بين الشوارع الجانبية المزدحمة في حي سيمابوري بشرق دلهي، هناك أرض قديمة لحرق الموتى كانت مخبأة بعيداً وراء الأشجار، والآن بات من الممكن رصد الحركة الكثيفة فيها من بعيد من خلال سحابة كثيفة من الدخان تتصاعد على مدى اليوم.
وأغرقت الطرقَ المجاورة أكواخٌ صغيرة أقيمت لتخزين الخشب اللازم لعمليات الحرق، وكذلك صفوفُ سيارات الإسعاف التي تصل مع مزيد من الجثث كل بضع دقائق.
وتنعكس قفزة النشاط في محرقة سيمابوري في ساحات جنائزية أخرى بدلهي، الواقعة في قبضة الموجة الثانية المدمرة من "كوفيد-19" التي شهدت وفاة أكثر من 400 شخص كل يوم في العاصمة على مدى الأيام الأربعة الماضية. وتُعتبر هذه الأرقام الرسمية أرقاماً مخففة إلى حد كبير.
فالإثنين، عندما زارت "اندبندنت" موقع الحرق، كانت هناك 12 كومة تُحرق بتزامن. وأينما ينظر المرء فثمة جثة ملقاة على الأرض ومغطاة بقطعة قماش بيضاء، في وقت تنتظر فيه العائلات دورها في حرارة دلهي الحارقة في مايو (أيار).
وتأتي بأغلب الجثث إلى الموقع مجموعة من المتطوعين الذين يساعدون السكان في حرق أحبائهم بكرامة، إذ إن العديد من المحارق في المدن الأكثر تضرراً في الهند إما ترد الناس على أعقابهم [ترفض استقبال الجثث]، أو تشهد طوابير تستمر لأكثر من يوم.
ويقول جيتندر سينغ شونتي من "بهاغات سينغ سيوا دال"، وهي منظمة غير حكومية تساعد الناس في عمليات الحرق، "كنا نستقبل ما بين ثماني إلى 10 جثث قبل يوم، والآن نتلقى 10 أضعاف ذلك، ويصل العدد أحياناً إلى 110 جثث أو 120 جثة في اليوم." وبينما يتحدث، يقول أن جثتين أخريين في طريقهما إلى الموقع.
وأحرقت منظمته 31 جثة ذلك اليوم في غضون أربع ساعات فقط. وفي حين يساعد عائلة وصلت مع جثة الوالد البالغ من العمر 59 سنة، يتلقى مكالمة أخرى من سائق سيارة الإسعاف الخاصة بمنظمته الذي كان يجلب جثة من منطقة كايلاش الكبرى جنوب دلهي. وفي غضون دقائق تصل جثة أخرى من غرين بارك.
يقول أحد العاملين، "يستغرق حرق الجثة الواحدة ساعة أو ساعتين. ونبذل قصارى جهدنا حتى لا نرد أحداً على عقبيه، لكننا لم نر قط مثل هذا العدد الكبير من الجثث المقبلة".
وخارج البوابة، في خيمة مؤقتة، يعلن رجا هاشمي، وهو عضو آخر في المنظمة غير الحكومية، أن الناس يحتاجون إلى أخذ رمز والانتظار، بينما يسلم الجميع قارورة مياه.
ويقول شونتي الذي يساعد الناس في أداء الطقوس الأخيرة منذ أكثر من عقدين من الزمن، "إنه نظام جديد توصلنا إليه عندما رأينا عدد الجثث يرتفع. لم نكن نريد للناس أن يتقاتلوا على من سيدخل أولاً. يعمل موظفونا لمدة 16 إلى 17 ساعة على الأقل كل يوم. وما دامت هناك عائلة تقف في الخارج، نعمل هنا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتتخلى المحارق عن تقاليد معينة وبعض الإجراءات المرتبطة بـ "كوفيد-19"، إذ تعاني للتعامل مع القفزة. فعلى بعد بضعة كيلومترات فقط من سيمابوري، كانت أرض غازيبور للحرق أيضاً تشهد أشخاصاً يصطفون في طوابير لحرق موتاهم.
