مذ حصولها على جائزة "الأسد الذهب" في الدورة الماضية من مهرجان البندقية السينمائي، كان متوقعاً أن تفوز المخرجة كلويه زاو بـ"أوسكار" أفضل فيلم عن عملها "نومادلاند" ("أرض الرحّل") الذي لاقى استحساناً نقدياً في بعض الأوساط، في حين استقبله آخرون بحماسة محدودة. وهذا يعني أن الفيلم المتوج في حفلة الأكاديمية الثالثة والتسعين، لم يكن محل إجماع بل شهد نقاشاً حاداً. حتى أنه تحوّل أحياناً وسيلة للمزايدات السياسية. فنحن أمام عمل سينمائي "صعب" بالمفهوم التجاري، غير جماهيري، يحمل المُشاهد إلى بيئة اجتماعية لا نراها عادةً في الأفلام الأميركية؛ بيئة الناس البسطاء الذين يعيشون في الفقر والحاجة. المناهضون لسياسة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب وجدوا في هذا الفيلم انعكاساً لزمنه المضطرب. كثر اعتبروا أن الفيلم يعبّر عن "الركود" في عهد ترمب، أما "أبطاله" من المهمشين والمنسيين وسكّان المقطورات المركونة على قارعة الطرق، فليسوا سوى الوجه الخفي لأمة عملاقة تسيطر بقراراتها السياسية على العالم أجمع، ولكن أحداً لا يعرف تفاصيل البؤس الاجتماعي الذي في الداخل.
مع كلويه زاو التي نالت أيضاً جائزة أفضل مخرجة لتصبح بذلك أول مخرجة آسيوية تنال هذه الجائزة في التاريخ، وجدت الأكاديمية فرصة جديدة لرد الاعتبار إلى هؤلاء الناس، كما أنها وجدت فرصة لتتويج امرأة تتحدر من إحدى الأقليات العرقية، النهج الذي كانت الأكاديمية قد قررت المضي فيه بوضوح، بعد عدة حملات ضدها أشهرها "الأوسكار ناصعة البياض"، الحملة التي عابت على الجائزة الهوليوودية المرموقة إقصاء الأميركيين من أصول أفريقية.
سينما المؤلف
وزاو التي لم تبلغ بعد الأربعين من العمر مولودة في بيجينغ. على الرغم من أصولها، فهي لم تنجز سوى أفلام أميركية. انطلقت في السينما مع "أغاني علّمني أشقائي" قبل خمس سنوات، الذي شارك في مهرجان "ساندانس" المتخصص بالسينما المستقلة. يحكي الفيلم عن العلاقة بين أخ وشقيقته الأصغر. "المتسابق"، عمل ينتمي إلى نوع الوسترن وصوّرته في أراضي داكوتا الشاسعة، تجربتها الإخراجية الثانية، وقد استقبلها النقّاد بحفاوة بعدما اختاره مهرجان كانّ في قسم "أسبوعا المخرجين".
"نومادلاند" هو فيلمها الروائي الطويل الثالث، وها أنها تحقق وهي في مقتبل تجربتها المهنية والفنية، ما لم يحققه كبار السينمائيين في التاريخ، من ألفرد هيتشكوك إلى ستانلي كوبريك، أي نيل جائزة أفضل إخراج، علماً أنها نالت أيضاً جائزة لها قيمتها في البندقية في أيلول (سبتمبر) الماضي، حيث كانت صاحبة أحد الفيلمين الأميركيين الوحيدين اللذين شقّا طريقهما إلى المسابقة في دورة غاب فيها الأميركيون.
"نومادلاند" لا يحمل فقط توقيع زاو كمخرجة، بل هي كاتبته ومنتجته ومونتيرته، أي أنه ينتمي إلى سينما المؤلف بالكامل. ولكن، لا يمكن الحديث عن هذا الفيلم من دون الحديث عن الممثّلة الكبيرة فرانسز ماكدورماند (التي فازت بثالث "أوسكار" لها مع هذا الفيلم). تلعب ماكدورماند دور فرن امرأة محطّمة تترك خلفها كلّ شيء، لتختار الطريق حيزاً جديداً لحياتها ما بعد الستين ومغامراتها. فرن اضطرت لحزم أمتعتها بعدما أقفلت الشركة التي كانت تعمل فيها أبوابها. صعدت في شاحنتها وذهبت لاكتشاف "الحياة الأخرى"، تلك الحياة الموازية التي تتبلور خارج الأطر الاجتماعية التقليدية الجامدة. حياة الناس الذين لا يملكون شيئاً، بالمفهوم الرأسمالي.
