفاظ بفضاء إلكتروني آمن للأجيال المقبلة. وفي حديثه عن المخاطر دعا الدول التي توسّع البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الخاصة بها، إلى اعتماد إطار أمني قائم على المخاطر. وقال إن "أحد العناصر المهمة في هذا الأمر هو إجراء تقييم دقيق لسلسلة التجهيز وبائعي المعدات. فالتقييم يجب أن يؤدي إلى استثناء بائعي المعدات غير الخاضعين للرقابة أو الخاضعين لرقابة قوة أجنبية، إذ يمكن أن يتم توجيه طلب لهؤلاء البائعين بتقويض أمان الشبكة وسرقة المعلومات الشخصية وكذلك القيام بالتجسس وتوزيع الهجمات الإلكترونية وتعطيل البنية التحتية الحيوية". واعتبر أن أحد الأسباب المهمة التي تستدعي القلق هو وجود عدد من القوانين في الصين تلزم شركاتها بالتعاون مع أجهزة الاستخبارات والأمن بلا ضوابط قضائية مستقلة. وقال إن "الولايات المتحدة واستجابةً لهذا الخطر سنّت قانون تفويض الدفاع القومي في العام الماضي، الذي يحظر على الحكومة الأميركية استخدام معدات أو خدمات من بعض الشركات عالية الخطورة المرتبطة بالصين أو المملوكة لها أو التي تسيطر عليها. ولا تخطط أي شركة لاسلكية أميركية كبرى لاستخدام معدات شركة (هواوي) أو (زد تي إي ZTE) في بناء شبكة الجيل الخامس الخاصة بها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتحاول "هواوي" عزل الموقف الأميركي عن باقي دول العالم. ويوضح نائب رئيسها، جو كيلي، أنه "في مجال شبكات الجيل الخامس، وعلى الرغم من الضغوط الأميركية نجحت الشركة في توقيع 40 عقداً تجارياً لتركيب شبكات، وشحن أكثر من 70 ألف محطة اتصالات أساسية لشبكات الجيل الخامس إلى العملاء في جميع أنحاء أوروبا والشرق الأوسط ودول في آسيا". ويورد أمثلة عن بلدان أوروبية قال إنها لا ترى ما تراه الولايات المتحدة في شأن "هواوي"، ويوضح "رئيس وزراء إيطاليا جوزيبي كونتي طمأن شركتنا إلى أنها لن تتعرض إلى أي شكل من أشكال التمييز فيما يتعلق بتركيب شبكة اتصالات الجيل الخامس الإيطالية"، وأضاف أنه "قبل نحو أسبوعين، أعلن (مركز بلجيكا للأمن الإلكتروني) أنه لم يتوصل إلى دليل حول احتمال استخدام أجهزة الاتصال التي تورّدها (هواوي) لأغراض التجسس". وكانت قد أُسندت إلى هذا المركز، الذي يرفع تقاريره مباشرةً إلى رئيس الوزراء البلجيكي، مهمة تقييم التهديد المحتمل الذي تشكله "هواوي"، التي تورّد معدات إلى شركات الهواتف المحمولة البلجيكية: "بروكسيمس" و"وأورانج بلجيكا" و"تلي نت".
ويعزو خبراء في الأمن السيبراني الحذر من "هواوي" إلى شكوك حيال الصين نفسها، وليس تحديداً بسبب إجراءات معينة من جانب الشركة. ويسلط هؤلاء الضوء على تاريخ الصين في مجال القرصنة وسرقة الأسرار التجارية وسجلها السيئ في مجال حقوق الإنسان والرقابة على الإنترنت، وقواعد الأمن السيبراني الصينية التي تفرض على مشغّلي الشبكات الدفاع عن الأمن القومي الصيني.
ويرفض "كيلي" ذلك بالتأكيد ويشدد على أن "هواوي" على مدار أكثر من 30 عاماً من العمل وتقديمها الدعم والخدمات لأكثر من ثلث سكان العالم، لم تشكّل خطراً أمنياً على أي شخص أو مؤسسة. ويقول إن "إيرادات شركتنا واصلت التحسن بحيث تجاوزت 100 مليار دولار، إضافة إلى توسّع نطاق أعمالنا ضمن مجالات جديدة، لا لشيء إلا لأن العملاء والحكومات الذين يتعاملون معنا يثقون بنا وبريادة تقنياتنا وحلولنا ومنتجاتنا".