لكن الأرقام الحكومية في العديد من المدن المتأثرة إلى حد كبير تفشل في رصد الألم الحقيقي. فقد ظل سكان المدينة يكافحون من أجل البقاء مع استمرار النقص الحاد في الأسرة والأوكسجين والعقاقير، ومع امتلاء مدافن المدينة ومحارقها في شكل مفرط.
ويقول شونتي إن منظمته غير الحكومية أُنشئت لتسهيل حرق هؤلاء الذين تخلت عنهم عائلاتهم، لكنها تساعد الجميع أثناء "كوفيد-19". غير أنه يقول إن عدد الأشخاص الذين جرى التخلي عنهم في دقائقهم الأخيرة هو أيضاً شيء لم يره قط على نطاق هائل كهذا.
ويقول، "أحرقنا أكثر من 250 جثة، إذ لم يكن أحد من العائلات حاضراً لأسباب عدة. في بعض الأحيان يكون السبب أن كل أفراد العائلة يحصلون على نتائج موجبة في الفحص، وربما يرجع ذلك في بعض الأحيان إلى أنهم لا يريدون الدخول في متاعب البحث عن مساحة لحرق الجثث."
"نأتي بجثث في عربات بخارية، بل وحتى عربات كهربائية، لأن الأقارب لا يستطيعون الحصول على سيارة إسعاف. ويموت بعض الناس في حين تبحث العائلة عن مستشفى أو على الطريق، ويموت العديد من الناس أيضاً في الحجر الصحي المنزلي، ناهيك عن عدم وجود أي شخص يتولى رعايتهم، ونجلبهم إلى هنا".
ويضيف، "كذلك يجلب بعض الناس الجثة من المشرحة لكنهم يتركونها هنا أمامنا. وأنا لا أدري لماذا، ربما يكونون خائفين، أو أنهم لا يبالون بالشخص الذي مات".
وبالقرب من البوابة الخلفية للمحرقة في مسار ضيق، جلس اثنان يعملان بأجر يومي في انتظار دورهم. ويقول أحدهم، واسمه رام لال، إن صديقه مات بعد إصابته بالحمى. وهو لا يعرف ما إذا كان السبب "كوفيد-19"، فصديقه لم يخضع لفحص على الإطلاق، لكنه كان واحداً من هؤلاء الذين وصلوا في عربة تحمل جثة، من دون أي قناع أو معدات للوقاية الشخصية.
ويبقي متطوعو شونتي معهم مخزوناتهم من الأقنعة والمطهرات بهدف توزيعها على أولئك الذين يصلون مع الجثث.
وقال أحد الأشخاص الذي كان يساعد في إحضار جثة على نقالة، "في بعض الأحيان قد يكون الناس في حال حداد وينسون الخطر. نحاول أن نساعدهم لكن من الصعب ضمان ارتداء كل شخص يكون في حداد كمامة".
وفي حين يساعد شونتي وفريقه الآخرين، جاءت فحوص عائلته في المنزل بنتائج إيجابية، ويعاني أحد مديريه للبقاء على قيد الحياة في وحدة للعناية المركزة.
يقول، "لم أعد إلى منزلي في الأيام الأربعة الأخيرة، فأنا أنام هنا في سيارتي". ومع ذلك، ووسط الرعب، يأمل بانخفاض عدد الجثث قريباً.
"إنها تجربة مروعة، ولاسيما رؤية جثث الموتى من الشبان"، يقول موضحاً إنه مع حجم الأزمة التي تواجهها المدينة، لم يعد أمامه هو وغيره من المتطوعين في المحرقة أي خيار غير أن يبلدوا مشاعرهم إزاء ما يشهدون.
"نعمل بما يشبه الطيار الآلي،" يقول.
© The Independent