بعد دورها في "ثلاث يافطات خارج إيبينغ، ميزوري" لمارتن ماكدونا الذي كانت فازت عنه بثاني "أوسكار" في حياتها، تواصل ماكدورماند استكشاف أميركا المهمّشة، أميركا تلك المتروكة لمصيرها، من دون رعاية أو دعم من السلطات. أميركا التي لا تمثيل كبيراً لها على الشاشة. طبعاً، نحن حيال فنّانة كبيرة سبق أن أثبتت طاقاتها التمثيلية في عدد من الأفلام بدءاً من "فارغو" الذي فازت عنه بـ"أوسكارها" الأول. فهي تخترق هنا الشاشة وما كان ممكناً إنجاز هذا الفيلم من دونها.
الغرب الأميركي
زاو وضعت السيناريو، لكنها استلهمته من أصل أدبي في عنوان "نومادلاند: البقاء على قيد الحياة في أميركا القرن الحادي والعشرين" الذي نُشر قبل ثلاث سنوات. يوثّق الكتاب الذي ألفته جسيكا برودر واقع العمّال الأميركيين الذين بلغوا عمراً معيناً وما زالوا يتجولون في البلاد كرحّالة بحثاً عن عمل يعيلهم ويوفّر حاجاتهم، ومعظم هؤلاء أصبح في هذه الحالة بعد الركود الاقتصادي الذي عانت منه أميركا بقوة في عام 2008.
مَن يقول "فيلم طريق" لا بد أن يفهم "مناظر"، و"نومادلاند" مشبّع بطبيعة الغرب الأميركي، وهذا يموضعه في إطار نوع سينمائي تفوق فيه الأميركيون نظراً لجغرافيا بلادهم المتنوعة وطبيعتها اللتين تتيحان المجال لهذا النوع من المغامرات التي نعرف أين تبدأ لكن نجهل أين قد تنتهي. ولإضفاء المزيد من الطابع الوثائقي على الفيلم، لجأت المخرجة إلى الاستعانة بعدد من الرحّالة الحقيقيين مثل ليندا ماي وسوانكي وبول ولز الذين سيكونون بمثابة رفاق درب فرن في رحلتها الاستكشافية لعمق أميركا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"الأب" للمخرج الفرنسي فلوريان زيلر سمح للممثّل البريطاني الكبير أنتوني هوبكينز أن ينال ثاني جائزة "أوسكار" في حياته بعد دوره الأسطوري في "صمت الحملان" قبل أكثر من 25 سنة. هوبكنز أدهش العالم بدور رجل عجوز يُدعى أنتوني مصاب بالألزهايمر. يحمل هوبكينز النص المسرحي على كتفيه، ويعطيه شكلاً سينمائياً خالصاً بعيداً من المسرح، ويفكك دواخل النفس البشرية، مضيفاً إلى "الكاركتير" طبقات من خبرته التمثيلية العميقة. هذا دور لن يكون من السهل محوه من الذاكرة كما عدد من أدواره السابقة. هوبكينز في "الأب" رجل في الثمانينيات من العمر يعيش اضطراباً مزمناً وفقداناً تدريجياً للذاكرة وأثار العيش البعيد. الأماكن والذكريات تتداخل في رأسه ليضع هذا كله الرجل في حيرة وضياع. الفيلم نال أيضاً أفضل سيناريو مقتبس.
"نومادلاند" و"الأب"، عملان عن الاضطراب سواء النفسي أو الاجتماعي، وفوزهما يقول الكثير عن الرسالة السياسية التي أراد المصوتون إيصالها إلى العالم.
ختاماً، ينبغي التوقّف عند عملين يستحقان الإشادة: الفيلم الدنماركي الذي فاز بجائزة أفضل فيلم دولي: "سكر" إخراج توماس فينتربرغ. والتحفة البصرية التي استحقت بجدارة جائزة "أفضل فيلم تحريك": "روح" لبت دوكتر. عملان يتفوقان بصرياً وفنياً على سائر الأعمال التي تسابقت هذا العام في حفل باهت لم يكن على مستوى السنوات الماضية.