وتجاهد الشركة الصينية للحفاظ على وجودها القوي في العالم. ففي كندا وعلى الرغم من توقيف المديرة المالية للشركة، منغ وانزهو، المطلوبة في الولايات المتحدة بتهمة ارتكاب أعمال احتيال مصرفية لمساعدة مصالح الشركة في إيران، ومن ثم الإفراج عنها بكفالة، أكدت "هواوي" في فبراير (شباط) توسيع عملياتها هناك معلنة عن نحو 200 وظيفة جديدة لتضم أصحابها إلى فريقها في كندا، بزيادة مقدارها 20% في القوة العاملة لديها في البلاد. وقالت إنها ستزيد استثماراتها في البحث والتطوير الكنديين بنسبة 15%، بناءً على استثمارات بقيمة 136 مليون دولار خصصتها في العام 2018.
أما في أوروبا، فقد لا يكون من السهل التخلي عن "هواوي"، خصوصاً بعدما أصبحت أكبر سوق للشركة خارج الصين. وتعتبر معداتها جزءاً أساسياً من البنية التحتية اللاسلكية في القارة. وقد أنفقت الشركة التي تأتي في المركز الخامس عالمياً في مجال الإنفاق على البحث والتطوير، مئات ملايين الدولارات على أبحاث 5G، كما يقول نائب رئيسها وضخت استثمارات بقيمة 15 مليار دولار، وفتحت مراكز اختبار في بريطانيا وألمانيا وبولندا. وطرحت وظائف مهمة في سوق العمل. لكن في بريطانيا، حيث توظف الشركة 1500 عامل، لم يشفع لها التزام أخذته على عاتقها بإنفاق 3 مليارات جنيه إسترليني (3.8 مليارات دولار)، للتوسع في المملكة المتحدة على مدى 5 سنوات، فقد حددت السلطات دورها في تأسيس الجيل الجديد من قطاع الاتصالات الإلكترونية، وحصرته بأجزاء غير أساسية، مثل الأبراج والهوائيات، مانعة إياها من العمل في المفاصل الحيوية حيث تُخزّن المعلومات الحساسة.
على المستوى العالمي، أنفقت "هواوي" في الأعوام العشرة الماضية، ما يزيد على 70.5 مليار دولار على البحث والتطوير. ووفقاً للبيانات الرسمية الصادرة من "المنظمة العالمية للملكية الفكرية"، سجلت الشركة قرابة 5.405 براءات اختراع في مؤسستها في العام 2018، لتحل في المرتبة الأولى عالميا.
واليوم في مجال تقنية الجيل الخامس، تقول "هواوي" بلسان نائب رئيسها إنها تسبق منافسيها بفترة زمنية تتفاوت ما بين 12 و18 شهرا. "وربما يمثل هذا المستوى من التقدم تهديداً للبعض" على حدّ قوله. أما النقطة الوحيدة التي اتفق فيها كيلي مع المتحدث الإقليمي الأميركي فهي أنه لا يوجد في الولايات المتحدة أي مورد محلي للمحطات الأساسية لشبكات الجوّال. وأن المنافسة هي بين "هواوي" وشركات أجنبية أخرى، مثل "إريكسون" و"نوكيا" و"سامسونغ".
يبقى السؤال عن حقيقة ملكية شركة "هواوي"، التي لم تقم أبداً على مدى أكثر من 3 عقود من وجودها، ببيع أسهمها للجمهور. وتردّ الشركة بأن أسهمها مملوكة بكاملها لموظفيها، وأنه لا ملكية لأي مؤسسات أو منظمات تابعة للحكومة الصينية فيها. وبرهاناً على استقلاليتها عرضت كتاباً أزرق كبيراً وُضع في مقر الشركة في مدينة Shenzhen أدرجت ضمن مجلداته العشرة، أسماء جميع موظفيها. هذه التأكيدات لا تبدد شكوك المسؤولين الأميركيين الذين يعتبرون بكين و"الحزب الشيوعي" يديران "هواوي" من خلف الستارة، وأن نجاحها بُني على العلاقات الوطيدة بين مؤسسها رين زنغفاي والاستخبارات في الصين، ويرى هؤلاء وجوب وضع قيود تقنية على الشركة لعدم السماح للصين بالتحكم بالجيل الخامس من الاتصالات في العالم.